جعل المغرب التنمية البشرية خيارا لا رجعة فيه منذ بداية الألفية الثالثة، حيث انخرط منذ سنة 2000 في مشاريع كبرى للتنمية المستدامة وخاصة ذات البعد الإنساني والاجتماعي. لكن بالرغم من كل الجهود التي تم بذلها في هذا الصدد، فإن هناك تحديات كبرى اليوم، تنتظر رفعها من لدن الدولة المغربية وذلك للرفع من " مؤشر التنمية البشرية " باعتباره مقياسا حقيقيا لتطور مستوى التنمية البشرية . فما هي هذه التحديات؟ وما هي السبل لرفعها؟ لكن قبل ذلك، ما المقصود بالتنمية البشرية؟ حسب تقرير المندوبية السامية للتخطيط حول مؤشرات التنمية البشرية بالمغرب لسنة 2020، " يشير مفهوم التنمية البشرية إلى عملية توسيع نطاق الخيارات المتاحة للأفراد وتحسين مستوى رفاهيتهم. ويهدف إلى ضمان الممارسة الكاملة لحقوق الإنسان ". والقصد هنا توسيع في الحريات والقدرات الموضوعية للناس، وفي التعليم وفي الصحة وفي السياسة، وفي الاقتصاد وفي البحوث العلمية…إلخ. وضمان ممارستهم الكاملة لحقوقهم في التعبير والرأي وفي المعلومة (…)، وذلك استنادا إلى عالم الاقتصاد الهندي " أمارتيا صن " ( Amartya Sen) وهو حائز على جائزة نوبل في 1998. من جانب آخر، لا يمكننا الحديث عن التحديات التي يجب رفعها اليوم من لدن المغرب للرفع من مستوى التنمية البشرية من دون ملامسة واقع حال هذه الأخيرة أو لنقل مستواها ببلدنا. التنمية البشرية: واقع الحال يذهب تقرير المندوبية السامية للتخطيط حول مؤشرات التنمية البشرية ببلدنا لسنة 2020، إلى أن الجهود التي بذلها المغرب منذ سنة 2000 ولا سيما المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أطلقها ملك البلاد سنة 2005 والإصلاحات التي قام بها في مجالات الاقتصاد والصحة والتعليم والحكامة، أدت إلى تحسن مستمر لمؤشر التنمية البشرية وجميع مكوناته، أي أمل الحياة عند الولادة، والمدة المتوسطة للدراسة، والمدة المتوقعة للدراسة، والناتج الداخلي الإجمالي للفرد. لكن بالرغم من كل ذلك، ما يزال الأداء دون طموحات المغاربة وهشا لمواجهة مختلف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. كما كان (ومازال) لجائحة كوفيد -19 تأثير مهم على مختلف جوانب التنمية البشرية ببلدنا مما ترتب عنه تباطؤ في هذا المجال. وهو ما يعني ضرورة إعداد استراتيجيات مناسبة لإعادة الاستقرار، تستهدف على وجه الخصوص الفقراء والفئات الهشة حتى لا يترك أي أحد خلف الركب. وسجل تقرير المندوبية السامية للتخطيط كذلك، ارتفاعا لمؤشر التنمية البشرية بالمغرب من 0,458 سنة 1990 إلى 0,676 سنة 2018 أي بتحسن إجمالي بنسبة 47,7 بالمئة. ونتيجة لذلك، تم تصنيف المغرب في سنة 2018 في المرتبة 121 من بين 189 دولة ومنطقة، ضمن فئة البلدان ذات التنمية البشرية المتوسطة، والتي يبلغ متوسط مؤشرها 0,634. وتبين الدراسة التي أنجزتها المندوبية السامية للتخطيط المتعلقة بهذا المؤشر على المستوى الجهوي، وجود تباينات بين الجهات من حيث وثيرة التحسن لا سيما بين سنتي 2004 و 2014 حيث إن: – جهات: مراكش – آسفي.، وطنجة- تطوان – الحسيمة.، والشرقية، سجلت معدل تزايد متوسط سنوي لمؤشر التنمية البشرية أعلى من المتوسط الوطني. – وعلى العكس من ذلك، سجلت جهات: الجنوب.، و بني ملال – خنيفرة.، والدارالبيضاء – سطات.، وسوس – ماسة.، ودرعة – تافلالت، معدل تزايد متوسط سنوي أقل من المتوسط الوطني. وحسب التقرير أعلاه، يتضح من خلال تحليل الجوانب القطاعية للتنمية البشرية أنه تم تسجيل تحسن مستمر فيما يخص الصحة والتربية والتعليم وارتفاع نصيب الفرد من الناتج الداخلي الإجمالي ( دخل الفرد). وانخرط المغرب في تحسين مسلسل تعزيز المساواة بين الجنسين من خلال مجموعة من الإصلاحات الدستورية والمؤسساتية والتشريعية (…). ولكن، بالرغم من كل ذلك يظل هذا التحسن ، غير كاف، ويتميز بفوارق اجتماعية وترابية. ويستدل التقرير أعلاه على عدم كفاية تحسن مؤشر التنمية البشرية بمجموعة من المعطيات الكمية والكيفية منها: أن الأمية تبقى ظاهرة ذات طابع أنثوي وقروي. ويظهر تحليل نصيب الفرد من الناتج الداخلي الإجمالي وجود تفاوتات على المستوى الجهوي، حيث يتراوح بين 49654 درهما بجهة الدارالبيضاء – سطات و 16747 درهما بجهة درعة – تافيلالت. ويقدم هذا التقرير، معدلات تتعلق بالفقر النقدي، والفقر متعدد الأبعاد، ومعدل الهشاشة الذي بلغ سنة 2014 على الصعيد الوطني 12.5 بالمائة (8 بالمئة بالوسط الحضري و 19 بالمئة بالوسط القروي). وقد تطرق التقرير ذاته، إلى آثار جائحة كوفيد -19 على التنمية البشرية، مبرزا ذلك على أربعة مستويات: ولوج الخدمات الصحية، والتعليم، ومعيشة السكان، والمساواة بين الجنسين. وقد أظهرت نتائج البحث الذي أجرته المندوبية السامية حول تأثير فيروس كورونا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي على الأسر: – أن ما يقرب من 50 بالمئة من الأشخاص المصابين بأمراض مزمنة و 36 بالمئة من الأطفال في سن التلقيح و 30 بالمئة من النساء المعنيات بالحصول على الاستشارة قبل الولادة وبعدها، لم يستطيعوا الوصول إلى الخدمات الصحية خلال فترة الحجر الصحي. – وفيما يخص التعليم عن بعد، 18 بالمئة من الأسر (29 بالمئة بالوسط القروي) لديها أطفال متمدرسون لكن لا يتابعون حصص الدروس عن بعد إطلاقا. – 34 بالمئة من الأسر حرمت من مصادر الدخل بعد توقفها عن ممارسة نشاطها وهو ما أدى إلى الزيادة في مستوى الفقر والهشاشة. – انخفاض دخل العديد من النساء المشتغلات وارتفاع البطالة في صفوف النساء. هذه المعطيات وغيرها كثير مما يقدمه تقرير المندوبية السامية لمؤشرات التنمية البشرية بالمغرب سنة 2020، تفرض على المغرب، أو لنقل على الحكومة الحالية والمجالس الجهوية والمجالس الجماعية ومجالس العمالات والأقاليم وباقي الفاعلين المعنيين بقضايا التنمية ببلدنا وطنيا وجهويا ومحليا، رفع مجموعة من التحديات الجسيمة إن نحن نريد فعلا رفع منسوب الثقة لدى المواطن (ة) في تدبير ومدبري الشأن العام ببلدنا. في التحديات: يمكننا تجميع التحديات التي سطرها تقرير المندوبية السامية للتخطيط فيما يلي: عموما، يجب الحد من الفوارق المجالية والاجتماعية في مجالات الصحة والتربية والتعليم والاقتصاد. وبالتركيز على مجال التعليم يجب تعميم التعليم على المستويين الأولي والثانوي، والقضاء على الهدر المدرسي، والتقليص من اكتظاظ الأقسام الدراسية لتحسين جودة التعليم، ومحو الأمية، وتعزيز جودة التعلم. لكننا نعتقد أن على ذوي القرار السياسي ببلدنا، أن يأخذوا على محمل الجد ما أكدته مختلف التقييمات الدولية لأداء الأنظمة التربوية ومضمونه: أن مستوى جودة التحصيل التعليمي للتلاميذ المغاربة هي أقل من المتوسط الدولي، وقد تم تقديم دلائل رقمية مهولة عن ذلك. وفيما يتعلق بالناتج الداخلي الفردي، هناك ثلاثة تحديات في غاية الأهمية حسب التقرير ذاته وهي: الحد من التفاوتات الاجتماعية والترابية.، والحد من الفقر ولا سيما بالمناطق القروية.، وتسريع عملية التقارب بين الجهات من حيث مساهماتها في الثروة الوطنية. وفيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين، هنالك بعض التحديات التي تستدعي مزيدا من الجهود للتغلب عليها، وهي: القضاء على زواج القاصرات وخاصة الفتيات اللاتي تقل أعمارهن عن 18 سنة (38722 طلب زواج سنة 2017). وتثمين العمل المنزلي للنساء. وتعزيز المشاركة الاقتصادية للمرأة. ومحاربة الفقر لدى النساء. ومكافحة العنف ضد المراة. ونعتقد أن جائحة كورونا أعادت إلى الأدهان، حتى بالنسبة لصناع العولمة "الليبراليون الجدد"، أن اكبر تحد اليوم هو ضرورة استعادة الدولة لأدوارها الاجتماعية. ومن تم فسؤال الساعة هو: كيف يمكن للدولة أن تستعيد هذه الأدوار الاجتماعية للحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي؟ في سبل تحسين التنمية البشرية بالمغرب: إذا كان تقرير المندوبية السامية يقترح مجموعة من السبل في غاية من الأهمية لتسريع التنمية البشرية ببلدنا، ولتقليص التفاوتات المجالية في مجالات الصحة والتربية والتكوين، وفيما يخص المساواة بين الجنسين. فإن جل الاقتصاديين يعتقدون أنه من دون تحقيق معدل نمو اقتصادي لا يقل عن 5,5 أو 6 بالمئة سنويا، يبقى الحديث عن الحد من معضلات البطالة والفقر والهشاشة، مجرد كلام استهلاكي/ سياسي. وقد جاء في التقرير أعلاه، ضمن السبل في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية ضرورة " تعزيز النمو الاقتصادي المستدام والشامل". ونوضح في هذا الاتجاه، أن النمو الاقتصادي ما هو إلا تعبير عن الجانب الكمي/ المادي/ المرئي من التنمية، ويبقى أن توزيع حصاده وحصيلته بشكل عادل ومنصف بين المواطنين والمواطنات في كل أرجاء البلد الواحد هو الذي يؤسس للبعد الاجتماعي للتنمية الشاملة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبشرية والإدارية والبيئية. مجمل القول، نعتقد أن مشكلتنا ليست في عدم وجود كفاءات، أو في قلتها، لتنزيل مخرجات هذا التقرير أو التقرير العام المتعلق بالنموذج التنموي الجديد أو تقارير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أو القوانين التنظيمية للجماعات الترابية، لتسريع التنمية البشرية المستدامة، إنها في العقليات. فلا يمكن تنزيل مخرجات دراسات ميدانية متطورة تتم بوساطة كفاءات وطنية، بعقليات بيروقراطية لا تومن بالتدبير التشاركي. ونختم بحكمة الخبير الدولي في علم الإدارة " بيتر دركار" (P.Druker) ومضمونها: ليس هناك دول متخلفة وإنما هناك دول تعاني من نقص في التدبير. « il n'y a pas de pays sous-développés, il n'y a que des pays sous- gérés »