اشتغلت معلما في بلدة السفالات بين سنتي 2003 و2007، في ثاني تجربة مهنية لي بعدما قضيت سنة في بلدة تاغبالت، جئت إلى هنا لأنه خيار مناسب لي، بعدما ربحت 100 كلم من القرب بحلولي في بلدة السفالات. كان إنجازا كبيرا ساعتها، الوصول الى تاغبالت وقتها كان يتطلب مني ساعات، تنقسم بين تاكسي و وسيلة نقل أستقلها رفقة السلع و القرويين و أنعامهم، و علي قطع مسافة أربعين كلم غير معبدة بعد الوصول الى تازرين…ترتج أمعائي و يدوخ رأسي و أمتلئ بالغبار.أصل منهوكا تربا. لذلك فإن انتقالي لقرية تفصلها مسافة 30 كلم معبدة عن زاگورة فتح عظيم. في بلدة السفالات انصهرت كليا داخل المحيط، أحسستني فردا ضمن القبيلة. كنت دائما أعتقد بأنني وسط أناس يشبهونني، دارجتي لا تختلف عنهم، عاداتي و طبائعي. وفر لي السي عبد الله" مصرية" لأسكنها بالمجان. فيها كنت أتوصل بأطعمة لا أعرف مصادرها. يقرع بابي، فأجد طفلا أو طفلة يحمل لي شيئا، أستقبل الغنيمة بفرح، و يخلصني ذلك من مسألة التفكير في إعداد ما سأتناوله. أتبادل مع جيراني كل شيء، أرسل لهم في طلب الخبز، و لا يردون( رقاصي) خائبا. نتبادل حبات الطماطم و البصل. قبل توفري على ثلاجة، كانوا يحفظون لي عندهم ما قد يفسد خارجها: مشتقات حليب، قطع لحم… أتجول بين الحقول بحرية في أوقات غريبة، قد يقترح علي هبلي الخروج بعد منتصف الليل فأفعل دون توجس و دون تردد. كنت مفعما بأفكار تقول لي بأن التلاميذ أبناء الجماهير الشعبية، و خير نضال هو منحهم حقهم في التدريس، قد لا أكون محترفا حينذاك، لأنني في بداياتي المهنية، لكنني كنت أسعى بكل ما أوتيت كي أرضي مبادئي. هل هو الوهم الذي يجعلني أمتلك هذا الشعور، أم هي الحقيقة؟ عن أي شعور أتحدث؟ عن كوني ساعيا دائما ألا تربطني مع المتعلمين علاقة تقنية، أن تكون إنسانية، أن أحبهم قبل تعليمهم، أن أنزل إلى الوادي و ألعب الكرة معهم، أن أغضب بإفراط إن لم يكونوا مثلما أردتهم، ثم يتحول الغضب إلى حلم بمجرد انخماد جمرته. لكل ذلك، استمررت في زيارة البلدة مرة أو مرتين في السنة رغم مغادرتها قبل خمسة عشر عاما. أفعل ذلك لأنني أحن إلى دروبها و معابرها و ترابها و سحنات أهاليها. ليست شعرة معاوية هي رابطي الوحيد معهم، لكنني أحتفظ لهم بخصلات شعر وافرات غزيرات… اليوم وجدتني من جديد هنا. تناولت وجبة الإفطار عند صديقي عبد الله، و بعدها خرجنا لنزهة ليلية بين الحقول و المرائر. القمر بلوري مكتمل، أغنانا عن المصابيح اليدوية أو مصباح الهاتف. و نحن ندب بين أشجار النخيل و الممرات الزراعية، أحس برغبة الأشجار في احتضاني، مثلما تكتسحني رغبة مؤججة في عناق التربة و الأحجار و حيطان المباني المجاورة. هنا ليل لا مثيل له، ليل صاف بنجوم براقة و صمت زلال. أنا مدين لهذه البلدة بالشيء الكثير، فيها بذرت بذورا أينعت زهورا، ألتقي صدفة بشباب ياتون للسلام علي مخبرينني بأنهم كانوا عناصر في فصلي و هم الآن في وظائف متعددة. فيها كتبت مجموعتي الأولى، و نصف نصوص المجموعة الثانية. السفالات، بلدة يصعب أن تسقط من خريطة الأمكنة في ذاكرتي مهما عبث بها الزمن و تلاطمت داخلها أمواج مخلفات الحياة…