علاقة الفقيه بالسياسة هي علاقة الدين بالسياسة، الأول أمر معياري مطلق، الثاني فن الممكن نسبي لا حقائق فيه. فإذا كان الدين لا يقبل الصلاة دون وضوء مثلا، فانه يضع في المقابل التيمم عند استحالة الوضوء. وكلها أمور لا نقاش فيها، إذ لا يمكن التيمم مع وجود الماء الا بعذر، فالأمر معياري مطلق غير قابل للنقاش، غير قابل للتجزيء، غير قابل للتفاوض. على عكس السياسة، كلها مسائل نسبية، كلها توافق، كلها تفاوض، لا حقائق فيها، وبالتالي فأمورها غير قابلة لفرضها على الناس. لكن ماذا لو حشر الفقيه أنفه في قضايا السياسة، ما الذي يقع؟ الفقيه نراه على أنه يتكلم من دائرة المعيارية، أي من دائرة المطلقات والحقائق الغير قابلة للنقاش والتفاوض، والمعياري عنده هو مراد الله من كلامه، ومراد الله لا يُرد، وإذا كان لا يرد فإن المؤمن به يستشهد ويضحي من أجله. فعندما يخوض الفقيه من مرجعيته هذه في أمور السياسة، يقوم بوظيفتين أساسيتين. وظيفة رقابية ووظيفة تبريرية، وتختلف نتائج هذه الوظيفتين على حسب موقع الفقيه، فتواجده داخل النسق ليس كتواجده خارج النسق. ماذا يعني ذلك؟ أولا، الوظيفة الرقابية هي ممارسة الرقابة على السلوك السياسي، محاسبته وتقييمه من جهة المعيارية. أي عندما يرى الفقيه جواز (تبرير) أو حرمة (منع) سلوك أو قرار سياسي فانه يرى ذلك مرادا لله من كلامه، لان حديث الفقيه مرتبط دائما بالتأصيل من النصوص الشرعية. وهو أمر يخالف الخصوصية المدنية للسياسة، إذ هذه الأخيرة تُعنى بشؤون المجال العام، وليس المجال الخاص. فالمجال العام مجال الجميع وللجميع، بغض النظر عن معتقداتهم. وبذلك فرقابة الفقيه على المجال السياسي لا تَعني الجميع، وبالتالي اقتحام المجال السياسي من لدن الفقيه بمرجعيته المعيارية المطلقة، يؤدي إلى الصراع لا التوافق، إذ التوافق نتيجة الحوار والنسبية، والصراع نتيجة المطلقات والاستنجاد بسلطة أعلى من سلطة الإرادة والإرادة العامة. أما الوظيفة التبريرية للفقيه، أي إضفاء المشروعية على السلوك والقرار السياسي، فتظهر بارزة، عندما يتكلم الفقيه من داخل النسق السياسي، أي عندما يكون فاعلا فيه. ويتحول دوره من الرقابة إلى التبرير، وإضفاء الشرعية الدينية (المطلق) على القرار السياسي (النسبي)، وبالتالي إضفاء القداسة على الفعل السياسي، وإلحاق النسبي بالمطلق والممكن بالنهائي. وتحويل القابل للنقاش والتفاوض إلى حقيقة غير قابلة لمعايير العقل. الأمر الذي ينعكس على الفعل السياسي للحركات الإسلامية التي تستعمل المرجعية الدينية في المجال السياسي. هاتين الوظيفتين، الرقابة والتبرير، يتجليان أساسا، في نموذجين للحركة الإسلامية في المغرب. النموذج الأول نموذج العدل والإحسان، باعتباره خارج النسق السياسي، يمارس الوظيفة الأولى، الرقابة، ويعرض أمور السياسة على المرجعية الدينية ويحكم ببطلان كافة العملية السياسية، اعتقادا منه أنها تخالف مقتضيات المرجعية الدينية، فيشترط طهرانية المجال السياسي ليشارك فيه، خوفا أن يدنّس بدنس السياسة. والنموذج الثاني، نموذج العدالة والتنمية، وقد مر سابقا بتجربة الرقابة، ولكن اندماجه ضمن النسق السياسي، وكونه حاليا فاعلا أساسيا أو شبه أساسي في العملية السياسية، واقتناعه بكونه صانعا أو على الأقل مساهما في العملية السياسية، تكتسب هذه الأخيرة مشروعية دينية وبعدا قدسيا، لأنه مقتنع تماما أنه يديرها بمرجعيته الدينية، ولأنها كذلك، فانه لا يمكن أن يعارض المقدس، ويقر بنسبيته، الأمر الذي يجعله يقوم بالتبرير، ومعه يظهر كل معارض خارجي وزنديق يخالف الحقيقة ويجحدها. إن قضية الدين والسياسة، إذا نجح اجتماعهما سابقا في بيئة بدوية أعرابية، أو دبرت علاقتها بنوع من التمايز وتحديد رقعة كل منهما داخل المجال السياسي نفسه، فانه اليوم يستحيل الحديث عن ذلك لما تعرفه البشرية من اختلاف وتنوع يغلب عليه طابع العقلانية والعلمية والنسبية، ويعادي كل ما له علاقة بسلطان المطلقات والمقدسات، وهذا الأخير اعترفت به العقلانية والحداثة وجعلت له دائرته الخاصة واحترمته. وبالتالي لا مجال لقلب الموازين والعودة إلى الوراء والوقوف ضد حركة التاريخ. فحتى هذا القلب والعودة التي تنادي بها الحركات الدينية، لم نعد نراها في أفعالهم ولا في خطاباتهم، إنما تقلص مجاله أكثر، وزواله حتى في العقول أمر حثمي ومسألة وقت فقط. * العربي الموصار / باحث في الدراسات السياسية والدينية