أثناء قراءة سيناريو فيلم " The Heat of the Night" الذي صدر عام 1967، اكتشف سيدني بواتيي أن هناك مشهدا يجمعه هو ضابط الشرطة الذي يحقق في جريمة قتل، مع شخص يشتبه في كونه مرتكبها. خلال المشهد الأصلي، يبادر المتهم بصفع ضابط الشرطة دون أدنى رد فعل من الضابط.. ولا يجوز لمتهم أن يصفع ضابطا، ولا يجوز أن يظهر ذلك في الفيلم فقط لأن الضابط أسود البشرة ! لذلك بادر بواتيي وطلب من القائمين على الفيلم تغيير اللقطة، وأن يبادر الضابط -أسود البشرة- برد الصفعة في لحظتها دون تردد، وذلك ما حدث ! كان مشهدا خياليا جاء في أوج عنصرية وتسلط البيض واليمين المتطرف، وفي أوج الصراع حول الحقوق المدنية للأميركيين من أصل أفريقي، وهو صراع خلف ضحايا كثر في مقدمتهم مالكوم إكس، ومارتن لوثر كينغ جونيور.. وخلد التاريخ هذا المشهد ! قل لا برغم الظروف الصعبة التي عاشها بواتيي خلال بداياته في عالم السينما، إلا أنه كان حريصا على أن يقول "لا" للعديد من سيناريوهات الأفلام التي تقترح عليه، إذا ما رأى أنها تقدم الرجل الأسود بطريقة غير صحيحة. وعندما كانت هوليود تفرض عليه كممثل أسود التوقيع -مع بداية تصوير بعض أفلامه- على وثيقة تثبت أنه بريء من الارتباط بأسماء قيادات تاريخية لحركة الحقوق المدنية كان يرفض. وظل يؤكد دائما تقديره واحترامه لتلك الأسماء المغضوب عليها من طرف الأجهزة الأمنية الأميركية، وبعضهم كانوا من أصدقائه. وكان يؤيده في موقفه ذاك مخرجو ومنتجو أفلام اشتغل فيها، وهم من البيض الذي فتح الله بصيرتهم. الأصل والهوية سيدني بواتيي، لم يتنكر لأصله يوما، وهو المنحدر من أسرة فقيرة عاشت بجزيرة كات آيلاند بالباهاماس، وأبوه كان فلاحا يزرع الطماطم، وأمه ربة بيت أفنت حياتها لأجل إسعاده هو وإخوته. عاشوا تحت خط الفقر، لدرجة أن سيدني كان يذهب أحيانا إلى المدرسة مرتديا سروالا صنعته له أمه من ثوب كيس الدقيق.. فيذهب والعلامة التجارية للشركة المصنعة للدقيق ظاهرة للعيان ! لم يكد يبلغ سن المراهقة حتى سافر إلى ميامي بحثا عن عمل، وهو طفل شبه أمي لا يكاد يعرف من اللغة الإنجيلزية شيئا، فاشتغل بغسل الصحون، وذلك أقصى ما كان يجود به الرجل الأبيض في بعض المناطق على الرجل الأسود، ثم عمل بمهن مختلفة وانتقل من مكان إلى مكان بحثا عن الأفضل.. كان يقول إنه علم أنه ولد ببشرة سوداء في كات آيلاند، لكن أحدا لم يخبره بأن ذلك اللون هو إدانة له.. كان يعيش في جزيرته كأي طفل عادي، ولم يحس بتلك الإدانة إلا عندما رحل إلى ميامي، ثم بعدها إلى مدن وولايات أميركية أخرى قبل أن يستقر بنيويورك.. مقاومته لتلك العنصرية البغيضة كانت تنبع من شيء واحد، حكاه في كتابه "معيار رجل" (The Measure Of a Man).. قال إنه عندما وضع رجله على الأراضي الأميركية وواجهه سؤال الهوية عندما اصطدم بجبل العنصرية، وجد الجواب واضحا ناصحا جليا.. لقد علم من يكون فأنير له الطريق ! تربية ومبادئ رباه والداه على الجدية وحب العمل وحب الحياة.. حتى إن والدته وقد أخذته يوما إلى شاطئ البحر في الجزيرة الصغيرة التي يحيط بها البحر من كل جانب، تركته -وهو الطفل الصغير- يصارع الأمواج الصغيرة على الشاطئ ليتعلم السباحة وتدبير شؤونه بنفسه.. يحكي أنه تعلم من تلك التجربة الشيء الكثير.. كان يلعب ويمرح مع رفاقه، ويخوض مغامرات كادت بعضها تودي بحياته، لكنه تعلم الدرس جيدا.. تعلم أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة بتعبير الراحل محمود درويش، وتعلم أن الحياة نعمة، وأن النجاح والسعادة ثمرة صناعة أساسها الثقة والصبر والمثابرة. وتعلم أيضا أن الآخر متى استهزأ بك أو احتقرك، فعليك أن تبرهن له بالفعل وليس بالقول أنك الأفضل، وأن ترفع سقف الطموح والنجاح عاليا ! كان يرى أباه وهو يكد ليل نهار ليجلب لهم ما يسد رمقهم، وكان يرى أمه وهي تفني عمرها في تدبير شؤون البيت والأطفال دون كلل أو ملل.. ووسط تلك الظروف الصعبة، كان يجدان الوقت للترفيه عن أبنائهم واللعب والضحك والاستمتاع بالحياة.. بتلك القيم والمبادئ التي تعلمها في منزله البسيط بكات آيلاند، قاوم سيدني بواتيي نظرات الاستصغار والاحتقار التي كان يراها في عيني العنصرية في كل مكان.. عالم غريب وقصة دخول عالم برودواي وهوليود قصة غريبة تبرهن على أن الرجل فعلا علم من يكون فلم تزده موجات العنصرية إلا قوة وصمودا.. وهو يغسل الصحون في أحد المطاعم ذات يوم، اطلع على جريدة باحثا عن عرض عمل في غسل الصحون لكن بأجر أفضل.. لم يكن يتصور وهو في تلك السن أن يبحث عن عمل غير غسل الصحون.. فوجئ بإعلان في الجريدة يطلب عناصر لها خبرة بالتمثيل بغرض التوظيف.. عمل ووظيفة وأجر، هذا عز الطلب بالنسبة للمراهق الصغير، ولا يهم أن يكون في مجال غير مجال غير الصحون.. تقدم بثقة واستقبله المشرف على الامتحان وقدم إليه سيناريو لقراءة مقاطع منه.. سيدني، وقتها، بدأ يقرأ ويتلعثم ويتوقف ويعود للبداية كأي طفل بدأ تجهي الحروف لتوه، فما كان من المشرف على الامتحان إلا أن قام وحمل سيدني وألقاه خارج البيت ! لم يتوقف بعدها، بل أصر على أن يكرر التجربة، وبدأ داخل المطعم الذي يغسل صحونه، يتعلم الإنجليزية -نطقا وكتابة- بمساعدة أحد رواد المطعم.. بعد نهاية وقت العمل، يجلسان معا بإحدى الطاولات ثم يبدأ سيدني بقراءة مقال في الجريدة ونطق الكلمات بشكل صحيح، ويوما بعد يوم بدأت تتحسن علاقته بالإنجليزية، ثم ما لبث أن تقدم للتمثيل مرة أخرى ورُفض مجددا، واقترح على المشرفة على المسرح أن يشتغل عندهم ساعيا يعد المشروبات مقابل أن يتعلم ! وكان له ذلك، وجاءته الفرصة ليمثل، وكان مشاركته الأولى كارثية، حيث اختلط عليه ترتيب فقرات حواره، ما أربك من يقف أمامه من ممثلين في المسرحية، فنشأ وضع غريب جعل الجمهور يغرق بالضحك معتقدين أن نص المسرحية كان بذلك الشكل الكوميدي. وانطلق القطار، وأصبح سيدني ينطلق من نجاح إلى نجاح، فشارك في أفلام تعتبر الآن من كلاسيكيات هوليود، جعلته يفوز بالأوسكار عام 1964 عن دوره في فيلم "زنابق الحقل" "Lilies of the Field" الذي كان قد صدر عام 1963. وكان أول رجل أسود يحصل على الأوسكار، مثلما كان أول رجل أسود يقبل فتاة بيضاء في شريط سينمائي ! طريق غير وردية والقول إن سيدني انطلق من نجاح إلى نجاح لا يعني البتة أن طريقه كانت مفروشة بالورود، بل كان الطريق صعبا وشائكا وحالكا.. لم يكن يُقترح لكل الأفلام الكبيرة، وكان يرفض بعضها لإظهارها الرجل ذو البشرة السوداء في صورة غير حقيقية، ما اضطره ليفتح متجرا صغيرا للبيع اللحوم والوجبات السريعة ليلبي حاجات بيته، وزوجته وبناته، وكانت تمر عليه أيام وليس في جيبه الشيء الكثير. وحتى المتجر البسيط اضطر لإغلاقه في نهاية المطاف بعد تراكم المشاكل.. أضف إلى ذلك أن الظروف كلها كانت ضد فكرة المساواة بين المواطنين من جميع الألوان، والرجل الأسود كان يجب أن يبقى دائما في مرتبة أدنى.. ويحكي سيدني أن هذه النظرة كانت تظهر حتى على وجوه بعض من شارك معهم في تمثيل بعض الأفلام.. ليست سينما فقط لكن برغم ذلك، ووسط صقيع العنصرية، كانت هناك نقاط ضوء تمثلت في بعض المخرجين والمنتجين الذين كانت لهم رؤية وتبصر، عملوا على إصدار أفلام يشارك فيه سود، وتروج لخطاب التآخي والعدل والمساواة بغض النظر عن لون البشرة. ومن أبرز تلك الأفلام كان فيلم "The Defiant Ones"، الذي يحكي قصة سجينين يفران من سجنهما ويتيهان وسط الحقول، ومجبران على التعاون ليبقيا على قيد الحياة.. وآخر لقطة في الفيلم تعد من المشاهد السينمائية الرائعة التي ألهمت كثيرا من المخرجين لاحقا، إذ ينجح الرجل الأسود (سيدني بواتيي) في الوصول للقطار المتحرك، لكن صديقه الأبيض (توني كورتيس) لم يقدر على ذلك وقد أنهكه التعب، فما لبث أن قفز سيدني وعاد إلى صديقه، مفضلا البقاء معه وخوض المغامرة معا، عوض الفرار بجلده لوحده.. فالمصير واحد ! مناقشة بديعة لفكرة التعايش بين الألوان والأعراق، وخاتمة ملهمة تؤكد أهمية التعاون لأن المصير مشترك، بعيدا عن ظلمات سجن العنصرية والتمييز الظالم. صعوده إلى الخشبة للحصول على جائزة الأوسكار في تلك السنوات القاسية كان حدثا ألهم كثيرا من الأميركيين من أصل أفريقي، ولم تكن تلك الخطوات القليلة التي خطاها سيدني متوجها من كرسيه نحو الخشبة مجرد خطوات عادية، بل كانت في حقيقتها خطوات عملاقة، قفز بها الرجل على حواجز لا حصر لها من العنصرية والحقد والاحتقار للرجل الأسود.. تلك الخطوات الملهمة، صنعت قمما أميركية في مجالات مختلفة أحدها مجال الإعلام، وأوبروا وينفري -كمثال وليس للحصر- لا تنفك تردد أن تلك اللقطة غيرت حياتها للأبد، وجعلتها تتساءل عن هويتها وتبصر أنه يمكن لها أن تصنع من نفسها شيئا ما مستقبلا. رحل سيدني بواتيي عن عالمنا قبل أيام، ورحلت معه إحدى آخر نسمات زمان السينما الجميل، الذي كان يحرص رواده على أن تصل كلمة الفن السابع للجميع في قالب فني ترفيهي راق. جاء طفلا من جزيرة صغيرة لا يكاد يسمع بها أحد، ورحل واسمه عنوان لمدرسة سينمائية مهمة أركانها المبدأ والجد والمواجهة والتفوق.. لم يأت إلى هوليود طفلا مدللا ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، بل حفر مكانته ودوره وضحى لأجل ذلك، ومع ذلك لم يزده كفاحه إلا تواضعا وحكمة، ولم ينطلق يخرق الأرض مختالا فخورا.. رحل سيدني بواتيي ورفاقه ما يزالون يبحثون -مجددا- عمن يوجه الصفعة للمتهم بجريمة القتل..