التاريخ يكتبه المنتصرون، وتاريخ الخمسين سنة المقبلة معلق بشكل أساسي على هوية المنتصر في الحرب الأوكرانية، لأنها ليست مجرد حرب حول الجغرافيا بل حرب قيم وحرب وجود، وأي تحليل موضوعي للمآلات المحتملة لهذه المواجهة لا بد أن يخلص إلى انتصار روسيا. فبينما تظل آمال الغرب، بعد فشله في الدخول في مواجهة مباشرة مع موسكو، معلقة على احتمالات انقلاب عسكري أو تفاعل عوامل داخلية أو انتفاضة روسية داخلية تؤدي لهزيمة وسقوط بوتين، فإن الشعب الروسي، الذي أخذ الدرس من معاناة المرحلة التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي، تيقن أن الغرب ماكر وليس جديرا بالثقة بعد ما نكث بكل وعوده التي كان قد أعطاها لقادة الاتحاد السوفياتي غداة انهياره وبعد ما قام به ضد موسكو من مساس خطير باقتصادها وأمنها ووحدة أراضيها ومنظومة قيمها. المواطن الروسي اليوم يعرف يقيناً أن السلام والتعايش مع الغرب غير ممكن بأي حال من الأحوال، ولذلك سيظل المجتمع المدني والعسكري الروسي داعمًا ومساندًا لبوتين في كل الأحوال حتى لو تطلب الأمر خوض حرب شاملة، وهذا ما يجعل انتصار روسيا مسألة حتمية في الحرب الروسية- الأطلسية، أما كتابة التاريخ التي ستترتب عن هذا الانتصار فتنبَني على ما يلي: – أولا: سنشهد نهاية أسطورة العقوبات الاقتصادية بشكل عام، سواءً تلك المفروضة على روسيا أو تلك المفروضة على دول أخرى أو حتى تلك التي يهدد بها الغرب ضد المخالفين لمصالحه و"قيمه"، على اعتبار أن هذه العقوبات صارت ذات تكلفة باهضة، عشر حزم وعشر مستويات من العقوبات الاقتصادية الغربية فشلت في هزم روسيا، وقسمت العالم وافتقدت لدعم العديد من الدول الرئيسية في قارات أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ولم تصلح لأي شيء باستثناء الغلاء والبطالة والقلاقل الاجتماعية في ربوع الأرض وبخاصة في الدول المعتادة على رغد العيش مثل دول الغرب بنفسه. – ثانيا: ستصبح المنظومة الأمنية الأوروبية بشكل خاص خاضعة لموسكو، أما المنظومة الأمنية، الدولية فستصبح ثنائية الأقطاب. – ثالثا: النفوذ السياسي الغربي مثله مثل التأثير الثقافي والقيمي في المناطق الأخرى. (إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية) سينهار ولن يجرؤ الغرب على فرض أو إملاء سياساته وإرادته وقيمه وأفكاره على هذه المناطق لاحقا، وهذا سينتهي بانبثاق قوى إقليمية جديدة سياسية واقتصادية وثقافية. – رابعا: هذا الأمر سيؤدي إلى تغييرات جذرية في بنية وصلاحيات المؤسسات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، الذي سيخضع لمراجعة عميقة لصلاحياته وتركيبته. – خامسا: سنشهد نهاية هيمنة المنظومة الاقتصادية الغربية وعلى الخصوص فيما يتعلق بكل من عملة التداول المرجعية والنظام البنكي العالمي، فالدولار سيستبدل في الجزء الأكبر من المبادلات التجارية والمعاملات البنكية بمجموعة العملات الوطنية الأخرى من بينها على الخصوص اليوان والروبل، مع ما لذلك من تأثير على حجم الاقتصاد الأمريكي خصوصا والغربي عموما، أما البنك الدولي فسيتقلص دوره لصالح بنوك بكبرى جديدة مثل بنك ريكس المؤسس حديثا وبنك الآسيوي البنيات التحتية وغيرها من البنوك الجهوية والإقليمية. – سادسا: على الجانب العسكري تعتبر المناورات المشتركة الجارية حاليا بين كل من روسيا والصين وجنوب إفريقيا بمثابة نواة عسكرية وأمنية عابرة للقارات ستشهد لاحقا انضمام دول مثل الهند والبرازيل والأرجنتين ونيجيريا والجزائر، في مواجهة الناتو. – سابعا: سيكون هناك ضحايا جدد لهذا الوضع، وتعتبر اليابان في تقديري أكبر المرشحين لهذا المصير، حيث أصبحت تمثل حالة نشاز في محيطها الإقليمي وستنتهي بشكل ما، لأنها ستفقد دعم الغرب الذي سيصبح غير قادر على خوض حرب جديدة، بينما قد فقدت طوكيو أصلا ومنذ فترة معتبرة ثقة الشرق، وستعيش حصارا متعدد الأوجه وربما حربا مدمرة تجعلها نسخة آسيوية لأوكرانيا، في حالة أي اصطفاف ولو سياسي ضد المصالح الصينية الروسية بالمنطقة (تايوان وساخالين). – ثامنا: أما في قارتنا فبإلقاء نظرة بسيطة بنفس تحليلي جيوستراتيجي، على الخريطة سنلاحظ بسهولة أن عملية محاصرة الغرب في إفريقيا تسير بوتيرة سريعة وثابتة؛ ذلك أن روسيا والصين نجحتا في رسم حزام هو أشبه بالحاجز، يمتد من موريتانيا غربا إلى إثيوبيا شرقا مرورًا بكل من مالي والنيجر وتشاد والسودان بشقيه وإفريقيا الوسطى، وكل هذه الدول صارت خلال بضعة أشهر إما تحت النفوذ الفعلي لموسكو أو أنها أقرب إلى موسكو وبيجين بكثير من غيرها، بينما يمتد نفوذ جنوب إفريقيا وشركائها في بريكس صعودا عبر بوتسوانا وزيمبابوي وزامبيا وأنغولا ورواندا وأوغندا، ويزحف نفوذ نيجيريا المرشحة بقوة للانضمام لمنظمة بريكس على غرب إفريقيا عبر الكاميرون والغابون وساحل العاج وغانا وتوغو، وفي شرقنا يتكرس تواجد ونفود موسكو بشكل لا يصدق في مصر والجزائر. يحدث هذا في ظل وبالموازاة مع مؤتمر الاتحاد الأفريقي الذي ينعقد في هذه الأيام تحت شعار غير مسبوق وفحواه: "الانعتاق من النفوذ الغربي".