لا مفر للقيادات النقابية في قطاع التعليم أن تضع واجب تحسين وضعية المدرسة العمومية – في غياب هيكلة العمل النقابي بالقطاع الخاص- باعتباره المطلب الغائي والمبدأ الموجه لكل فعل نقابي قطاعي على الدوام. وتبقى كل المطالب الأخرى فروعا وروافد تصب في نهر هذا التحسين، وهي بالتالي واجب تحقيقها من باب قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وعلى قدر إيمان القيادي النقابي بالواجب الأصل يزداد تقديره لما تفرع عنه، وبالتالي للمسؤوليات التي تناط به من أجل تحقيقه، كما يزداد حرصه على تجنب المحاسبة الملازمة لكل مسؤولية. وارتباطا بموضوع اتفاق 14 يناير وجب توضيح ما يلي: – إذا كانت كل النقابات تعلن بدون استثناء اعتمادها مبدأ الديمقراطية في بناء هياكلها الداخلية، فإن هذا المبدأ الديمقراطي يقتضي اللجوء إليه خاصة في حالة اتخاذ القرارات المصيرية التي تجمع شركاء متعددين. ونقصد هنا قرار قبول أو رفض المحضر الذي تقدمت به الحكومة. فإذا كانت هذه الأخيرة اختارت لنفسها كسابقاتها أن تكون للأسف شريكا مشاكسا تتفنن في نصب المكائد، كما شاع ذلك في أوساط الشغيلة التعليمية، فإن كل التنسيقيات قدمت نفسها على أن احتجاجاتها جزء لا يتجزأ من الحراك العام التعليمي وعبرت بالإيجاب عن بيانات المساندة النقابية الأحادية منها والجماعية، ما يعني أنها أصبحت شريكا ميدانيا داعما للنقابات وبالتالي من حقها عليها إشراكها في قرار القبول أو الرفض. – من الناحية المبدئية يفترض في القيادات النقابية أن يكون صدرها أوسع، ونظرتها إلى الشأن التعليمي أشمل، وغيرتها على أطر التربية والتعليم أكثر عقلانية، و تحليلها للخطاب وفحصها لنصوصه وفصوصه أدق، وأساليب مناورتها التفاوضية أذكى وأنجع، خصوصا أنها مارست الحوار من موقع قوة وفرها لها سياق داعم بضغط شبه عام، على المستوى الوطني والجهوي والإقليمي تجسده التنسيقيات وطلبة المراكز، ثم الضغط الشعبي العام المهدد بالانفجار نتيجة التضخم والغلاء الفاحش. – المؤشر الوحيد لنجاح حوار يمر في ظروف ضغط كالتي تم توضيحها هو إخلاء الشارع بإرضاء جميع فئات أطر التعليم المتضررين "الذين فرض عليهم الاحتجاج" وهم له كارهون لكثرة عشقهم لمدرستهم وتلامذتهم ومهنتهم الراقية. وطبعا لا يكون هذا إلا باتفاق شامل يأتي بحلول واقعية ومعقولة وواضحة لا تقبل التأويل والتأويل المضاد، وليس فيها الأطروحة ونقيضها من مصدر واحد !. عندها يسترجع العمل النقابي مصداقيته، ويضمن استمراريته بشكل صحي وسليم، في حين تَحُل التنسيقيات نفسها بزوال أسباب نشأتها، وربما إلى الأبد كما كان عليه الأمر سابقا عندما كانت النقابات هي من تأخذ المبادرة وتسابق الزمن في طرح القضايا في ملفاتها المطلبية مهددة بجدية بكل أشكال النضال قبل تفاقم الوضع حرصا على المدرسة العمومية. – بعد طول مدة تردد الفريق النقابي المحاور على وزارة رئيس اللجنة الخاصة مبدعة النموذج التنموي الجديد، والذي أتقن خطة إهدار الوقت لتمطيط مدة الحوار – ومعه إهدار الزمن المدرسي وزمن التعلمات- ما جعل القيادات النقابية تتأرجح بين أمل منشود وبلوغ طريق مسدود. وبدون سابق إنذار، وبالضبط في ليلة 14 يناير من سنة2023 – هذا هو الظاهر- جاء "الاستدعاء" وبشكل استعجالي أن هلموا صباحا لتوقيع نص محضر الاتفاق كما صاغته الوزارة الوصية. بداية كلمة استعجالي عند رجا ل ونساء التعليم لها وقع سلبي لأنها تحيل على فضيحة " البرنامج الاستعجالي"سيئ الذكر لما خلفه من هدر للملايير لا يزال مصيرها محل تساؤل، كان من المفروض أن تنهض بالمدرسة العمومية. ثم إن الاستجابة للحضور من طرف القيادات النقابية الأربع قد تخفي وراءها أمورا ثلاثة على الأقل: الأمر الأول: نسبية التشبث بالمبادئ الديمقراطية المعلنة، وعلى رأسها الرجوع المتأني إلى المؤسسات التنظيمية المعنية باتخاذ القرار؛ الأمر الثاني: يبدو أنها باشرت الحوار من موقع ضعف بالرغم من السياقات الداعمة والضاغطة كما سبق ذكرها؛ الأمر الثالث: الاتفاق أحدث تصدعا في صفوف النقابات التعليمية الموقعة والرافضة، ومن جهة أخرى ينتظر أن يؤدي إلى انسحابات المناضلين النقابيين المنتسبين إلى الفئات المحتجة، ثم إلى صراع أفقي سواء نتيجة عدم إشراك التنسيقيات في اتخاذ القرار أوعدم اقتناعها بما جاء في الاتفاق، ناهيك عن التمادي في محاكمة أساتذة أعضاء فيها وإصدار أحكام ثقيلة على بعضهم. وما زاد الطين بلة هو ظهور ضحايا جدد للاتفاق الاستعجالي. وفي الأخير، فإن النقابات الموقعة على الاتفاق ستجد نفسها من الناحية الأخلاقية وربما حتى الواقعية، وهي التي ينتظر أن تشارك في المشاورات بناء على المبادئ الواردة في محضر الاتفاق في أجواء تغيب فيها المساندة، وتطبعها التفرقة والصراع وربما النقد الجارح لا قدر الله، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من إضعاف القوة التفاوضية ، أقول إنها ستجد نفسها مضطرة لتدارك الأمر والرجوع إلى حوار نقابي-نقابي، ثم مع جميع مكونات الحراك التعليمي، وكذا القيام باستشارات خبراء في تخصصات متعددة، وذلك من أجل الخروج بصيغة تفاوضية، ومقترحات واضحة، تحصل على الإجماع أو تكاد، ويفتل خراجها في النهوض الحقيقي بالمدرسة العمومية، مدرسة الفئات العريضة من أبناء الشعب المغربي .