لم أكن أعلم أن تفوقي في المسابقة السنوية للرماية والتي تنظمها البلدة سوف تجر عليّ كل هذا البؤس الذي أعيشه الآن.. الآن، فقط، استوعبت الحزن الذي رأيته في عيني والدتي وأنا أتسلم درْع البطولة من العمدة، وبينما كان أهالي قريتنا يشربون نخب تفوقي ونجاحي ويرقصون ويغنون، لمحت أمي مكتئبة وحزينة وقالت لي بكثير من الحسرة: "هل كان من الضروري، يا ولدي، أن تصيب كل الأهداف بتلك الدقة في التصويب؟". مكثت بعض الوقت حائرا لا أدري هل يليق بي الفرح، وقد أضحيت بطل البلدة الأول في الرماية أم العكس حين رأيت الخوف في عينيها المكتظتين من الدمع؟ أخذتني والدتي بعد ذلك في حضنها، وقالت وهي تحاول أن تصطنع بمشقة ابتسامة فوق شفتيها المرتعشتين: "لا تبالي، إنها دموع الفرح، اذهب واستمتع بنجاحك".. ذهبتُ وأنا أقول همسا: "لم أكن أعلم أنك لا تجدين بالمرة الكذب، يا أماه". لم يمر أقل من شهرين حتى زارني العمدة رفقة كبار رجال البلدة قصد انضمامي إلى مجلسهم المغلق، لم يكن خفيا العداء القديم بين بلدتنا وبين الأسرة الحاكمة التي تقطن في البلدة المجاورة، فشعرت من خلال المبالغة في سرية اللقاءات بأن هناك أمرا خطيرا يتم التحضير له. علمت، فيما بعد، بأنهم يخططون لاغتيال الأميرة صباح عيد الربيع حين تخرج في موكبها تجوب بساتين البلدة. وعلمت، أيضا، أن عملية الاغتيال ستكون عند بوابة المعبد حين يعتلي أحدهم الصومعة ويطلق من فوق سهما نحو صدرها جهة القلب.. والمصيبة الكبرى هي أنني علمت بأنهم عزموا أن يتولى شرف هذا الأمر بطل الرماية الذي يتقن التصويب. وهل هناك في البلدة كلها بطل غيري؟ من المفروض أن أتوجه، الآن، إلى البلدة الأخرى متنكرا في هيئة راهب أُخفي السهم الذي سيخترق صدر الأميرة داخل جلبابي الفسيح وأتجه نحو المعبد، هناك سأجد من يساعدني على ولوج فضاء الكنيسة بسلاسة والصعود نحو الصومعة أنتظر مرور الموكب الأميري.. من المهم جدا لأي قناص أن يتعرف، أولا، على المكان الذي سيطلق منه سهمه اتجاه الهدف.. لذلك، زرت بالأمس صومعة المعبد، فبدا لي أن وضعيتي وأنا في الأعلى مناسبة جدا، ستجعلني أسدد سهمي بكل أريحية ولن يكون للأميرة أملٌ في النجاة أبدا. لا أدري بالضبط لماذا شعرت بالرغبة في الانزواء عن الناس، فقصدت فجرا حاشية النهر الذي يمر وسط غابة كثيرة الأشجار والظلال، ربما رغبت في أن أكون وحيدا أملا في بعض التركيز والهدوء قبل بدأ هبوب العاصف. أعتقد أن البلدة صارت في هذه الساعة مزدحمة بالناس جاؤوا لكي يتفرجوا على موكب الأميرة وليحتفلوا بكرنفال عيد الربيع، ربما الأميرة تضع الآن طوق الياسمين فوق رأسها قبل صعودها إلى العربة.. لقد حان الوقت لكي أنطلق إذن، وأنا أستعد لمغادرة الشجرة التي كنت أعتلي أحد أغصانها بدا لي من بعيد قارب صغير في النهر يقترب رويدا رويدا اتجاه الشط.. لم أستطع أن أميز جيدا من يركب الزورق الصغير، كانت أشعة الشمس تحجب عني الرؤية، خُيل لي بعد أن وضعت كفي على جبهتي لكي أحمي عيوني من خيوط الشمس الملتهبة أني رأيت فتاة تمسك بمجاديف القارب قادمة نحو اليابسة، كيف لفتاة أن تترك بهجة الاحتفالات بعيد الربيع وبموكب الأميرة وما يرافق ذلك من غناء ورقص إلى مكان خالٍ من البشر؟ أليس الأمر محيرا؟ عوض أن أتجه إلى البلدة وجدتني أهرول جهة الشط، فمسكت بيد الفتاة الواقفة على حافة القارب لكي أساعدها أن تقفز إلى الأرض. كنت ما زلت أمسك بيديها الناعمتين حين وقفت أمامي، فرفعتْ رأسها المزين بطوق الياسمين إلي، كان شعرها الذهبي مسترسلا تتخلل خصلاته زهرة الياسمين الجميلة، فصرت من شدة الدهشة كالصنم، حتى جفون عينيّ شعرت وكأنّ رموشها صارت حجرا لا تتحرك، كان علي أن أستوعب بسرعة هذا الموقف الغريب الذي أمامي، ترى من الذي جعل الأميرة تغادر موكبها وتأتي لهذه الغابة النائية؟ آه منك أيها الخوف من أين لك كل هذه الجرأة؟ كيف استطعتٓ أن تتسلل وتقتحم عينيها الفاتنتين، ربما في تلك اللحظة راودتني من شدة غيرتي أمنية غريبة، فقلتُ: "لو كان الخوف رجلا لقتلته !"، فجاءني صوتها عذبا عذوبة خرير مياه السواقي فقالت بكثير من الأسى: "ألا تعلم يا فتى أنهم يخططون لقتلي؟ ولقد أرسلني أبي لأختبئ في هذه الغابة، قال لي بأني سأكون آمنة هنا حتى حلول صباح يوم غد". لا أدري ماذا أقول لها؟ كيف أخبرها بأن كل أراضي الكون آمنة إلا هذا المساحة الصغيرة جدا من الأرض حيث نقف الآن، والدك أيتها الأميرة إذ يحييك يقتلك، هل من حسن حظي أن فريستي اختصرت علي مشاق وخطورة المغامرة فأتت طيعة إلى حتفها، أم هو سوء حظ الفريسة المسكينة حين ولجت ومن حيث لا تدري عش الأفعى تنشد الأمان؟... مر علينا بِعض الوقت لم نتكلم، كنت أفكر في صمت في الصيغة المثلى لاغتيالها، عوض صومعة المعبد كما كان مخططا من قبل سأصعد من جديد الشجرة ومن هناك أباغثها بسهم يخترق صدرها جهة القلب. وفجأة قالت: "هؤلاء الأغبياء الذين خططوا لقتلي ألم يجدوا في شهور السنة كلها غير أيام عيد الربيع؟ ألم يستوعبوا أنهم بذلك سيفوِّتون على الأطفال والبسطاء من الناس فرحة الاحتفال؟ لا أعتقد أن عيد الورود سيُحتفى به من جديد بعدما صار مقترنا بالقتل والدم، ليس الموت هو ما يرعبني بل حينما تموت الفرحة في البلدة، من سيغري الأطفال باللعب، ومن أين سيأتي الشعراء بالإلهام في بلدة يُغتال فيها الربيع؟".. شعرت بوخز في صدري وكأن سهما غادرا قد أصابني جهة القلب، فبت تلك الليلة أحرص الأميرة التي كنت قبل ساعة أتحين الفرصة لقتلها، من يصدق هذا؟ في الصباح، حلّ الجنود في الغابة يبحثون عن الأميرة، حيث استثب الأمن وسُجنت كل المجموعة التي خططت للاغتيال، فخرج برّاح السلطان يصيح في الناس عن منع مهرجانات الاحتفالات بعيد الربيع حتى يتم القبض على القناص الذي ما زال هاربا، يا له من سلطان جائر، كيف يرهن فرحة العيد بالقبض عليّ؟ وماذا لو لم يتمكن جنوده من العثور على مخبئي؟ وماذا لو أتى الربيع السنة المقبلة وقد غادر الشعراء البلدة؟ فمن ترى سيتغزل بقدوم الياسمين إذن؟ عندما وصلتُ البلدة قاصدا قصر السلطان وجدتها حزينة وصامتة وكئيبة، كان الجنود يعتقلون كل من خالف الأوامر واحتفل، ما إن أسلمت نفسي لحراس القصر حتى خرج البرّاح يعلن للناس القبض على القناص. قبل يوم المحاكمة، ذهلت من زيارة الأميرة إلى زنزانتي، كانت غاضبة جدا ومتوترة، فقالت بكثير من العتاب: "لم أكن أعتقد يا فتى أنك بليد جدا، كيف توهمتَ للحظة أن السلطان قد يعفو عنك لأنك يومها أبقيت على حياتي ولم تقتلني؟ ألم يكن من الأفضل أن تظل هاربا عوض أن تُشنق في ساحة البلدة؟". ابتسمتُ لها وقلتُ: "ليس موتي هو الأسوء، بل حينما تموت الفرحة في نفوس الشعب، من سيُغري الأطفال باللعب في بلدة تُغتال فيها الأعياد؟". لا أعلم لماذا امتعض وجه الأميرة وهي تضع يدها على قلبها كما لو أصابها هناك وخز إبرة؛ لكني كنت أعلم جيدا أنني لم أصوّب طوال حياتي سهما ناجحا وموفقا كما سددته قبل قليل. *كاتب مغربي يقيم في هولندا