مضت أزيد من شهرين على زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية "كاترين كولونا" إلى الرباط، في مسعى لتهدئة الوضع مع المغرب والتحضير لزيارة "ماكرون"، وكان نفي المسؤولة الأولى لدبلوماسية "الإليزي" وجود أي توتر في العلاقات مع المغرب بارقة أمل جعلت بعض المراقبين المتفائلين يتوقعون حلحلة الجليد الجاثم على العلاقات بين الطرفين. غير أن العديد من المؤشرات التي تلت تلك الزيارة أظهرت بالملموس استمرار "الفتور" في العلاقات بين البلدين إن لم نقل استفحال هذا الفتور والبرود في العلاقات وجنوحه نحو توترات جديدة، خصوصا بعد ضلوع أحزاب فرنسية ضمنها حزب "ماكرون" في مخططات استصدار قرارات وانتقادات من البرلمان الأوروبي للرباط، بإيعاز من "الدولة العميقة بفرنسا"، كما سبق أن أشار إلى ذلك رئيس اللجنة البرلمانية المشتركة المغرب – الاتحاد الأوروبي، لحسن حداد. ومن مؤشرات "الأزمة الصامتة" بين البلدين، لابد من الإشارة إلى عدم إعلان المغرب لحد الآن عن اسم سفيره الجديد بفرنسا خلفا لمحمد بنشعبون الذي أنهى الملك مهامه أواخر يناير الماضي، علاوة على غياب السفير الفرنسي الجديد بالرباط عن أي نشاط رسمي بالمغرب، حيث يتم التعامل معه كأنه غير موجود. إلى ذلك تتناسل العديد من الأسئلة حول مستقبل العلاقات المغربية الفرنسية، في ظل هذا "البرود المستمر"، وفي ظل حديث عن أن التوتر بين البلدين يتجاوز "ماكرون" وحزبه، ويصل إلى جزء مهم من الدولة العميقة بفرنسا التي لازالت تنظر للمغرب ك"مستعمرة" تابعة لها، ويزعجها التقدم الذي تحرزه المملكة دوليا وعلى مختلف الأصعدة وكذا انفتاحها على شركاء دوليين آخرين. أزمة عميقة في هذا الإطار، قال أستاذ العلوم السياسية، خالد يايموت، في حديث مع "العمق"، إن كل المؤشرات الحالية تؤكد بشدة على استمرار الأزمة بين باريسوالرباط وأنها ستتعمق بحكم الواقع الدولي، مضيفا أنه "رغم أن الإعلام يؤرخ للأزمة بسنة 2020 إلا أن المؤكد منه أن سياق التوتر المغربي الفرنسي أقدم من ذلك بكثير". وأوضح يايموت أن سياق التوتر بين البلدين يتأثر بشدة بعاملين أساسيين: الأول هو أن العلاقات بين البلدين تتحول بفعل الدينامية الدولية الحالية، والتي ترتكز على شراكات وتحالفات جديدة، والعامل الثاني، يعود أساسا لتوسع مساحات التناقضات في المصالح الإستراتيجية بين باريسوالرباط ، مما يحول الأزمة في بعض المربعات إلى صدام هيكلي ومؤسساتي طويل المدى. ويرى المتحدث، أن هذه الصورة تعني بكل وضوح أن عمر الأزمة قديم وأن الجانبين فهما ذلك، لافتا إلى أن محاولة الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند في خطابه أمام البرلمان المغربي بتاريخ 04/04/2013 جاءت لتضع خطة لتصور جديد وشامل للعلاقات، لكنها فشلت في احتواء التناقضات البينية وكذلك تأثيرات الدينامية الدولية على تلك العلاقات. واعتبر الخبير المغربي في العلاقات الدولية، أن الرئيس الحالي ماكرون ورث "الخميرة" الأولية للأزمة ولم يستطع لحد الآن، إيجاد صيغة مقبولة لبناء علاقات جديدة مع المغرب، تقوم على قاعدة احترام السيادة المغربية، والمصالح الإستراتيجية للمملكة، مبرزا أن هذا الفشل يفسر دخول العلاقات المغربية الفرنسية في عهده في أزمة عميقة جدا، دون أن تصل للباب المسدود. هزات عنيفة في نفس السياق، يرى أحمد نور الدين، الخبير في العلاقات الدولية، أن العلاقات بين المغرب وفرنسا لم تصل إلى الباب المسدود، "حيث مرت بعدة هزات عنيفة ورغم ذلك لم تشكل قطيعة أو نهاية، بل على العكس تحولت في عدة مناسبات إلى فرصة لتعزيز العلاقات والانتقال بها إلى مستويات أعلى". وأضاف نورالدين في تصريح ل"العمق"، "نذكر مثلا العاصفة الهوجاء التي صاحبت صدور كتاب "صديقنا الملك" سنة 1991 على عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران، والأزمة التي رافقت زيارة دانييل ميتران زوجة نفس الرئيس الفرنسي إلى مخيمات تندوف وتصريحاتها المعادية للمغرب، والازمة التي رافقت استدعاء المدير العام للأمن الوطني سنة 2014 للمثول أمام قاضي التحقيق الفرنسي حين كان في زيارة رسمية لباريس". وزاد الخبير ذاته، قائلا: "إذا رجعنا إلى الوراء أكثر سنتذكر الزلزال الدبلوماسي بعد اختطاف المهدي بن بركة من قلب العاصمة الفرنسية سنة 1965 أدت حينها إلى سحب السفير الفرنسي لدى الرباط على عهد الرئيس شارل دوغول". الدولة العميقة بفرنسا في حديثه مع "العمق"، اعتبر يايموت، أن التصور الذي يروج وسط بعض المغاربة والذي يزعم أن الدولة العميقة في فرنسا تكن الاحترام الشديد للمغرب "ساذج جدا ويروج بشدة منذ عقود من النخب المغربية الفرنكفونية الموالية لفرنسا". وبالمقابل، يرى أستاذ العلوم السياسية، أن "النخب الأمنية الفرنسية والنخبة العسكرية، وجزء كبير من النخب الاقتصادية، لا يقوم تصورها على الاحترام وإنما على الحفاظ على الإرث الاستعماري، والإبقاء على المصالح الفرنسية في مستعمراتها بشكل بقوي المكانة الدولية لفرنسا ويبقيها في نادي الكبار". وزاد المتحدث ذاته، أن الحديث عن مصالح المغرب باعتبارها دولة ذات سيادة، لا يستحضر إلا في خدمة المصالح الإستراتيجية الفرنسية، وهذا هو الإشكال الرئيس الآن بين المغرب وفرنسا، كما أن هذا هو ما يفسر التناقض والصراع الاقتصادي والأمني الذي يخوضه الطرفان، خاصة منذ 2010. الخبير المغربي في العلاقات الدولية، يرى كذلك، أن طبيعة العلاقات المغربية الإفريقية، والعلاقات الجديدة للمملكة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبريطانيا وإسبانيا وإسرائيل، كلها مناقضة لتصور الدولة العميقة الفرنسية. وهذه الأخيرة هي التي قادت معارك حقيقية ضد الأولويات والمصالح ورجال المؤسسة الأمنية المغربية، مما دفعها للرد بما يناسب الحفاظ على حرفيتها. ومضى مستطردا: "أعتقد حاليا أن الدولة العميقة في فرنسا، لا تملك تصورا لبناء علاقات جديدة مع المغرب، بل إنها منخرطة في صراع معه، وكل المؤشرات الحالية تدل على أنه سيكون طويلا؛ وقد لا يستطيع الرئيس الحالي ماكرون تغير الوضع الحالي، لسببين رئيسيين". السبب الأول؛ بحسب يايموت، يتعلق ب"طبيعة عقيدة النخب الأمنية والعسكرية الفرنسية، وكذلك تأثير طيف واسع من النخب الاقتصادية على الحقل السياسي الفرنسي. والثاني، طبيعة رؤية الملكية للمغرب ووحدته، ومستقبله باعتباره دولة تملك موقعا جوسياسي قادر على خلق شراكات وتحالفات غير تقليدية". وتابع قائلا: "وبما أن هناك تناقض جوهري بين أولويات النظام السياسي المغربي الذي يقوم على عاجلية حل مشكل الصحراء المغربية؛ وقيام تصور وعقيدة الدولة العميقة الفرنسية على استدامة المشكل المفتعل بخصوص الصحراء ( الإبقاء على الوضع الحالي)، فإن الأزمة الحالية ستستمر وستتعمق". حليف موثوق على النقيض من ذلك، يرى أحمد نورالدين، أن الدولة العميقة الفرنسية لا يمكن إلا أن تعتبر المغرب حليفا موثوقا، مبرزا كذلك أن "لوبيات عالم المال والأعمال والاقتصاد والتجارة والبنوك والشركات تعتبر المغرب حليفا مفضلا وأبوابه مشرعة للاستثمارات الفرنسية وبالتالي فليس هناك مبرر لمعاداته". واعتبر المتحدث، أن حتى أولئك الذين يتحدثون عن منافسة متوهمة لفرنسا في إفريقيا على المستوى الاقتصادي والتجاري، فإنه لا مجال للمقارنة، إذ أن حجم صادرات المغرب الى إفريقيا ضئيل جدا مقارنة مع فرنسا بل حتى مع جنوب إفريقيا وتركيا وألمانيا وهولندا وغيرها من الدول. على المستوى الأمني والعسكري، يقول نورالدين: "إذا كان صحيحا أن المغرب لم يعد زبونا مثاليا للأسلحة الفرنسية بعد أن استبدلها بالأسلحة الأمريكية بالأساس، فإن أكبر قطعة عسكرية تملكها البحرية الملكية هي الفرقاطة محمد السادس من صنع فرنسي، ولا ننسى القمرين الصناعيين المتطورين محمد السادس (أ) و(ب) واللذان أثارا حفيظة إسبانيا لأهميتهما، وهناك المناورات العسكرية المشتركة بين الحيشين، وآخر نسخة منها جرت السنة الماضية على الحدود الشرقية للمملكة، بالإضافة الى التعاون التقني وفي التكوين العسكري". ووفقا للخبير في العلاقات الدولية، فإنه لا يجب نسيان التعاون الأمني والاستخباراتي الذي يكتسي طبيعة استراتيجية بين البلدين على المستوى الثنائي ومتعدد الاطراف، والذي أعطى نتائج كبيرة في ملف محاربة الإرهاب فوق التراب الفرنسي وعلى المستوى الدولي. المشكلة في المغرب ويعتقد المحلل السياسي ذاته، أن مشكلة المغرب ليست مع جهة معينة في فرنسا، بل المشكلة توجد في المغرب كدولة ونخب سياسية حيث لم يعد لنا أصدقاء كبار من طينة الرئيس جاك شيراك صديق القصر، أو الاشتراكي ليونيل جوسبان صديق الاتحاد الاشتراكي وعبد الرحمن اليوسفي، ولا مثقفين من حجم "جاك لانغ" و"ميشيل جوبير"، والقائمة طويلة، لم تعد لنا قنوات تصنع هذه الصداقات من هذا الوزن الثقيل. وزاد قائلا: "فحين يكون هناك 356 صوتا يدين المغرب في قرار البرلمان الاوربي، مقابل 32 صوتا فقط تساند المغرب، فهذا يعني أن المغرب ليس له أصدقاء، وهذا يعني أن الخارجية المغربية وأجهزة الدولة المعنية والبرلمان المغربي وجمعيات الصداقة البرلمانية والاحزاب السياسية الممثلة في البرلمان لا تقوم بعملها بالاحترافية اللازمة"، مؤكدا أن "هذا مدخل من بين مداخل أخرى جدير بنا أن نفكر فيها لتجاوز البنية التي ولدت الازمة، وليس لتقديم مسكنات للأزمة".