دبي تطلق خدمة التوصيل بالطائرات بدون طيار الأولى من نوعها في الشرق الأوسط    كيفية تثبيت تطبيق الهاتف المحمول MelBet: سهولة التثبيت والعديد من الخيارات    والي بنك المغرب يعلن الانتهاء من إعداد مشروع قانون "العملات الرقمية"    "هيئة تحرير الشام" تخطط للمستقبل    8 قتلى في حادثتين بالحوز ومراكش    27 قتيلا و2502 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    فينيسيوس أفضل لاعب في العالم وأنشيلوتي أحسن مدرب    بنك المغرب يخفض سعر فائدته الرئيسي إلى 2,5 في المائة    قطاع الطيران... انطلاق أشغال بناء المصنع الجديد لتريلبورغ    جوائز "الأفضل" للفيفا.. البرازيلي فينيسيوس يتوج بلقب عام 2024    تشييع رسمي لجثمان شهيد الواجب بمسقط رأسه في أبي الجعد    المغرب والسعودية يوقعان بالرياض مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في مجالات التحول الرقمي الحكومي    القنيطرة.. افتتاح معرض لإشاعة ثقافة التهادي بمنتوجات الصناعة التقليدية    صحيفة 'لوفيغارو': المغرب يتموقع كوجهة رئيسية للسياحة العالمية    إحصاء 2024: الدارجة تستعمل أكثر من الريفية في الناظور    الرباط.. انعقاد اجتماع لجنة تتبع مصيدة الأخطبوط    العام الثقافي 'قطر-المغرب 2024': الأميرة للا حسناء وسعادة الشيخة سارة تترأسان بالدوحة عرضا لفن التبوريدة        مجلس الشيوخ الشيلي يدعم مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية (سيناتور شيلي)    المغرب "شريك أساسي وموثوق" للاتحاد الأوروبي (مفوضة أوروبية)    كلمة الأستاذ إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، خلال اجتماع اللجنة الإفريقية للأممية الاشتراكية    رسمياً.. المغرب يصوت لأول مرة بالأمم المتحدة على وقف تنفيذ عقوبة الإعدام    فيفا ينظم بيع تذاكر كأس العالم للأندية‬    بنعلي: رفع القدرة التخزينية للمواد البترولية ب 1,8 مليون متر مكعب في أفق 2030    لماذا لا تريد موريتانيا تصفية نزاع الصحراء المفتعل؟    84% من المغاربة يتوفرون على هاتف شخصي و70 % يستعملون الأنترنيت في الحواضر حسب الإحصاء العام    ردود فعل غاضبة من نشطاء الحركة الأمازيغية تُشكك في نتائج بنموسى حول نسبة الناطقين بالأمازيغية    الأميرة للا حسناء تترأس عرض التبوريدة    النظام الأساسي لموظفي إدارة السجون على طاولة مجلس الحكومة    دفاع الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال يؤكد أن وضعه الصحي في خطر    تحقيق قضائي لتحديد دوافع انتحار ضابط شرطة في الدار البيضاء    ارتفاع معدل البطالة بالمغرب إلى 21% مع تسجيل ضعف في نسبة مشاركة النساء بسوق الشغل    مراكش.. توقيع اتفاقية لإحداث مكتب للاتحاد الدولي لكرة القدم في إفريقيا بالمغرب    كنزي كسّاب من عالم الجمال إلى عالم التمثيل    حاتم عمور يطلب من جمهوره عدم التصويت له في "عراق أواردز"        ضابط شرطة يضع حدّاً لحياته داخل منزله بالبيضاء..والأمن يفتح تحقيقاً    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    السينما الإسبانية تُودّع أيقونتها ماريسا باريديس عن 78 عامًا    سرطان المرارة .. مرض نادر يُشخّص في المراحل المتقدمة    كيوسك الثلاثاء | حملة توظيف جديدة للعاملات المغربيات بقطاع الفواكه الحمراء بإسبانيا    زلزال عنيف يضرب أرخبيل فانواتو بالمحيط الهادي    شوارع المغرب في 2024.. لا صوت يعلو الدعم لغزة    الصين تعارض زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية على المنتجات الصينية    ماكرون سيعلن الحداد الوطني بعد إعصار شيدو المدمر في أرخبيل مايوت    السفير الدهر: الجزائر تعيش أزمة هوية .. وغياب سردية وطنية يحفز اللصوصية    أفضل لاعب بإفريقيا يحزن المغاربة    لماذا لا يستطيع التابع أن يتحرر؟    عن العُرس الرّيفي والتطريّة والفارس المغوار    علماء يكتشفون فصيلة "خارقة" من البشر لا يحتاجون للنوم لساعات طويلة    بريطاني أدمن "المراهنات الرياضية" بسبب تناول دواء    دراسة: الاكتئاب مرتبط بأمراض القلب عند النساء    باحثون يابانيون يختبرون عقارا رائدا يجعل الأسنان تنمو من جديد    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التخطيط بالقيم أو التخطيط الحضاري.. فيلسوف الجمال محمد إقبال (2)
نشر في العمق المغربي يوم 23 - 02 - 2023


مبدأ الحركة في تجديد التفكير الديني
بعد أن ظل إقبال يناقض ويحاجج أفكار الفلاسفة الأوروبيين ومقولاتهم، وهو يدافع عن الأفكار الإسلامية، وعن مكانة الدين في العالم الحديث، أخذ ينتقل بتساؤلاته ومناقشاته إلى داخل الفكر الديني الإسلامي نفسه، باحثاً ومحللاً العوامل والأسباب الفكرية والتاريخية التي أوصلت العالم الإسلامي إلى حالة الركود والجمود، ومتسائلاً عن مبدأ الحركة في بناء نظام الإسلام، وهل أن شريعة الإسلام قابلة للتطور؟
هنا يقترب إقبال من جوهر محاولته في تجديد التفكير الديني ليقدم تأملاته الفلسفية المبكرة في هذا الشأن، ويفتح أمام الفكر الإسلامي آفاق النظر في مثل هذا الموضوع الذي لا يخلو من حساسية وتعقيد.
ولا شك في أهمية وقيمة التأملات التي أثارها إقبال في هذا المجال، فهي تمثل إضافة لا يمكن تجاوزها أو الاستغناء عنها لأي محاولة تتصدى لمهمة تجديد الفكر الديني.
والأسباب التي أوصلت الفكر الديني التشريعي إلى حالة الجمود، هي في نظر إقبال ترجع إلى ثلاثة أسباب فكرية وتاريخية، هي:
أولاً: تعثر وفشل الحركة العقلية التي ظهرت في صدر الدولة العباسية نتيجة ما أثارته من خلافات مريرة، كالخلاف الذي ظهر حول خلق القرآن. فلم يكن واضحاً في نظر إقبال البواعث الحقيقية لهذه الحركة العقلية من ناحية، ومغالاة بعض العقليين في أفكارهم من دون قيد من ناحية أخرى. الوضع الذي جعل أهل السنة كما يقول إقبال يعتبرون هذه الحركة عاملاً من عوامل الانحلال، ويعدونها خطراً على استقرار الإسلام من حيث هو دستور اجتماعي، فأصبح الهم الرئيس هو الإبقاء على الوحدة الاجتماعية الإسلامية. ولم يكن لهم من سبيل لتحقيق ذلك إلا استخدام ما للشريعة من قوة مقيِّدة ملزمة، والاحتفاظ ببناء نظامهم التشريعي على أدق صورة ممكنة.
ثانياً: ظهور التصوف ونموه متأثراً في تطوره التدريجي بطابع نظري بحت وغير إسلامي. حيث مثل التصوف في نظر إقبال صورة التفكير الحر، وعلى وفاق مع الحركة العقلية، حيث خلق بإصراره على التفرقة بين الظاهر والباطن, نزعة من عدم المبالاة بكل ما يتصل بالظاهر دون الباطن، فحجب أنظار الناس عن ناحية هامة من نواحي الإسلام بوصفه دستوراً اجتماعياً. ولمواجهة هذا الوضع وجد جمهور المسلمين أن خير ضمان لهم هو اتباع المذاهب في تسليم أعمى على حد وصف إقبال.
ثالثاً: تخريب بغداد, وهي مركز الحياة الإسلامية في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، حيث مثل تدميرها نكبة فادحة يصفها جميع المؤرخين الذين عاصروا غزو التتار بخوف مهووس على مستقبل الإسلام. وكان من الطبيعي كما يقول إقبال في مثل هذا العصر من الانحلال السياسي أن يخشى رجال الفكر من المحافظين وقوع انحلال آخر، فركزوا جهودهم كلها في أمر واحد هو الاحتفاظ بحياة اجتماعية مطردة واحدة للناس جميعاً، وأبدوا في سبيل ذلك غيرة شديدة فأنكروا كل تجديد في أحكام الفقه التي وضعها الرعيل الأول من الفقهاء، وحفظ النظام الاجتماعي كان بيت القصيد في تفكيرهم.
وحين يتساءل إقبال من أين تبدأ الحركة في بناء الإسلام؟ يجيب أن مبدأ الحركة في الإسلام هي في الاجتهاد. والاجتهاد الذي يدعو إليه إقبال هو الاجتهاد المطلق, أي الاجتهاد الذي يعطي الحق الكامل في التشريع. وهذا النوع من الاجتهاد كما يقول إقبال سلم به أهل السنة من ناحية إمكانه النظري، ولكنهم أنكروا دائماً تطبيقه العملي منذ وضعت المذاهب، ذلك لأن الاجتهاد الكامل أحيط بشروط يكاد يستحيل توافرها في فرد واحد.
ويرى إقبال أن العالم الإسلامي لكي ينهض بمهمة التجديد ويتخلص من رواسب الجمود بحاجة إلى الاجتهاد المطلق. ذلك لأن أحوال العالم الإسلامي في نظر إقبال قد تغيرت بصورة جذرية في عصره، مما أوجب الحاجة من جديد إلى الاجتهاد المطلق، وبواعث هذه الحاجة في نظره، هي:
1 أن العالم الإسلامي أصبح يتأثر بما يواجهه من قوى جديدة أطلقها من عقالها تطور الفكر الإنساني تطوراً عظيماً في جميع مناحيه.
2 أن أصحاب المذاهب الفقهية أنفسهم لم يدَّعوا أن تفسيرهم للأمور, واستنباطهم للأحكام هو آخر كلمة تقال فيها، وأنهم لم يزعموا هذا أبداً.
3 أن ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام من تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيراً جديداً على ضوء تجاربهم، وعلى هدي ما تقلب حياة العصر من أحوال متغيرة، هو رأي له ما يسوغه كل التسويغ.
4 حكم القرآن على الوجود بأنه خلق يزداد ويترقى بالتدريج, يقتضي أن يكون لكل جيل الحق في أن يهتدي بما ورثه من آثار أسلافه، من دون أن يعوقه ذلك التراث في تفكيره وحكمه وحل مشكلاته الخاصة.
وعندما يريد إقبال أن يثبت حقيقة قابلية الشريعة الإسلامية للتطور، يقول: إن التعمق في درس كتب الفقه والتشريع الهائلة العدد، لابد من أن يجعل الناقد بمنجاة من الرأي السطحي على حد وصفه, الذي يرى بأن شريعة الإسلام شريعة جامدة غير قابلة للتطور، وهكذا عندما ندرس أصول الفقه الإسلامي الأربعة المتفق عليها، وما ثار حولها من ظلال، فإن ذلك الجمود المزعوم يتبخر، ويبدو للعيان إمكان حدوث تطور جديد. وهذا ما حاول إقبال إثباته والكشف عنه، عندما أراد مناقشة تلك الأصول، مبرهناً كيف أن هذه الأصول تتناغم وفكرة التطور، وكيف أنها تستجيب لتطور الفكر الإنساني في المجتمع المعاصر. ومما جاء في هذه المناقشة لأصول الفقه، ما يلي:
أولاً: القرآن. وهو الأصل الأول للشريعة الإسلامية، إلا أنه ليس مدونة في القانون، فغرضه الرئيسي في نظر إقبال أن يبعث في نفس الإنسان أسمى مراتب الشعور بما بينه وبين الله، وبينه وبين الكون من صلات. وليس من شك أيضاً أن القرآن يقرر بعض المبادئ والأحكام العامة في التشريع، وبخاصة فيما يتعلق بنظام الأسرة التي هي الركن الركين للحياة الاجتماعية.
والقرآن الذي يعتبر الكون متغيراً لا يمكن أن يكون خصماً لفكرة التطور، على أنه ينبغي حسب قول إقبال ألا ننسى أن الوجود ليس تغيراً صرفاً فحسب، ولكنه ينطوي أيضاً على عناصر تنزع إلى الإبقاء على القديم. والمبادئ التشريعية الرحبة والواسعة في القرآن, هي أبعد ما تكون عن سد الطريق على التفكير الإنساني والنشاط التشريعي، وهي في حقيقة الأمر كما يقول إقبال تعمل كمنبهٍ للفكر الإنساني.
وما يخلص إليه إقبال في هذا الأصل، لو أننا درسنا شريعتنا بالنسبة للانقلاب المنتظر في الحياة الاقتصادية الحديثة، فإن من المرجح أن نكشف في أصول التشريع عن نواحٍ جديدة لم تُكشف لنا بعد، مما يمكننا أن نطبقه بإيمان متجدد بحكمة هذه المبادئ.
ثانياً: الحديث. وهو الأصل الثاني للشريعة الإسلامية، وفي نظر إقبال أن رجال الحديث قد أدوا أجل خدمة للشريعة الإسلامية بنزوعهم عن التفكير النظري المجرد, إلى مراعاة ما للأحوال الواقعة من شأن. ولو أننا واصلنا كما يضيف إقبال دراسة ما كتب عن الحديث, وعنينا بتقصي ما تدل عليه الآثار, من الروح التي كان يفسر النبي بها رسالته فقد تنجلي هذه الدراسة عن فائدة كبرى, في فهم قيمة الحياة لمبادئ التشريع التي صرح بها القرآن. وهذا الفهم وحده هو الذي يعنينا عندما نحاول تأويل أصول التشريع تأويلاً جديداً.
ثالثاً: الإجماع. وهو في نظر إقبال قد يكون من أهم الأفكار التشريعية في الإسلام. ومن الغريب أن يشتد الخلاف حول هذه الفكرة الهامة في صدر الإسلام، حيث أثارت الكثير من الجدل العلمي، وظلت مجرد فكرة لا غير تقريباً، وقلما اتخذت شكل نظام دائم في أي بلد من بلاد الإسلام. ولعل تحول الإجماع إلى نظام تشريعي ثابت كما يضيف إقبال, كان يتعارض مع المصالح السياسية للحكم المطلق الذي نشأ في الإسلام بعد عهد الخليفة الرابع مباشرة. وما يبعث على الارتياح التام على حد قول إقبال, أن نجد ضغط العوامل العالمية الجديدة، وتجارب الشعوب الأوروبية في السياسة, قد جعلت تفكير المسلمين في العصر الحديث يتأثر بما لفكرة الإجماع من قيمة وما تنطوي عليه من إمكانيات. إن نمو الروح الجمهورية في البلاد الإسلامية وقيام جمعيات تشريعية فيها بالتدريج, خطوة عظيمة في سبيل التقدم. ولما كانت الفرق المتعارضة تكثر وتزداد مما جعل انتقال حق الاجتهاد من أفراد يمثلون المذاهب إلى هيئة تشريعية إسلامية, هو الشكل الوحيد الذي يمكن أن يتخذه الإجماع في الأزمنة الحديثة، فإن هذا الانتقال يكفل للمناقشات التشريعية الإفادة من آراء قوم من غير رجال الدين، ممن يكون لهم بصر نافذ في شؤون الحياة, وبهذه الطريقة وحدها يتسنى لنا أن نبعث القوة والنشاط فيما خيّم على نظمنا التشريعية من سبات، ونسير بها في طريق التطور.
رابعاً: القياس. يبدو عند إقبال أن فقهاء الحنفية ونظراً لاختلاف الأصول الاجتماعية والزراعية التي كانت سائدة في البلاد التي فتحها المسلمون، لم يجدوا بصفة عامة الحالات المدونة في كتب السنة شيئاً يهتدون به، أو وجدوا من ذلك شيئاً قليلاً، فلم يكن أمامهم من سبيل سوى تحكيم العقل في الفتيا. وأوحت الأحوال التي استجدت في العراق بتطبيق منطق أرسطو، وإن كان قد ثبت أن هذا المنطق كان بالغ الضرر حسب نظر إقبال في المراحل الأولى لتطور التشريع؛ لأنه لو نظرنا إلى سير الحياة بمنظار المنطق الأرسطي لبدأ آلياً بحتاً ليس له في ذاته أصل يبعث فيه الحياة والحركة.
وهكذا اتجه مذهب أبي حنيفة والكلام لإقبال إلى تجاهل ما للحياة من حرية مبدعة، وما فيها من تحكم، وأمّل في أن يقيم على أساس من التفكير النظري المجرد نظاماً تشريعياً منطقياً كاملاً. أمام هذا المسلك قدم علماء الأصول في الحجاز كما يقول إقبال, اعتراضات قوية على الدقائق الفقهية التي أثارها فقهاء العراق، وعلى ما نزعوا إليه من تخيل أحوال لا تمت إلى الواقع بسبب. ورأى علماء الحجاز أن هذه الأحوال المتخيلة لابد من أن تنتهي بالفقه الإسلامي إلى نوع من آلية لا حياة فيها.
وقد وجد إقبال أن هذه الخلافات المريرة بين المتقدمين من فقهاء الإسلام كان من أثرها، أن محصت تعريف القياس وحدوده وشروطه وإصلاحاته
بعد هذا العرض يرى إقبال أنه ليس في أصول تشريعنا، ولا في بناء مذاهبنا ما يسوغ النزعة الحاضرة حسب قوله، وهي نزعة ما قبل التجديد.
هذه لعلها أبرز التأملات والأفكار والسياقات التي تعبر عن رؤية وفلسفة إقبال في تجديد الأسس الفكرية والفلسفية للتفكير الديني في الإسلام.
ملاحظات ونقد
جدير بالعالم الإسلامي أن يتذكر ويفتخر بوجود مفكر وفيلسوف مثل محمد إقبال، فمن يتعرف على أفكاره وأشعاره يتملكه الإعجاب به، وهو من طبقة المفكرين الكبار، ومن الفلاسفة الذين يذكرون بفلاسفة المسلمين السابقين. وقد كان صاحب فلسفة عرف بها، هي الفلسفة الذاتية، حيث يرى أن هدف الإنسان الديني والأخلاقي هو إثبات الذات لا نفيها، وكماله يتوقف على قدر إثبات ذاته وتمكين استقلاله، وأن الذات العليا هي المثل الأعلى للإنسان، وكلما تخلق الإنسان بأخلاق الله كما جاء في الأثر, قرب من كماله، وتنقص ذاته على قدر بعده من الخالق. وهذا يعني أن إقبالاً لم يكن فيلسوفاً بلا فلسفة، كما لم يكن فيلسوفاً مقلداً أو تابعاً لغيره بل صاحب نزعة فلسفية تجديدية.
وإقبال هو نموذج المفكر الذي نفتقده، وينبغي البحث عنه، فهو المفكر الذي قاده شغفه المبكر للفلسفة إلى دراستها وتحصيلها في جامعات بريطانيا وألمانيا، واقترب كثيراً من الفلسفات الأوروبية الحديثة, وتعمق في دراستها وتكوين المعرفة بها، ووجد فيه الأساتذة الأوروبيون الطالب الذكي الذي يستحق العناية والاهتمام.
لهذا فقد كان من السهل على إقبال أن يصبح مفكراً متغرباً، وتلميذاً نجيباً للثقافة الأوروبية، كما حصل ويحصل مع الكثيرين في العالم العربي والإسلامي الذين مروا بمثل تجربة إقبال. مع ذلك بقي إقبال محافظاً على جوهره الديني، ومتمسكاً بعقيدته وشريعته، ومدافعاً قوياً ودون مواربة عن الإسلام والأفكار الإسلامية، ومحاججاً المفكرين الأوروبيين في أفكارهم وفلسفاتهم. وقد كان إقبال واضحاً في هذا المسلك ليس أمام المسلمين وفي العالم الإسلامي فحسب، وإنما أمام الأوروبيين أنفسهم، ولم يجد في هذا المسلك ما يخدش في مكانته الأكاديمية عند الأوروبيين، أو في منزلته العلمية في نظرهم، كما هو مسلك بعض المفكرين والأكاديميين المسلمين الموجودين في الجامعات والمعاهد الأوروبية والأمريكية. فقد بقي إقبال مفكراً دينياً وصاحب ثقافة واسعة بالفلسفات الأوروبية الحديثة.
ويذكر لإقبال أيضاً، أنه مع تعمقه في دراسة العلوم الفلسفية العقلية، احتفظ بنزعته المعنوية والروحية، في الوقت الذي انقسم فيه العلماء والمفكرون بين من ينحاز إلى النزعة العقلية وهم الأكثرية، وبين من ينحاز إلى النزعة الروحية وهم الأقلية. ومعظم الذين درسوا في الجامعات الأوروبية والأمريكية وتخرجوا فيها اعتبروا أنفسهم ينتمون إلى الاتجاهات العقلية باعتبار أن العقل هو المكوّن الأساسي لمفهوم الحداثة عند الغربيين، والحداثة هي المفهوم الذي يتسابق الكثيرون، وخصوصاً الدارسين في الجامعات الغربية على الانتساب إليه، ويرون في هذا الانتساب قمة المجد الذي يتطلعون إليه.
وليس هناك مكان واعتراف بالأبعاد المعنوية والروحية في مفهوم الحداثة وخطابها الفلسفي عند الغربيين. فهذه الأبعاد في نظرهم تصنف على الاتجاهات اللاعقلانية التي لا يمكن أن تنتظم في خطاب الحداثة الفلسفي. ولهذا قليلاً ما نجد بين الشرائح الكبيرة من المثقفين في العالم العربي والإسلامي من يتظاهر بتلك الأبعاد المعنوية والروحية، وهناك من يؤمن بتلك الأبعاد ويحاول أن يخفيها، ولا يتظاهر بها بصورة صريحة وواضحة، على خلفية أن المناخ العام في هذا الوسط لا يتناغم وتلك الأبعاد. وهذا بخلاف ما كان عليه إقبال الذي تجلت في أفكاره وفلسفته الأبعاد المعنوية والروحية بصورة واضحة وصريحة، وظل يدافع عن هذه الأبعاد ويحاجج عنها بالأدلة والبراهين الدينية والفلسفية.
فحين يختتم إقبال حديثه عن البرهان الفلسفي على ظهور التجربة الدينية في كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» يقول: «الفلسفة نظريات، أما الدين فتجربة حية، ومشاركة واتصال وثيق، وينبغي على الفكر لكي يحقق هذا الاتصال أن يسمو فوق ذاته، وأن يجد كماله في حال من أحوال العقل يسميها الدين الصلاة، والصلاة لفظ من آخر ما انعرجت عنه شفتا نبي الإسلام عند وفاته
وبفضل هذه الأبعاد المعنوية والروحية اكتسبت أفكار إقبال وفلسفته قوة التأثير والإشعاع في العالم الإسلامي.
ويذكر لإقبال كذلك أنه من المفكرين القلائل ممن اتخذ من القرآن الكريم منبعاً لأفكاره وفلسفته، منبعاً يستنبط منه تارة، ويستدل به تارة أخرى، ويحاجج به تارة ثالثة. وفي هذا الشأن قدّم إقبال طائفة مهمة من التأملات المعنوية والفكرية والفلسفية التي استوحاها من القرآن الكريم, التأملات التي كانت مضيئة في كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام». ومعظم الذين نظروا لهذا الكتاب التفتوا إلى هذه الملاحظة لشدّة وضوحها، وتمسك إقبال بها. بحيث من الممكن دراسة هذا البعد بشكل مستقل في أفكار إقبال؛ لأنه حاول أن يقدم تأملات يستقل بها، وتعبر عن اجتهاداته الخاصة به، ولم يرجع في هذه التأملات إلى التفاسير القرآنية القديمة والحديثة، ولم يتطرق إليها لا من قريب ولا من بعيد، ولم يستحضر حتى الأقوال فيما إذا كانت مطروحة حول تلك الآيات التي استشهد بها، واستنبط منها تأملاته, ولعله كان قاصداً إلى ذلك من دون أن يفصح عنه. ولهذا هناك من أظهر الاختلاف مع إقبال في بعض تأملاته وتفسيراته مثل الدكتور محمد البهي مع أنه أثنى على هذا الاهتمام عنده، وقد عدّد البهي الآيات التي اختلف في تفسيرها مع إقبال في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي).
وحين نلفت النظر إلى هذا التميز عند إقبال, لأننا لا نجد مثل هذا الاهتمام عند قطاع كبير من مثقفي ومفكري العالم العربي والإسلامي الذين يصدق عليهم القول إنهم اتخذوا القرآن كتاباً مهجوراً.
يضاف إلى ذلك أن إقبال كان واعياً لدوره الذي نهض به كمفكر في الأمة، وهذا الوعي هو الذي قاده لتبني فكرة التجديد الديني منذ وقت مبكر. ولعله تأثر في تبنيه لهذا الدور وتعززت ثقته به، لما وجده من تأثير متعاظم لمفكري أوروبا في مجتمعاتهم, وفي نهضة تلك المجتمعات وتقدمها. ولهذا كان يرى أن (المهمة الملقاة على عاتق المسلم المعاصر مهمة ضخمة، إذ عليه أن يفكر تفكيراً جديداً في نظام الإسلام كله، دون أن يقطع ما بينه وبين الماضي قطعاً تاماً
كما كان يتمنى لو أن السيد جمال الدين الأفعاني الذي يصفه إقبال بأنه كان دقيق البصر بالمعنى العميق, لتاريخ الفكر والحياة في الإسلام، إلى جانب خبرته الواسعة بالرجال والأحوال، الخبرة التي جعلت منه في نظر إقبال همزة الوصل بين الماضي والمستقبل. كان يتمنى عليه لو أن نشاطه الموزع الذي لم يعرف الكلل، اقتصر بتمامه على الإسلام بوصفه نظاماً لعقيدة الإنسان وخلقه ومسلكه في الحياة. ولو أنه اقتصر على ذلك لكان العالم الإسلامي أقوى أساساً من الناحية العقلية، مما أصبح عليهفيما بعد.
وحين يريد إقبال أن يحدد طبيعة مهمته الفكرية معقباً على ما قاله عن الأفغاني يقول: «ولم يبق أمامنا من سبيل سوى أن نتناول المعرفة العصرية بنزعة من الإجلال، وفي روح من الاستقلال، والبعد عن الهوى، وأن نقدر تعاليم الإسلام في ضوء هذه المعرفة، ولو أدى بنا ذلك إلى مخالفة المتقدمين وهذا الذي أعتزم فعله
وهذا النص من أكثر النصوص التي تشرح ما كان يريد إقبال أن ينهض به بوصفه مفكراً في مجال تجديد التفكير الديني، وعن الثقة التي يراها إقبال في نفسه وهو يقدم على هذه المهمة، وعن الطريقة التي يتعامل بها مع المعرفة العصرية حيث لا يخفي إجلاله لها، لكنه الإجلال الذي لا يسلبه روح الاستقلال، ولا يجعله يتنكر لتعاليم الإسلام. فقد أظهر إقبال في هذا النص توازناً دقيقاً، هو التوازن الذي ظل يفتقده الفكر الإسلامي في مرحلة ما بعد إقبال.أما الملاحظات التي يمكن أن نسجلها على محاولة إقبال، فمنها:
أولاً: لقد جاءت محاولة إقبال ثرية بالمناقشات الفلسفية والدينية، القديمة والحديثة، ومكثفة بالأفكار والبراهين العقلية والنقلية، حيث كشفت عن ثقافة واسعة، ومعرفة عميقة. ومع أنه حاول تجديد الأسس الفكرية والفلسفية للفكر الديني في الإسلام، أو إعادة النظر في تلك الأسس الفكرية والفلسفية ومحاولة إصلاحها، إلا أنه لم يعتنِ كثيراً بتركيز وتنظيم الأفكار الرئيسة التي حاول تأكيدها والدفاع عنها، وجمع البراهين للاستدلال عليها، وكأن الطابع الشفهي الذي يغلب عليه في العادة التوسع والإسهاب، تغلب كثيراً على عناصر التركيز والبناء المنهجي للأفكار.
في حين أن محاولة تُعنى بقضية حساسة مثل قضية تجديد التفكير الديني، كان يفترض أن يتجلى فيها المستوى المنهجي بصورة واضحة وراسخة، خصوصاً وأن هذه المحاولة تعد من أبكر المحاولات التي تطرقت إلى قضية التجديد الديني وعالجتها. لهذا فإن إقبال تحدث عن التجديد، ولم يتحدث لنا بصورة منهجية عن منهج التجديد.
ثانياً: اعتبر إقبال أن اللحظة التي حاول فيها إنجاز مهمة تجديد التفكير الديني، هي اللحظة المناسبة لهذا العمل. وحين نتحرى عن هذه اللحظة التي قصدها إقبال وعاصرها، نكتشف أن هناك لحظتين متعارضتين تحدث عنهما إقبال في كتابه. لحظة قيام تركيا الحديثة التي ورثت مرحلة ما بعد اضمحلال دولة الخلافة العثمانية، وهي اللحظة التي امتدحها إقبال وبالغ في الثناء عليها وقال عنها: (إن تركيا في الحق، هي الأمة الإسلامية الوحيدة التي نفضت عن نفسها سبات العقائد الجامدة، واستيقظت من الرقاد الفكري. وهي وحدها التي نادت بحقها في الحرية العقلية، وهي وحدها التي انتقلت من العالم المثالي إلى العالم الواقعي، تلك النقلة التي تستتبع كفاحاً مريراً في ميدان العقل والأخلاق)(
واللحظة الثانية، المعارضة إلى اللحظة السالفة، هي تلك اللحظة التي يصفها إقبال بقوله: «نحن نمر الآن بعهد شبيه بعهد ثورة الإصلاح البروتستنتي في أوروبا، فينبغي ألا يضيع سدى ما تعلمناه من قيام حركة لوثر ونتائجها. فدرس التاريخ في تعمق وعناية يظهر لنا أن حركة الإصلاح كانت سياسية في جوهرها, وأن نتيجتها الخالصة في أوروبا أسفر عن إحلال تدريجي لنظم أخلاقية قومية, محل الأخلاق المسيحية العالمية
لهذا كنت أتساءل هل أن اللحظة التي تحدث عنها إقبال حول تجديد التفكير الديني هي اللحظة المناسبة فعلاً؟ أم أنها لحظة متوترة ومضطربة، وغير مواتية على الإطلاق لمهمة دقيقة وحساسة مثل مهمة تجديد التفكير الديني!
فهل أن إقبال وجد في تلك اللحظة إمكانية حدوث انقلاب على الفكر الديني فأراد حماية هذا الفكر والدفاع عنه عن طريق إثبات تقبله للتجديد! أم أن إقبال وجد فيما سمي بالإصلاحات في تركيا، بعداً إيجابياً هو انبعاث فكرة الإصلاح والتجديد، وأراد الاستفادة من هذا المناخ في الدعوة إلى تجديد التفكير الديني في الإسلام، ونلمس في كلام إقبال ما يوحي بمثل هذه الملاحظة التي يريد أن يوازن فيها بين الحرية والانحلال، وحسب قوله: «إننا نرحب من أعماق قلوبنا بتحرير الفكر في الإسلام الحديث، ولكن ينبغي لنا أن نقرر أيضاً أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي أدق اللحظات في تاريخه. فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال، وفكرة القومية الجنسية التي يبدو أنها تعمل في الإسلام العصري أقوى مما عرف عنها من قبل, قد ينتهي أمرها إلى القضاء على النظرة الإنسانية العامة الشاملة التي تشربتها نفوس المسلمين من دين الإسلام
لذلك من الصعب الجزم في أن تلك اللحظة التي قصدها إقبال، هي اللحظة المناسبة كل المناسبة حسب وصفه!
ثالثاً: من أكثر الملاحظات التي سجلها الباحثون الإسلاميون على كتاب إقبال هي وجهات نظره تجاه بعض الحركات والجماعات التي ظهرت في العالم الإسلامي، كالحركة البهائية التي ظهرت في إيران، وحركة أتاتورك في تركيا. فقد اعتبر إقبال البهائية والبابية من الحركات الكبرى الحديثة التي ظهرت في آسيا وأفريقيا، وأنها ليست سوى صدى فارسي حسب تعبيره للإصلاح الديني العربي، متأثرة بذلك كما يرى إقبال, بحركة الشيخ محمد عبد الوهاب التي ظهرت في نجد وسط الجزيرة العربية.
كما أظهر إقبال إعجابه وثناءه على حركة أتاتورك في تركيا، بطريقة أثارت الدهشة، وفتحت العديد من التساؤلات في الأوساط الفكرية الإسلامية حول كيف وقع إقبال في مثل هذه الأخطاء والالتباسات، وهو المفكر اللامع صاحب الذكاء الحاد، والذهن الوقاد، والمتميز في القدرة على تحليل الأفكار بطريقة فلسفية دقيقة، والملم بالأفكار والمقولات الفلسفية، القديمة والحديثة، الأمر الذي لا يتناسب والالتباس الذي وقع فيه إقبال، خصوصاً وأنه كان معاصراً لفترة التغيرات التي مرت بها تركيا في أعقاب نهاية دولة الخلافة العثمانية.
وقد اعتنى الباحثون الإسلاميون بالبحث عن تفسير لهذا الالتباس الذي وقع فيه إقبال، فهناك من يرى مثل الدكتور محمد البهي أن إقبالاً لم يدرس هذه الحركات من مصادرها، وإنما قرأ عنها من طريق المستشرقين الأوروبيين، وأخذ بكلامهم بتقليد واتباع. وهناك من يرى كالشيخ مرتضى المطهري أن إقبالاً لم يسافر ويتجول في العالم الإسلامي لكي يتعرف على تلك الحركات عن قرب، كما فعل السيد جمال الدين الأفغاني مثلاً.
والحقيقة أن إقبالاً ليس من النوع الذي يأخذ بكلام الأوروبيين بسهولة، فهو يتقصد التظاهر بالاستقلال عنهم. وكونه لم يسافر ويتجول في العالم الإسلامي، فهذا ليس سبباً كافياً، لأنه كان معاصراً لما حدث في تركيا، الحدث الذي كان مدوياً في العالم الإسلامي برمته. ولم أجد تفسيراً مقنعاً سوى أنها عثرة وقع فيها إقبال، كما يقع غيره من البشر في عثرات، والأكيد أنها حصلت بسبب نقص في الاطلاع، وفي تكوين المعرفة.
رابعاً: معظم الذين كتبوا عن إقبال ودرسوا أفكاره، تطرقوا دائماً إلى الشيخ محمد عبده، وبعضهم أجرى مقاربات بينهما كالدكتور البهي، وبعضهم وجد تشابهات بينهما في المنحى الفكري كالشيخ المطهري، وبعضهم تطرق إليهما بصور أخرى مختلفة كهاملتون جيب, وفضل الرحمن. ولم يلتفت هؤلاء جميعاً إلى أن إقبالاً لم يتحدث عن الشيخ محمد عبده، ولم يأتِ على ذكره قط في كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام». وكان يفترض أن يلتفت إليه حينما وجه ملاحظته إلى الأفغاني متمنياً لو أن نشاطه الموزع اقتصر بتمامه على الإسلام بوصفه نظاماً لعقيدة الإنسان وخلقه ومسلكه في الحياة. بمعنى أن إقبالاً كان يفضل دوراً فكرياً للأفغاني على دوره السياسي الواسع، وهذا هو الدور الذي نهض به الشيخ عبده، وبه تميز عن الأفغاني.
ولعل إقبالاً لم يطلع على كتابات ومؤلفات الشيخ عبده، لأنه لو اطلع عليها لأشار إليها بالتأكيد بصورة من الصور. وليس الشيخ عبده هو فقط الذي لم يأتِ على ذكره في كتابه المذكور، وإنما حتى رجالات النهضة والإصلاح الديني الذين ظهروا وعرفوا في العالم الإسلامي، هم أيضاً لم يتم التطرق إليهم، كالشيخ عبد الرحمن الكواكبي والشيخ محمد حسين النائيني والشيخ محمد رشيد رضا إلى جانب رجالات الإصلاح في مصر والعراق وبلاد الشام.
وأخيراً فإن محاولة محمد إقبال تعد واحدة من أهم المحاولات التي جاءت في سياق تجديد الفكر الإسلامي، لكنها المحاولة التي لم تتمم في العالم العربي والإسلامي, ولم يؤسس عليها الفكر الإسلامي المعاصر تراكماته المعرفية في مجال اهتمامه بقضية تجديد الفكر الإسلامي. وهي القضية التي ظل الفكر الإسلامي حائراً في طريقة التعامل معها، قبضاً وبسطاً، إقداماً وإحجاماً. ويعد هذا الانقطاع عن محاولة إقبال على أهميتها الفائقة، من أشد مظاهر الأزمة المعرفية في الفكر الإسلامي المعاصر.
*رضوان بوسنينة عضو الاتحاد العام للخبراء العرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.