تزخر المنطقة المغاربية بالعديد من المؤهلات التي تعد أرضية حقيقة لبناء تكثل سياسي واقتصادي يفرض نفسه بين التكثلات العالمية، لكنها تحتاج إلى مزيد من النقاش الهاديء في اتجاه بلورة رؤى واضحة تجمع أكثر مما تفرق. لعل من أبرز هذه المؤهلات تلك المتعلقة بالمجالين الديني واللغوي. تنتمي المنطقة المغاربية إلى الإسلام السني الصوفي المعتدل؛ فالفصل الثالث من دستور المملكة المغربية يقر بأن الإسلام دين الدولة، وأن "الأمة تستند في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثَّل في الدين الإسلامي السمح"، دون إلغاء حقوق الأقليات في ممارسة شعائرها الدينية. أما الدستور التونسي الذي أفرزته "ثورة الياسمين" فينص في الفصل الاول أن الاسلام هو دين الدولة، مع علوية(بضم العين) القانون. وتشير المادة الثانية من الفصل الأول من دستور الجزائر المعدل سنة 2020م أن الاسلام دين الدولة، في حين يشير الدستور الموريتاني في المادة الأولى من الباب الأول أن "موريتانيا جمهورية اسلامية لا تتجزأ"، ويرتقب أن يتم التنصيص على عبارة "الاسلام دين الدولة" في الدستور الليبي المرتقب كون أغلب ساكنة ليبيا (ازيد من 96%°) تعتنق الاسلام. هذا الرصد المقتضب للمشترك الديني بالمنطقة المغاربية، يؤكد وجود لبنة صلبة يمكن ان نؤسس عليها لبناء قوة حقيقية، في ظل قوة السلطة الروحية وقدرتها على تحقيق الاجماع حول مجموعة من القضايا التي قد تشكل نقط خلاف، وفي ظل وجود مشترك ثقافي ولغوي شديد التداخل. اذا كان الفكر الصوفي مشرقي المنطلق، فإن المنطقة المغاربية قد شكلت بيئة خصبة لممارسة التصوف الطرقي منذ الإرهاصات الأولى للفكر الصوفي بالمغرب الأقصى إبان "الفتح الإسلامي"، ووصوله إلى المغرب الأوسط (الجزائر) خلال القرن الثامن الهجري /الرابع عشر الميلادي، وصولا إلى انتظام معتنقي هذا التوجه في إطار الزوايا التي عرفت انتشارا واسعا منذ القرن السادس عشر الميلادي، لكن، ولأن المقالة، تستهدف الإمكانات التي يمكن ان يتيحها هذا المشرك في بناء قوة تنموية مغاربية، فإننا لن نغوص في الخلفيات التاريخية لبداية التصوف بالمنطقة، بقدر ما سنركز على الدور الذي يمكن أن تلعبه الحركات الصوفية الحالية في إنتاج الثروة المادية والمعنوية بما ينعكس على مسار التنمية المغاربية. لقد كان للزوايا الصوفية دور فعال في تشبيك الأواصر بين شمال افريقيا والعمق الافريقي انطلاقا من المغرب الأقصى، اليوم، أصبحت مسؤولية هذه المؤسسة جسيمة، من خلال ضرورة الاطلاع بمهمة التقريب بين شعوب المنطقة المغاربية والعمل على هدم الهوة التي تمكنت الألة الاعلامية من توسيعها عبر البروباغندا الموجّهة (بفتح الجيم) والموجّهة (بكسر الجيم)، فلم يعد مقبولا أن تتوارى هذه المؤسسات وتنحصر في الممارسة الطقوسية مبتعدة عن الواقع السياسي. نرى أن الحركة الصوفية، يجب أن تحتضن وستوعب مختلف التشكيلات الصوفية بباقي الاقطار المغاربية، ليس في اتجاه الوصاية والهيمنة، بل في اتجاه يبني فضاءا شاسعا يساهم في التوازن الروحي لشعوب المنطقة عبر استغلال العقيدة الجنيدية التي تشكل نقطة مشتركة بين جل التكوينات الصوفية بالمغرب الكبير. تعتبر الزاوية التجانية، من أكبر الزاوية التي تمتلك أتباع ومريدين في الأقطار المغاربية الخمسة، على هذا الأساس،نعتقد أنها مؤهلة أكثر من غيرها من الزوايا لتلعب دور القيادة الروحية في افق تحقيق الاطمئنان الروحي بالمنطقة. لكن، عليها أن تتحرر من "الجبّة الطرقية" المطلقة وتنفتح على الفعل السياسي العلني من خلال توفير الحاضنة لصناعة قرار سياسي يخدم مصلحة الشعوب المغاربية، وعدم الإنجرار وراء الخطوات التي تسعى إلى إقحامها في الصراعات المبنية على خلفيات تاريخية متجاوزة. فهذه الزاوية تمتلك مؤسسات ومريدين بكل الدول المغاربية الخمسة، وتمتلك أطرا في دوالب السلطة، بل وتمتلك من الزاد المعرفي والروحي ما يجعلها تضغط في اتجاه الوحدة المغاربية، عوض تكريس روح الإنقسام. نعتقد أن الزاوية التجانية ببعدها المغاربي، ملزمة بتبني موقف مبدئي واضح من دعم الوحدة الترابية للدول المغاربية، على غرار موقفها الصريح خلال الملتقى الدولي للتجانيين بفاس سنة 1986 المثمثل في الإعتراف بمغربية الصحراء، منطلقين من قناعة تتمثل في أن عرقلة وحدة المملكة المغربية هو الحاجز الأبرز الذي يحول دون بناء تكثل مغاربي لديه القدرة على التأثير وصناعة قراره السياسي والإقتصادي. التأثير الكبيرالذي تمتلكه الحركة الصوفية بالمنطقة المغاربية، لا يرتبط فقط بتعداد المنتسبين إليها، بل يرتبط أيضا بوجود لغتان تجمعان شعوب المنطقة المغاربية؛ يتعلق الأمر باللغتين العربية والأمازيغية، خاصة في ظل مأسسة هذه الأخيرة واعتبارها لغة وطنية؛ فقد تم التنصيص عليها في التعديل الدستوري المغربي لسنة 2011م في الفصل الخامس حيث "تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء". ليصادق البرلمان المغربي على قانون الطابع الرسمي للأمازيغية سنة 2019. أما في الجزائر فتنص المادة الرابعة من دستور 2020م على "أن "تمازيغت" لغة وطنية ورسمية"، كما يرتقب التنصيص عليها في تونس في ظل استمرار مطالب الحركة الأمازيغية وكذلك في ليبيا. إن استثمار هذا المكسب، يمكنه أن يوفر فرصة جديدة للدفع بالمسألة اللغوية من مستوى التجادب والتقاطب في ظل السجال اللغوي ما قبل الدسترة، إلى مستوى توحيد الرؤى واستغلال الجهد في اتجاه الإنتاج الثقافي الذي يجب أن يبرز المشترك بين شعوب المنطقة، ويقوي الإحساس بأهمية اللغة في تيسير التواصل والإنتاج وليس في اتجاه الإحساس بوجود مشترك لغوي بمنطق " الأمة"؛ لأن الإحساس الأخير قد يجعل شعوب المنطقة منغمسة في وهم القوة المزيفة، بينما يروم التوجه الأول إلى خلق تنافسية ستنعكس نتائجها على مسار التنمية المستدامة.