عندما تنظر من الخارج، قد يوهمك التنظيم أنه يقدم نفسه بالفعل بديلا عن النظام السياسي الحاكم، وعن الوضع العالمي الراهن. إذ يدعي هذا الكائن الذي نتحدث عنه أنه يعتمد العقلانية والمأسسة والديموقراطية وينتصر للعلمية ويعادي التقليد والخرافة..الخ، وفي المقابل يصف الواقع الذي يعيش فيه والذي يسعى إلى تغييره، على انه واقع تحكمه الزبونية والقبلية والمادية والتخلف والسلطوية والاستبداد..الخ. غير أنه عندما تدخل إلى دهاليز هذا الكائن، تجد فيه كل ما يدعي معاداته وزيادة. ليس هذا حكم قيمة بل سنفصل فيما نقول، وسنورد بعض التناقضات التي يعيشها التنظيم. أكبر قضية يدعي أي تنظيم أنه يشتغل على توفيرها ويضحي من أجلها، هي الحرية. هذه الحرية التي يتهم دائما النظام الحاكم بمصادرتها، هذه الحرية التي يضعها غاية لكل ما يقوم به. هذه الحرية التي ينادي بها في الشعارات في المهرجانات في الشارع في الجامعة، في الكتابات في عناوين المحاضرات والندوات..الخ. ولكن هل بالفعل يوفر هذا الكائن هذه الحرية داخله، وهل بالفعل يربي أفراده عليها، وهل يسهر على تنشئة أعضائه على قيم الحرية، أم العكس؟ إن أول ما نجد في التنظيم هو خط رسمي (دين رسمي، تصورات رسمية، مواقف رسمية..) وكل من حاول تجاوز هذا الخط يصبح من المغضوب عليهم وينبذ ويهمش، فيقتل ويصير إلى الزوال، إذ لا مجال للحرية هنا، فمثل هذه الحرية تهدد الإيديولوجية الرسمية التي يقوم عليها التنظيم، إذا، فالحرية في التنظيم لديها خط أحمر، ومحدودة بترسانة من المنطلقات والحقائق الغير قابلة للنقاش والتفاوض والمراجعة. اذا إنه نفس الأمر الذي يقوم به النظام السياسي، إذ يطحن كل من يهدد الإيديولوجية التي يقوم عليها. إذا كيف يستقيم أن ندعي أن التنظيم يسعى إلى الحرية وغيره يصادرها، بينما كلاهما يعملان بنفس الطريقة. هذا التناقض الأول. (أعطي مثالا إجرائيا، بالصلاحيات المطلقة للمرشد عبد السلام ياسين. فإن كان أعضاء جماعة العدل والإحسان بالفعل يسعون إلى الحرية والتحرر من الاستبداد، فعليهم أن يحرروا تنظيمهم أولا من وصاية القيادة). التناقض الثاني، دائما ما يوهمنا التنظيم على أنه فضاء المساواة، فضاء يستوي فيه جميع الأعضاء، فضاء لا فرق فيه بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى، فضاء لا تنال فيه الريادة والقيادة إلا على أساس الكفاءة. فضاء يجسد بالفعل قيمة المساواة بما هي قيمة من قيم الديمقراطية، فضاء يوهمنا على أنه ينتصر للعقلانية والمؤسسات، بل ويسعى إلى تحقيقها خارجه. ولكن لا نلبث إلا قليلا حتى نرى أن هذا الفضاء يعمل بعكس ما يدّعي، إذ تلعب فيه عقلية العصبية والقبلية والولاءات دورا كبيرا في تشكيل بنياته، ونجد فيه مثلا، أن أعضاء منطقة كاملة يعطون ولاءهم الكامل لفلان وعلان، وينتصرون لآرائه بدون تفكير ويخضعون لقراراته بدون أدنى معارضة. ونجده أيضا يقرب المطيعين ويبعد المزعجين، وذلك على أساس الولاء لا على أساس الكفاءة، ونجد فيه أيضا الهبات والتنويه وصناعة الأعيان، فالهبات فيه تعطى على شكل التزكية والتنويه ولفت انتباه الآخرين لشخص معين. وبذلك يصنع فيه الأعيان، الذين تعود إليهم القيادة عند الحاجة. وأيضا، نجد فيه أن شرعية القول ومكانة الرأي مرتبطان دائما بما سبق، ومرتبطان أكثر بأقدمية العضو، ومدة عضويته في التنظيم، فلا يقبل رأي كل ملتحق جديد ولو كان كفئا، ولكنه يؤخذ برأي الحاج فلان والمناضل فلان والقيدوم علان، ولو كان لا يحسن حتى كتابة اسمه، إنها شرعية الأقدمية لا شرعية المؤسسات. وكل ما ذكرناه سابقا يتنافى مع مبدأ وقيمة المساواة التي ما فتئ وادعاها ذلك الكائن. وذاك تناقض ثان أوجزنا الكلام فيه. التناقض الثالث، ليس هناك نشاط ما أو شعار ما أو صرخة في مكان ما لتنظيم ما، لم نسمع فيه نداء العدالة الاجتماعية، انه يدعي أنه ينادي ويطلب ويحتج ويعارض من أجل هذه القيمة، العدالة الاجتماعية، فهل بالفعل يقيمها أولا هذا التنظيم داخل دهاليزه ويحرصها هناك ويربي عليها أعضاءه، أم أنها فقط شعار تلفه الألسن في الخارج ويختفي في الداخل؟ نعم إننا نعترف أن التنظيمات تهتم بالجانب الاجتماعي لأعضائها نوعا ما، وخاصة إذا كان خطها الرسمي ينادي بالاشتراكية ونبذ الطبقية. ولكن إلى أي حد يمكن لنا الحديث عن وجود عدالة اجتماعية داخل التنظيم، في الوقت الذي يقرض فيه عضو بسيط تكاليف التنقل ليحضر نشاطا ما بينما يأتي القيادي بسيارته الفخمة وفي يده هاتفين ثمينين ويلبس بدلته الفاخرة، ويجلس أمام الجمهور ليخطب فيهم بسنة التدرج والتغيير البطيء، ويذكر مجموعة من الإحصائيات والأرقام حول التنمية ونمو الاقتصاد، وتنويه تقرير البنك الدولي بمعدل النمو..الخ، وتلك معضلة تستفحل مع دخول التنظيم إلى دهاليز التسيير والسلطة. وهل يمكن أيضا الحديث عن العدالة الاجتماعية في الوقت الذي تعيش فيه القاعدة الملتحقة بالتنظيم ويلات ظروفها الاجتماعية، في المقابل ترصد ميزانية خيالية لمهرجان خطابي أو حملة تربوية أو عشاء جماعي، أو ترصد لأعمال اجتماعية خارج التنظيم تدعن لمنطق الأصوات الانتخابية لا العمل الخيري. وفي هذه الحالة يكون العمل الخيري غير جائز في العضو المناضل لان صوته وجهده ضمنه القيادي بمنطق الولاء أو الإيديولوجية. أما بالنسبة للتنظيمات الإسلامية التي يكون أغلب قاعدتها بورجوازية متدينة وطبقة وسطى، فإنها لم تستطع أصلا أن تحتوي الطبقات الفقيرة، لخطابها الليبرالي البارد. لفت انتباهي الأسعار الخيالية للمأكولات الخفيفة والحلويات (بكيوسكات) ملتقيات شبيبة العدالة والتنمية، وتساءلت هل بالفعل هؤلاء بديل للرأسمالية العالمية، في الوقت الذي ربما تُعمد فيه هذا الفعل أو على الأقل لم يستطيعوا الالتفاتة إليه، انه بالفعل لن يستطيعوا فعل أكثر من هذا الصمت في أماكن أخرى. التناقض الرابع، مرتبط بالخط الرسمي للتنظيم، ففي الوقت الذي يطحن فيه المزعجين والمجددين الذين لا يحترمون الثوابت، يكون القيادي أول من يضرب بهذه الثوابت عرض الحائط، فإذا كان المزعج أراد أن يقارب ذلك علميا ومعرفيا ويؤسس للمراجعات وإعادة التأسيس للتصورات، ويكون ذلك سببا للقضاء عليه، فان التنظيم في عمومه يتميز بسيولة في المواقف، يختار فيها حسب الظروف والمصالح. فإسلاميو المغرب مثلا، لم يحسموا الكثير من القضايا، فهل هم جماعة أو حزب، تنظيم سياسي أو جماعة دعوية، تنظيم ومشروع أممي عالمي أو حزب سياسي قطري. أيضا موقفهم من النظام السياسي، تعاون أو عداء أو تفاوض، موقفهم من الحريات الفردية، علاقة الدعوي بالسياسي، الموقف من أمريكا.. كل هذه الأمور تركت غير محسومة بين أعضاء التنظيم بل في وعي القيادي الواحد، وبين الحين والآخر يلوح قيادي ما بتصريح ما في قضية ما كأنها محسومة، ولا يلبث إلا قليلا حتى ينقض ما قال، أو ما يقول قيادي آخر. وما يزيد الطين بلّة هو أن تتناقض مواقف القاعدة مع مواقف القيادة، فمواقف القاعدة لازالت طوبوية مثالية حالمة، والقيادة بحكم عملها الإجرائي التنفيذي تبدو كثيرا من الأمور محسومة عندها عمليا. فهي لم تعد تستحضر الكلام عن التراث كثيرا، إنها ربما أدركت حجم خسائر ذلك. التناقض الخامس، لطالما يقدم التنظيم نفسه بديلا عن العولمة والليبرالية والرأسمالية (هذه المسألة جزء من التناقض الثالث والرابع)، ويدعي أن ذلك أكبر همه، وأسمى غاياته، ولكن هذا الادعاء يتناقض تماما مع مسألتين، الأولى السياسات العملية للتنظيم على مستوى الحكومة والمواقف، المسألة الثانية نمط الحياة الشخصية لأعضاء وقيادات التنظيم، إذ نجد أن التنظيم الذي كان سابقا يوقظ مضجع الغرب في القضية الفلسطينية مثلا، أصبح اليوم لا يتفاعل كثيرا مع هذه القضية، وأصبح يساير الشارع على الأكثر، والأكثر من ذلك لم تعد هذه القضية قضية تنظيم بكامله بل فوضت لهيئة خاصة، ولأشخاص معدودين معروفين، وتغير كثيرا الموقف من الغرب، وأصبحت القيادة أسعد الناس بتقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وأسرع الناس إلى تنفيذ إملاءاتهم، فكيف تقدم نفسك بديلا عن الليبرالية والرأسمالية وأنت تسعى إلى الخوصصة وانسحاب الدولة من السوق، وكيف تدعي الوقوف أمام المد الاستهلاكي وأنت تعيش حياة شخصية مليئة بالاستهلاك، والتمتع بالحياة الدنيا بعد أن كانت دار ابتلاء وشجرة تستظل بها في سفرك الروحي الطويل. قد يجيب كثير من قيادات التنظيم على أن الإسلام السياسي بديل أخلاقي لليبرالية العالمية، وهو ادعاء يتنافى ويتناقض مع كثير من الاختلالات الأخلاقية للقيادات وأعضاء التنظيم في الواقع، أما المسكوت عنه فحدث ولا حرج. إن النموذج المطروح على مستوى الأدبيات والخطابات، والذي يحرصه القيادي والكائن التنظيمي داخل التنظيم، لم يجد طريقه إلى أسرته ولا مجتمعه القريب ولا يجسده التنظيم نفسه، والأكثر من ذلك أنه لم يجد طريقه لتجسيده حتى على مستوى الفرد العضو والقيادي نفسه الذي يدعي ذلك. إن هذه التناقضات نتيجة الترسانة الطوباوية التي أسس عليه التنظيم (مشروعه)، ونتيجة التعالي على الواقع، وعدم الإدراك لحركة التاريخ وسيرورته. إنها محاولة العودة إلى الوراء ضدا في قوة الواقع التي تجرف أصحابها إلى الأمام. حركتين متعارضتين تضع صاحب اليوتوبيا في انفصام وشرخ وصراع وهمي. وهو أمر مستمر باستمرار النقص الإيديولوجي والتأخر التاريخي والذهني. *باحث وكاتب