منذ الإعلان عن تنظيم قطر لمونديال 2022، وكل شيء استثنائي يحيط بهذه الدورة، لقد بدا منذ إعطاء شرف التنظيم لقطر أن شيئا ما مختلفا سيحدث، أن التنظيم والأجواء ستكون مختلفة غير معتادة، وأن الدورة غير الدورات والمستضيف غير المستضيفين السابقين. النقاش الذي أحاط بهذه الدورة كان مختلفا، والمساعي الغربية لإفشال الدورة تصاعدت وتسارعت كلما اقترب الموعد، أثير النقاش في البداية حول سجل قطر الحقوقي، ثم حول الضحايا المفترضين للظروف التي قيل أنها غير آمنة، ثم حول رفض قطر للخمور في الملاعب ولشعارات المثلية الجنسية، ولا شيء أوقف هذا المسار، مسار تنظيم الكأس في أراض عربية. توافدت جماهير عربية غفيرة أعطت الدورة رونقا خاصا، التفت الشعوب العربية حول الإنجاز الواعد للسعودية في أولى المقابلات التي شاهدنا فيها التفافا شعبيا عارما وغير مسبوق حول المنتخب السعودي، لتنطلق بعد ذلك إنجازات المنتخب المغربي، الذي تمتع أيضاً بنفس الالتفاف ونفس أجواء الإخاء والدعم اللامشروطين. استمر بالموازاة مع ذلك ضغط غربي إعلامي غير مفهوم على دولة قطر ومونديالها، الذي لم يتقبل المجتمع الغربي أن تنجح دولة عربية في تنظيم حدث عالمي إلى الحد الذي يضاهي قدرات الدول الأوروبية أو يفوقها، لم تنجح هذه الضغوطات أبدا أن تصرف الاهتمام العالمي بمونديال قطر فشنت عليه هجوما ثقافيا وأخلاقيا وقيميا صلبا وجادا، فهؤلاء لم يستوعبوا أن الخصوصيات الثقافية يجب أن تحترم وأن الحرية تقتضي أن تحترم الآخر كيفما كان هذا الآخر ... لم تستوعب الدول الغربية بعد أن المنظومة القيمية والأخلاقية والدينية للمجتمعات العربية والإسلامية منظومة صلبة تتحطم عليها مطارق التفكك القيمي والانحلال الاخلاقي والاستعلاء الذي تمارسه الدول الغربية ضد الدول العربية كلما شعرت أنها تزاحَم في الريادة وأن دولة ما تشق طريقها باستقلال وفرادة ونجاح. كل هذه الأشياء لم تواجهها قطر لوحدها، فقد حدث ما لم يكن في حسبان أحد ووقع ما أعطى لمونديال قطر تفردا خاصا وتاريخية لم تحصل لمونديال سابق ففجأة قرر منتخب بلادنا المغرب أن يتجاوز كل العقبات ويقف شامخا في المربع الذهبي رفقة فرنسا والأرجنتين وكرواتيا، هكذا وبكل بساطة، وبدون سابق إخبار أو إنذار. ولم يتوقف الأمر هنا، ففي الوقت الذي خرجت فيه ألمانيا من الدور الأول مكممة أفواهها ومدافعة عن قضية غير إنسانية وغير ذات سند أخلاقي ولا قيمي، فاشلة في أن تمرر الرسائل التي تريد، استمر لاعبوا المغرب في كل مقابلة في تقبيل جباه أمهاتهم والتقاط الصور مع عائلاتهم في تقديس كبير وإجلال ضخم لمؤسسة الأسرة نواة كل مجتمع سليم. مقابلة بعد مقابلة وأداءً بعد أداء استمر اللاعبون المغاربة في جمع شتات الأمة من المحيط إلى الخليج بكل طائفيتها وجروحها، بكل مذاهبها وفرقها وأحزابها، بكل جنسياتها وثقافاتها، هتف الجميع بكل حب وكل سعادة كأننا شعب واحد وأمة واحدة. رفع اللاعبون في كل مقابلة علم فلسطين، وابتهجوا به وذكروا بالتمسك الراسخ لشعوبنا بالقضية التاريخية والبوصلة الثقافية والهوياتية للشعوب العربية الاسلامية مطلقين الإشارات واحدة تلو الأخرى على أن قيمنا ثابتة وأن هوياتنا لا تمحوها مظاهر الاستغراب والذوبان الثقافي وأننا شعب ممتد يجمعنا أكثر مما يفرقنا وأن مظاهر الوحدة واليقظة مجتمعة قائمة لا تنتظر إلا المبادرات الحميدة والنوايا السليمة والشرفاء المدافعين والساسة المجمّعين والشعوب الجادة. وكما أعطت قطر نموذجا عمليا للدولة الحديثة التي تستطيع أن تحقق تنمية ونهضة تنافس بها الدول المتقدمة، من خلال تنظيمها المحكم لكأس العالم، فقد أعطى المنتخب المغربي نموذجا عملياً أيضاً لقدرة مواطنينا وشبابنا على تحطيم كل الحواجز وتجاوز كل العقبات مهما كانت صعبة ومنيعة من أجل نيل أعلى المراتب في كل المجالات وتحقيق أصعب الإنجازات مهما بدت بعيدة غير مقدور عليها. لقد استطاع هذا الفريق الرائع بفضل مدربه ولاعبيه أن يمرروا رسائل حقيقية حول الأحلام والإنجازات ويترجموها إلى دروس عملية، فبعدما كان الجميع يحلم ويمني النفس بمرور فريق عربي لدور ما بعد المجموعات، اجتمع العالم العربي كله على الحلم بنيل كأس العالم مع هذا الفريق المغربي الذي حول رؤيتنا للعالم وأقنعنا بذواتنا وقدراتنا ورسخ فينا تشبثنا بقيمنا وثوابتنا واعتزازنا بثقافتنا وبما نستطيع فعله إذا ما آمنا تمام الإيمان بأننا قادرون. إن هذا المسار الرائع لمنتخب المغرب، وتصادفه الجميل مع تنظيم قطر لكأس العالم هو في الحقيقة درس تاريخي لمجتمعاتنا العربية المحبطة الفاقدة لإيمانها بقدراتها وتطلعاتها، الغارقة في فقدان الأمل واليأس والعدمية، فالتاريخ سيذكر دائما كيف أن دولة عربية نظمت المونديال بمعايير عالمية، وكيف أن دولة عربية أخرى قادت مسارا كرويا رائعا خلاله كاد أن يؤهلها للمقابلة النهائية. لقد اجتمع في هذا المونديال كل ما لم ترده هاته الأصوات التي بذلت كل جهودها من أجل إفشال هاته الدورة، اجتمعت القيم والإنجازات والنجاحات والمنافسة القوية على ما كان حكراً على دول بعينها، في هذا المونديال كذبت قطر كل الأصوات التي قالت بأنها لن تستطيع تنظيم دورة ناجحة، كما كذب المغرب كل الأصوات التي جعلت من مروره مستحيلاً في مجموعة ضمت بلجيكا وكرواتيا وكندا. وقد نجت قطر ونجح المغرب! وإن مفتاح هذا النجاح هو التشبث بالقيم والهوية وعدم التفاوض حول الثقافة والثوابت، نجحت قطر لما تشبثت بثقافتها ونجح المنتخب المغربي عندما أنزل لاعبوه أمهاتهم للملعب واحتفوا بهن وجعلوا منهن سر كل نجاح، في مونديال تداعت عليه أصوات التفكك القيمي والانحلال الأخلاقي، وكأنما أراد هذا المونديال أن يرسل لنا رسالة واحدة، هي أن مفتاح النجاح هو الاعتزاز بالثقافة والهوية وأن كل شيء عدا ذلك فشل في فشل.