عند كل حادث وفاة لأي شخص غير مسلم؛ تُشحذ الأقلام وترتفع أصوات النقاش عاليا حول مسألة الترحم على من مات على غير ملة الإسلام وقد كان من الصالحين وفي سياق هذا النقاش القديم الجديد؛ ارتأيت أن أكتب في هذا الموضوع تحت هذا الضغط الفكري الرهيب؛ أقول مستعينا بالله متوكلا عليه؛ كثير من الناس يظن أن نقاش موضوع الترحم على الصحفية الفلسطينية شرين أبو عاقلة هو ضرب من السخافة والجنون؛ والحق أن مثل هذه القضايا يجي أن تأخذ حيزا من الاهتمام والنقاش؛ خاصة من أهل العلم والاختصاص؛ لأنها مسألة تبنى عليها الأحكام؛ ويُتخذ فيها المواقف .. والصحفية الفلسطينية الشجاعة وقتلها بدم بارد وهي امرأة مجردة معزولة لا تملك إلا صوت نقل الحقيقة؛ هذا المشهد الإنساني الأليم؛ ذكرني بسؤال شغلني منذ كنت طالبا في معهد الإمام الشاطبي للتعليم العتيق بتطوان، قبل أربعة عشر سنة! ويشهد الله أني طرحته على كثير من أساتذتي الأفاضل هناك، وناقشته مع عدد كثير من الطلبة في المعهد، وكنا نقيم لذلك الحلقات الساخنة الملتهبة، ولعل بعضهم يقرأ كلامي الآن ويسترجع ذكريات الحلقات التي كنا تعقدها لمناقشة مثل هذه المواضيع، لكن كل أسئلتي ونقاشاتي حول هذا الموضوع لم تأت بنتيجة. مرت سنوات كثيرة والسؤال يلاحقني، لكن شغلني أكثر، حينما توفيت والدة أحد أصدقائي المصريين، كنت وقتها في ليبيا، وكان أخبرني صديقي المصري وقد كان مسلما، أن والدته القبطية توفيت، وسألني هل يجوز له أن يدعو لها بالرحمة والمغفرة، لا أخفيكم، لم يكن لي جواب مبني على أدلته الشرعية يقنع الرجل ويشفي غليله، لكنني اجتهدت ولو أنني لست أهل لذلك، فلا أنا فقيه ولا أصولي ولا عالم مفسر ولا محدث، ولكنني أشفقت على صديقي حين رأيته في ذلك التحسر والأسى على وفاة أمه وهي على ملة غير الإسلام، واجتهدت بما ظننته صحيحا، فقلت به يجوز لك أن تدعو لها بالرحمة، فالله تعالى يقول في سورة الإسراء (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) وفي التوبة يقول (ما كان للنبيئ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) فالنهي كان عن الاستغفار لا على الترحم! لكن يبدو أن صديقي لم يقتنع بكلامي، فأخذته عاطفته الجياشة وحبه لأمه، وذهب يسأل بعض أئمة مساجد طرابلس، فقال له أحدهم: لا يجوز لك أن تدعو لها لا برحمة ولا بمغفرة! قال الشاب للشيخ الإمام، ولكن صاحبي قال لي يجوز لك الدعاء لها بالرحمة وله دليل في ذلك، فقال له الشيخ، صاحبك جاهل، ويجهل أن قوله تعالى (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) نسختها آية في سورة التوبة وهي قوله تعالى (ما كان للنبيء والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ..) عاد إلي الرجل مكتئبا حزينا، وحكى لي ما دار بينه وبين الشيخ، فوضعني في حيرة وشك، ومن وقتها وأنا أبحث عن جواب للسؤال.. الحقيقة لست وحدي من تشغله مثل هذه الأسئلة، فلست أنا الأول ولا الأخير، لكن يبدو أن البعض ينزعج ويمتعض ويغضب ويثور ويهيج ويشتعل ويلتهب ويصرخ ويولول حين يرى أو يسمع أحدهم يدعو بالرحمة لشخص مات على الكفر ..! وأنا أعترف بحقيقة، أنني حاولت أن أتجنب هذا النقاش المُرهق؛ فلا أنا فقيه ولا أنا أصولي ولا عالم بأحكام الشريعة ولا مجتهد فيها؛ حسبي أني طالب وبس، لكن لا يحق لأحد أن يمنعني من طرح أسئلتي ولو كانت حارقة ملتهبة، وليس لأحد أن يحجر على عقلي أو يكون وصيا عليه، ولا أسمح لأي كان أن يصادر عقلي وتفكيري ولو كان صحابيا! والآن أقول قولي في مسألة الترحم على غير المسلم؛ وهو قول أستنبطه مما ورد عند عدد كبير من العلماء والمفسرين، ومما فهمته ورأيته صحيحا وصوابا، وقد يكون قولي خطأ ولا يستقيم لا على سنة ولا على كتاب، ومع ذلك أحب أن أقول فكرتي حول المسألة، ومرحبا بالنقاش والحوار الهادئ البناء. وأرجو من الإخوة الأفاضل أن يكون لهم نفس طويل ليقرؤوا ما سأكتبه، وأرجوا منهم أن يتحملوا طول الكلام ويقرؤوه حتى نهايته، حتى تصل الفكرة كاملة غير منقوصة. أولا: النهي الوارد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، هو النهي عن الدعاء للكافر الميت بالاستغفار، ولم يرد دليل واحد لا في القرآن ولا في السنة ينهى عن الدعاء بالرحمة، يقول الله تعالى في سورة التوبة: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم)، وإذا فالقرآن الكريم ينهى عن الدعاء بالمغفرة للميت، ولو دعا أحدهم بالمغفرة لميت مشرك، يكون كذب صريح القرآن، وكلام الله لا يضرب بعضه بعضا، كيف ندعوا بالمغفرة للذي مات على غير ملة الإسلام وربك يقول (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). إذا فالإخوة الأفاضل الذين فندوا كلامي مستشهدين بهذه الآية، أقول لهم استدلالكم في غير محله، فالآية تحدثت عن الاستغفار للمشرك الميت وليس عن الاستراحم، وبينهما فرق كبير، وإلا لماذا لم يقل (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يسترحموا للمشركين) لأن الرحمة والمغفرة ليس معناهما واحد، وإلا فما معنى قول الله تعالى (وربك الغفور ذور الرحمة) وقوله (إن ربك غفور رحيم) فالفرق إذا كبير، ولنضرب مثلا على ذلك. عندنا مجرم أمام محكمة، وفي المرافعة قال المحامي يا سيادة القاضي الجاني كان غاضبا، ولم يكن في وعيه وشعوره، وكان فاقد للسيطرة عن نفسه، فنرجو من المحكمة أن تمحوا ذنبه هذا، وتغفروا له خطأه، وإذا ممكن تعوضوه بمبلغ من المال، وتضعوا له مكافئة! في نظرك عزيزي القارئ هذا منطق العدالة؟! محام ثاني يقول سيادة القاضي نحن لا نطلب منكم أن تغفروا ذنبه وتسقطوا عنه جنايته، ولكن نسترحم، ونطالب بتخفيف العقوبة عنه، فبدلا من المؤبد نطلب أن تحكموا عليه بعشر سنوات ! هذا مثال فقط لتوضيح الفرق بين الاستغفار والاسترحام. ثانيا: البعض يستشهد بحديث ورد في السنة، وهو أن ( اليهود كانوا يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم، يرجون أن يقول لهم يرحمكم الله ) وهذا أيضا ليس محل الاستدلال، لأنه غير صحيح من وجهين: أولا: هؤلاء كانوا أحياء، وجمهور الفقهاء يقولون أنه يجوز الدعاء بالرحمة للمشرك الحي، وكلامنا هنا للذي يموت على غير ملة الإسلام. ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بأفضل مما طلبوا، فهم يقولون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هرب من أن يقول لهم يرحمكم الله، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كلاما فيه الرحمة الحقيقية، حين قال لهم: ( يهديكم الله ويصلح بالكم ) أليس طلب الهداية وأن يصلح بالهم رحمة حقيقية؟ وكما قلت في السابق، هناك خلط بين مفهوم الترحم ومفهوم الاستغفار، ولنميز بينهما في قول الله تعالى : ( وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ….) وهنا يرد سؤال: هل هذه الآية فعلا خاصة بالمسلمين ؟ ! أم أنها منسوخة كما قال الشيخ لصاحبنا المصري ؟ وإن كانت خاصة فما هو دليل التخصيص في هذه الآية الكريمة ؟! إن معظم المفسرين لم يقولوا بأن الآية خاصة، ولا قالوا بأنها منسوخة، بل أغلبهم قال بأنها عامة، ومنهم الطبري والقرطبي والبغوي والسعدي، والطاهر بن عاشور وغيرهم كثير، بل وحتى بن عباس رضي الله عنها لم يقل بنسخها.. ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم تشفع لعمه أبي طالب واسترحم له، وأخبره الله تعالى أنه سيكون في ضحضاح من النار، أي يخفف عنه العذاب، أحدهم قال : وهل نستغفر لأبي جهل وأبي لهب وفرعون وشارون ونتنياهو وبوش… وهل قلت أنا هذا؟! ثم لم تجد أحد من تستغفر لهم غير هؤلاء؟ ! إن موضوعي ليس إبليس ولا شارون ولا فرعون ولا هامان ولا أشخاص بعينهم … هذا مسلك آخر في النقاش، وهو ممحاكة لا تقبل، فلا تكن بطرا في الحق ! ثالثا: هل المغفرة صورة من صور الرحمة طبعا ، لكن أيهما أشمل ؟ الرحمة أم المغفرة ؟! طبعا الرحمة أشمل ؛ فنصوص الوحي من قرآن وسنة، نصت على عدم جواز الاستغفار لمن تبين عند موته أنه من أصحاب الجحيم، ولذا نقول الاستغفار فيه محو للذنب ومثوبة، بينما الرحمة لها صور كثيرة، من ضمنها تخفيف العقوبة، كما أوردنا في الأمثلة السابقة، وكما ورد في حديث شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طلب. ونعود لقوله تعالى: ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.. ) السؤال هنا هل يعقل أن يحسن الولد لواليه المشركين، فلا لا يقل لهما أف، ولا ينهرهما، ويقل لهما قولا كريما ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وحين يصل ل (رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) يتوقف ويعطل تتمة الآية، ويبترها، ويلغيها ويوقف حكمها، فلا يدعو لوالديه بالرحمة لأنهما ماتا على الشرك هل هذا منطق القرآن ومنهج الوحي؟ ثم لماذا قال ارحمهما ولم يقل اغفر لهما؟! رابعا: الذين استشهدوا بقول الله تعالى ( ورحمتي وسعت كل شيء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.. ) أقول: ما علا قة هذا بتخفيف العذاب؟ ثم هناك من العلماء من قال أن الله تعالى سيبيد النار وينهيها، ولا يبقى إلا الجنة، وهذا نوع من تخفيف العذاب ونوع من الرحمة، لنتأمل قول الله تعالى في سورة هود ( يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ). فحين يقول ربنا ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) ليس معنى ( ما ) هنا ( من ) لأن الكلام هنا عن المدى الزمني، وهنا يطرح سؤال: هل النار ستبقى إلى ما لا نهاية أم لها حدود وتنتهي؟ ! العلماء اتفقوا على بقاء الجنة للأبد، لكن اختلفوا حول بقاء النار، هل ستفنى وتتغمد الرحمة الناس فيبادوا، أم يظلوا فيها إلى مالا نهاية.. قلت يبادوا ولم أقل يدخلوا الجنة ! وهنا لست في مسألة ترجيح الأقوال، ولكن فقط أوضح أن العلماء اختلفوا في هذه النقطة بالذات، ثم ألا تلاحظون أن الله تعالى يبدأ في كل سورة من سور القران بسم الله الرحمان الرحيم؟ هل هذا منسجم مع العدل أم أن الذنوب المتناهية عقوبتها غير متناهية؟ لننظر الآن إلى حال السعداء في الآخرة، ولنتأمل وضعهم الطبيعي، ومصيرهم الذي رسمه القرآن الكريم، يقول سبحانه : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هنا يتضح الفرق بين مصير من يرد النار ومن يدخل الجنة، فهو سبحانه لما تحدث عن الذين سعدوا.. قال: ( خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا مشاء ربك، عطاءا غير مجذوذ ) أي غير منقطع، نلاحظ هنا أنه سبحانه بين المشيئة ولكنه لم يبينها في أهل النار، لماذا إذ قال عن أهل النار ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) وإذا فالخلود هو معناه البقاء الطويل وليس معناه البقاء اللانهائي.. ومن يريد التفاصيل يرجع لكتب التفسير. بعضهم استدل بقوله تعالى: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره.. ) وقال أن الصلاة دعاء وترحم، هذا هو قصدها ، ثم قال : إذا كان الله سبحانه وتعالى قد حكم على الكافر بالنار، وبعدم المغفرة فما هي الحكمة من الترحم عليه. إنني أحترم صاحب وجهة النظر هذه؛ وأكن له تقدير خاص لمكانته العملية والفكرية والأدبية، ولكن ومع ذلك ليسمح لي أستاذي أن أقول: نعم، جمهور العلماء يرى أن ( ولا تصل على أحد منهم ..) أن الصلاة هي الدعاء. أي دعاء، أهو دعاء بالرحمة أم المغفرة أم هما معا ؟! أما حكمة الترحم على الكافر، فقد لا ندركها نحن، وكم من حكمة لله تعالى في شرعه لا ندركها، ومع ذلك نتسائل: مالحكمة في أن يطلب النبي صلى الله عليه وسلم تخفيف العذاب لعمه أبي طالب، وقد مات على الشرك، وطلب تخفيف العذاب نوع من الرحمة أيضا، ثم إذا كان الأمر كما ذكرتموه أستاذي الكريم، فلماذا يأمر الله تعالى في سورة الإسراء أن يبر الأبناء بآبائهم، ويدعون لهم بالرحمة، إن كانت هذه منسوخة، فمعناه حتى كلمة أف وكلمة واخفض لهما جناح الذل من الرحمة منسوختان أيضا، إذ ليس من المنطق أن ينسخ جزء من الآية ويبقى الجزء الآخر منها ! فإما أن تنسخ كلها أو تبقى كلها.