استقالة كثير من الناس من السياسة وانسحابهم من المشاركة في توسيع نطاقها واكساب العمل العام المدى والامتداد، وإصرارهم على ممارسة سلطتهم (كمجتمع) ضد أوضاع فرضت عليهم (كما يحصل الآن في عديد من الملفات الفئوية)، له معنى واحد وهو: انعدام ثقتهم بكثير من مؤسساتهم التمثيلية الوطنية وأدوات الفعل السياسي والمواطني، وافتقادهم لمصداقية ما يصدر من قرارات، وخيبتهم من تجارب ووعود كانوا ينتظرون منها الكثير، ويعولون عليها الكثير أيضا. ولو سئلت من أين نبدأ؟ لقلت على الفور: نبدأ من استرداد هذه الثقة الغائبة، ومن إقناع المواطن، بالفعل والممارسة والنموذج، أن مؤسساتنا ما تزال بخير، وأن ما نصدره من قرارات نابع من حاجة الناس وطموحهم، وما نشهره من أرقام وخطط واستراتيجيات، وما نفكر به من أجندات لن يكون لغايات التجميل وتمرير الضغوطات والاستجابة لمرحلة ما، عابرة من المستجدات، ولن يظل -أيضا- حبرا على ورق، ومجرد تنظيرات تمارسها النخب المختارة داخل الغرف المغلقة، ولكنه استجابة لما يريده الناس، وما يحتاجه المجتمع، وهو -بالتالي- سيخضع للمراقبة وسيجد طريقه للتنفيذ وسيحاسب من يقصر في تجسيده وترجمته وسيترك للداخل حرية مناقشته وانتقاده والتعديل عليه أو رفضه.. إذا اتفقنا على ذلك، لا يوجد ما يمنع السياسي –كيفما كان موقعه- من مصارحة الناس بالمخاضات والخيارات المسكوت عنها والإكراهات والمحدوديات والامكانيات والاحتمالات التي تعتمل داخل البلد والإقليم، أو التحديات التي تواجهنا وكيفية التعامل معها في المدى المنظور. كما لا يوجد ما يمنع الحكومة وأجهزتها من الوصول إلى الناس، لإقناعهم والتأثير في مواقفهم السلبية، فغياب الثقة ولا جدوى المشاركة هو الذي يدفع الكثيرين إلى العزوف عن الفعل والكلام، كما أن الاعتماد على بعض الممثلين التقليدين للناس في كل مناسبة باعتبارهم مفاتيح الحل والتأثير يجب أن يأخذ طريقا آخر، فعناوين القوى الفاعلة في المجتمع معروفة وتنتظر من يدعوها إلى الحركة، ونماذج الاعتدال السياسي والديني، تبحث هي الأخرى عن فرصة لممارسة دورها الوطني في مواجهة مخاوف التشدد وتنظيف التربة من أشواك التكفير السياسي والتبذير الطبقي والتنفير النخبوي. لا يحتاج أحد إلى هدنة مع أحد، فالجميع شركاء في تحمل مسؤولية الراهن والمستقبل، وغياب أي طرف أو اقصاؤه أو تجميده يعني أن ثمة خللا ما في المعادلة، وأن الطريق غير سالكة نحو تمتين الجبهة الداخلية.. وهذا غير مبرر بالطبع، لسبب بسيط وهو أن الذين يقفون في الطرف الآخر من المشهد ليسوا أقل من الآخرين إيمانا ببلدهم، وحرصا عليه، وتضحية من أجله، وإن اختلفت الوسائل والاجتهادات أو الأفكار والتوجهات. على الطرف الآخر، فان انقطاع الذبذبات التي تصدر غالبا من المجتمع، سواء من أعماقه أو من أطرافه، من البسطاء فيه أو ممن يمثلونه مسألة تستحق التأمل والتفكير، فالانسدادات الاجتماعيه غالبا ما تعبر عن حالة من الانسدادات السياسية، وغياب صوت الناس أو انسحابهم من العمل العام، وعزوفهم عن السياسة واعتذارهم عن التعليق في الشأن الوطني كثيرا ما يشير إلى جملة من المكبوتات أو الاعتراضات.. لكن الأسوأ من ذلك أن يعبر عن شعور باللامبالاة والكسل واستواء الخيارات أو إحساس بالغربة ولا جدوى الكلام. لا نريد أن نسأل: لماذا يحدث ذلك؟ فالقضايا المطروحة تكفي للإجابة عن ما يعتمل في أذهان الكثيرين من استفهامات، ولكننا نتمنى أن نتصارح بحقائق تمس وجودنا ومستقبل بلدنا وأن نضعها على أرضية حوار وطني حقيقي يشارك فيه الجميع، وحبذا لو كان بعيدا عن الأضواء والإعلام، لنخرج بمجموعة من الجوامع والمشتركات التي يمكن أن تشكل معالم واضحة لبوصلتنا، أو وصفات دقيقة لما يواجهنا من أمراض وأخطار. لا أحد في بلادنا يخفي إحساسه بالخطر الذي يحيط ببلدنا، والتحديات التي تواجهه، والمرحلة الحساسة والغامضة التي تمر به، لكن ثمة من يميل إلى التهوين من ذلك والتعامل معه من منطلق التذاكي والفهلوة والرهانات المغامرة غير المحسوبة، وثمة من يحاول أن يهوله وينفخ فيه لحشد الناس على قواسم غير واضحة وبآليات غير مقنعة، كما أننا لا نعدم من يحاول الاستئثار بكافة الملفات، وحتى التعامل معها من منطلقات شخصيه.. وهكذا فالغائب هو الإجماع المجتمعي. أو إن شئت الحوار الوطني والجدل السياسي القادر على فرز الحقائق والتعامل معها بمسطرة المصلحة الوطنية.. بعيدا عن التهوين أو التهويل. إلى أين تتجه بوصلتنا.. وما هو الاتجاه الذي نريده.. وهل يمكن لأحد أن يراهن على خيارات بعيدة عن الناس وما ينتظرونه من تسويات اجتماعية وحوافز وطنية وقناعات داخلية لتقوية صفهم الداخلي.. أم أن القضايا المطروحة، محسومة كانت أم معلقة، ما تزال مرتبطه بقرارات معزولة عن الناس.. ووفق رؤية نخب لا يمكن مهما اتسمت بالغيرة على البلد ومصالحه -أن تصل إلى الإجماع الشعبي ما لم تتغلغل داخله وتصدر منه. أقل ما يمكن أن نفعله، مع الاحترام لكل ما نسمعه، هو أن ندفع الكثيرين من نخبنا وزعاماتنا الوطنية ومسؤولينا الأسبقين ومن يمثل المجتمع حقيقة إلى المشاركة في هذا المخاض الذي تمر به بلادنا، ومنطقتنا، وأن نسمع منهم ما يفكرون به.. ونبحث لديهم عن إجابات ما تزال غائبة نحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى.. فهل ستصل الرسالة ؟ وهل ستجد من يستقبلها ويفكك ذبذباتها ويفهمها على حقيقتها؟ لنرى وننتظر وكلنا أمل.