كأن الحادث المفجع والموجع الذي ذهب ضحيته شاب فرنسي في مقتبل العمر من أصول جزائرية ووحيد والدته برصاص شرطي، عند نقطة مراقبة مرورية في ضاحية نانتير غرب العاصمة الفرنسية وهز قلوب ملايين البشر عبر العالم صباح يوم الثلاثاء 27 يونيو 2023، لا يعني في شيء الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، الذي التقطته عدسات الكاميرات يرقص رفقة زوجته "بريجيت ماري كلاود" على أنغام حفلة موسيقية للمطرب الإنجليزي "إلتون جون" ليلة الأربعاء 28 يونيو 2023 بالعاصمة باريس، وفق ما هو موثق في شريط فيديو تم تناقله على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي. وهو ما أثار حفيظة عدد من النشطاء والإعلاميين، الذين انتقدوا بشدة انشغال الرئيس ماكرون بحفل موسيقي في وقت تشتعل فيه مختلف أنحاء البلاد بالاحتجاجات الصاخبة، المنددة بمقتل ذلك الشاب المسمى قيد حياته "نائل المرزوقي" والبالغ من العمر 17 ربيعا. وهو الأمر الذي اضطر معه الرئيس ذاته في وقت لاحق إلى التعجيل بعقد اجتماع طارئ مع كبار الوزراء يوم الخميس 29 يونيو 2023، في محاولة يائسة لاحتواء الأزمة المتفاقمة، فيما سارعت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن إلى مواجهة أعمال العنف من خلال نشر مدرعات لقوات الشرطة في مختلف الشوارع الشعبية والرئيسية. وعلى الرغم من أن جثمان الفتى نائل شيع في محفل مهيب يوم السبت فاتح يوليوز 2023 مخلفا وراءه حزنا عميقا في القلوب، فإن الاحتجاجات التي اندلعت شرارتها الأولى بعيد مقتله برصاصة الغدر في الصدر، مازالت متواصلة على إيقاع ترديد اسمه من قبل آلاف المتظاهرين، الذين يرفضون بشدة مثل هذه المعاملات السيئة تجاه الشباب من أبناء وأحفاد مهاجري شمال إفريقيا وغيرهم من العالم العربي... إذ بغض النظر عما يكون أقدم عليه الضحية من تصرف غير لائق أو عما إذا كانت قيادته لسيارته تشكل خطرا كما أعلنت عن ذلك السلطات الأمنية، فإنه لا يبرر إشهار السلاح في وجهه وإطلاق النار عليه ببرودة دم. فأين نحن مما ظلت فرنسا تتبجح به من شعارات براقة عن "الحرية والمساواة والأخوة" ومن كونها نموذجا عصريا للتعايش الإنساني، أمام ما بتنا نسجله من ميز عنصري وانتهاك للقوانين؟ ففرنسا التي يفترض أنها مهد حقوق الإنسان، سبق أن أدانتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في عام 1999 بسبب التعذيب وفق ما أشار إليه تقرير صادر عن "بي بي سي"، إثر اعتداء الشرطة الفرنسية جنسيا على شاب من أصل شمال إفريقيا، كما أن "هيومن رايتس ووتش" أفادت في وقت سابق عام 2012 بأن "نظام التحقق من الهوية مفتوح للانتهاكات من قبل الشرطة الفرنسية، وتنطوي هذه الانتهاكات أحيانا على الإساءة الجسدية واللفظية". وفي هذا الصدد يشار أيضا إلى أن منظمة المدافعين عن الحقوق، كانت قد أصدرت تقريرا عن الممارسات العنصرية في فرنسا، كشفت فيه عن أن الشباب من السود أو من أصل شمال إفريقيا هم الأكثر عرضة لعمليات التحقق من قبل الشرطة بنسبة 20 مرة مقارنة مع باقي السكان، معتبرة ذلك شكلا من أشكال التمييز المنهجي. إذ أنه بمقتل الشاب "نائل" ظهرت عدة مظالم بخصوص التنميط العنصري وعنف الشرطة، التي اتضح أنها قتلت 13 شخصا بالرصاص عام 2022 أثناء توقيف مروري، وأبانت أرقام أخرى من وكالة رويترز عن أن غالبية الضحايا من السود أو من أصول عربية، مما دفع بمكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى القول بأن ما يجري في فرنسا من اضطرابات على خلفية الجريمة الشنعاء الأخيرة، يمثل فرصة ذهبية لفرنسا في "معالجة القضايا العميقة للعنصرية في تطبيق القانون". فمقتل الفتى "نائل" يعد بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس، حيث أن ما تعيش فرنسا على إيقاعه هذه الأيام الأخيرة من شهر يونيو ومطلع يوليوز من فوضى هائلة، هو نتاج ما تراكم من غضب واحتقان ليس فقط في أوساط المهاجرين وذوي الأصول الإفريقية، بل حتى من طرف فئات أخرى من المجتمع الفرنسي تريد تصفية حساباتها مع الرئيس ماكرون وحكومته، حيث توحد أصحاب السترات الصفراء مع اليمين المتطرف الحاقد على الأجانب والمسلمين بشكل خاص، بالإضافة إلى العمال الذين نظمت نقاباتهم العمالية تظاهرات وإضرابات عامة للمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية، وموظفي الدولة الذين مازالوا ينددون بقانون التقاعد الذي تم تمريره قسرا وضد إرادتهم... إن الجمهورية الفرنسية مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مراجعة سياساتها وقوانينها، واستخلاص العبرة من هذه الأحداث الخطيرة التي ما انفكت دائرتها تتسع في اتجاه المرافق الحيوية، وتواصل أعمال التخريب والحرائق في المدن الفرنسية، وما رافق ذلك من مظاهر نهب للمحلات التجارية وسرقة المؤسسات البنكية، والاعتداء بشتى الوسائل على الممتلكات العامة والخاصة، فضلا عن إضرام النيران في مئات السيارات والحافلات والمباني الحكومية وغيرها، في ظل الانفلات الأمني والمواجهات العنيفة بين المتظاهرين والشرطة، التي أدت إلى اعتقال مئات المحتجين والإصابات المتفاوتة الخطورة في الجانبين، وفرض حظر التجول كلي أو جزئي أثناء الليل في عدد من المدن حول باريس. فلترقد روح الفتى نائل شهيد العنصرية الفرنسية المقيتة بسلام، في انتظار أن يقول القضاء كلمته وينصف والدته المكلومة.