منذ اعتماد الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين (2015-2030) مرورا بالمصادقة على القانون الإطار، ظلت "الجودة "حديث الساعة، في منظومة تعليمية أضحت منذ فجر الاستقلال بين مطرقة الجدل وسندان الاحتقان، في ظل إصلاحات مرتبكة كلفت ميزانيات ضخمة، لم تكرس إلا الضعف والتواضع والهوان، جعلت المغرب يحتل مراتب متأخرة عالميا في عدد من المؤشرات الدولية ذات الصلة بالتعليم والتنمية البشرية، وقد ارتفع منسوب الحديث عن "الجودة"، في ظل ما أقدمت عليه الوزارة الوصية على القطاع من تدابير وإجراءات "غير مسبوقة" مرتبطة بمباراة الأطر النظامية للأكاديميات المرتقبة غضون شهر دجنبر القادم، بررها صناع القرار السياسي والتربوي بشكل خاص، بالرغبة في إدراك "الجودة المأمولة" في إطار ما وصف بالنهضة التربوية، لكن وحتى لا نغطي الشمس بالغربال، أو نتيه في متاهات الأحلام الوردية التي يفصلها "بون شاسع" عن واقع الممارسة، فالجودة تمر قطعا عبر المداخل التالية : عقلنة شروط ومعايير الولوج إلى المهنة، بعدما باتت خلال السنوات الأخيرة "مهنة من لا مهنة له"، وفي هذا الإطار، وبقدر ما نثمن المستجدات التي طالت مباراة توظيف الأطر النظامية للأكاديميات، لما يمكن أن يكون لها من دور في تعزيز جاذبية المهنة والارتقاء بمستوى كفاءة المدرسين الجدد، بقدر ما نرى أن قيمة هذه المستجدات، مرتبطة بما سيرافقها ويواكبها من تدابير إصلاحية رصينة ومتبصرة، تقطع مع ممارسات التردد والارتباك والارتجال، أما الجدل الذي أثارته هذه المستجدات، فيمكن تفهمه قياسا لمعضلة البطالة المستشرية في أوساط الفئة النشيطة من الشباب خريجي الجامعات، والحكومة ملزمة بالبحث عن حلول مبتكرة من ضمان الحق في ولوج الشغل، لأن التعليم، وإن كان يعد القطاع الأكثر تشغيلا، فلا يمكنه قطعا، استيعاب أفواج العاطلين، ما لم تحضر سياسة حقيقية ناجعة وفاعلة في مجال الشغل والادماج المهني، وهذه مسؤولية حكومة "الدولة الاجتماعية". إعادة النظر في البنيات المدرسية التي لازالت تكرس منذ سنوات مدارس عمومية فاقدة للجاذبية والحياة، من حيث الحجرات الدراسية والتجهيزات والمرافق الصحية والفضاءات الخضراء والبنيات الرياضية والحياة المدرسية، بشكل يجعل منها فضاءات لشحن الذاكرة بمعارف لا تؤخر ولا تقدم، إلا السيطرة على العقول ومنعها من فرص التفكير والنقد البناء وإبداء الآراء والمواقف والخلق والإبداع والابتكار. القيام بثورة عميقة تطال المناهج المتجاوزة والبرامج الدراسية الغارقة في أوحال "الكم" غير المبرر، وطرائق التقويم التي لازالت وفية كل الوفاء لمفردات الذاكرة والحفظ والتخزين، بدل تحرير العقول وإطلاق العنان للفكر الخلاق والمبدع، وهذه الثورة باتت خيارا لا محيد عنه، في سياق النموذج التنموي الجديد الذي لابد أن تسايره منظومة تربوية عصرية تقطع مع مفردات الارتباك واللخبطة والتردد، وخاصة في ظل جائحة كورونا التي غيرت المفاهيم والرؤى والتصورات وأنماط العيش وطرائق التفكير، وجعلت كل السياسات التعليمية القائمة والممارسات البيداغوجية المعتمدة موضوع سؤال. تخليص الحجرات الدراسية من معضلة "الاكتظاظ" الذي استفحل في هذه السنة بشكل لا يطاق، وفي ظل هذا الواقع المقلق، من العبث أن نتحدث ليس فقط عن الجودة، بل حتى عن العمليات التعليمية التعلمية وعن طرائق التدريس، وشروط المساواة والعدالة والإنصاف وتكافؤ الفرص، وتزداد الوضعية تعقيدا لما تكون الطاقة الاستيعابية للحجرات الدراسية صغيرة، وخاصة حينما تكون الأقسام المسندة للمدرس(ة) تصل إلى عتبة "10" أقسام بمستويات مختلفة وقد يزيد العدد عن ذلك، وطقوس مهنية من هذا القبيل، تجعل المدرسين يتموقعون كل حصة وكل يوم، في صلب جملة من المتاعب والمصاعب والمعاناة، من أجل إحاطة العمليات التعليمية التعلمية بما يلزم من شروط الضبط والانضباط والهدوء، بكل ما لهذه العمليات من هدر لزمن التعلم ومن استنزاف للقدرات الصحية والنفسية للمدرسين، في ظل ما يظهره واقع الممارسة من شيوع ثقافة العبث والتراخي واللامبالاة وعدم الالتزام وعدم الانضباط في أوساط فئات عريضة من المتعلمات والمتعلمين. الرهان على الحياة المدرسية، باعتبارها آلية تربوية رديفة للعمليات التعليمية التعلمية، يمكن التعويل عليها، ليس فقط لمنح شروط الحياة والجاذبية للمدارس العمومية، بل وتمكين المتعلمات والمتعلمين من تلك التربة البيداغوجية الخصبة القادرة، على صقل المواهب ورعاية القدرات واحتضان المهارات، وإطلاق العنان للخلق والإبداع والابتكار والتواصل الناجع والفعال وتقدير الذات، فضلا عن تمرير قيم المواطنة وما يرتبط بها من تضحية ومسؤولية والتزام وانضباط واحترام للآخر وتضامن وتعاون وتسامح وعيش مشترك، وبهذه الصورة، يمكن أن نغير نظرة المتعلمات والمتعلمين للمدرسة، من فضاء مكرس للنفور والتسلط الناعم، إلى فضاء للتعلم والحوار وبناء الذات والحياة، وإذا كانت الوزارة الوصية تراهن على "الحياة المدرسية"، فهذا الرهان لن يكون إلا خاسرا، ما لم يتم تخليص المتعلمين والمدرسين من مخالب البرامج الغارقة في الكم (العبرة في الكيف وليس في الكم) ، وتوضيحا للصورة، فالمتعلمين يدرسون "6" ساعات، وأحيانا "8" ساعات يوميا، تضاف إليها عند الاقتضاء ساعات الدعم الليلي في مراكز الدعم التي انتشرت كالفطريات، ومطالبين بتهيئة الأنشطة اللاصفية والإعداد لفروض المراقبة المستمرة، كيف يمكن إقناعهم بالحياة المدرسية وأهمية الانخراط فيها ؟ يضاف إلى ذلك، فئات عريضة من المدرسين يدرسون بدورهم ما بين "6" إلى "8" ساعات يومية، ما بين "العمومي" و"الخصوصي" بكل ما لذلك من آثار صحية ونفسية ومن انعكاسات على "الأداء" و"المردودية" و"الجودة"، وهؤلاء كيف يمكن إقناعهم بترك "ساعات خصوصية" تدر عليهم مردود مالي يرفع إن صح القول، من جرعات الأمل والسعادة والحياة، والانخراط في الحياة المدرسية لما لها من آثار إيجابية على شخصيات المتعلمين ونفسياتهم ؟ إعادة الاعتبار للرياضة المدرسية، التي فقدت كل بريقها وجاذبيتها مقارنة مع سنوات الزمن الجميل، ولم تعد تتجاوز حدود إرهاق المتعلمين بالركض أو تمكينهم في أفضل الحالات، من كرة قدم أو سلة أو طائرة، وتركهم "مقصرين" إلى حين نهاية الحصة، دون أن يتم تمكينهم من الأدوات التقنية والفنية والتكتيكية في إطار الدروس النظرية التي يفترض أن تتم داخل الأقسام أو القاعات الرياضية، إلى درجة أن ناعورة التربية البدنية تتوقف، لما تكون السماء ممطرة، وبما أن الوزارة الوصية على القطاع تتحمل حقيبة الرياضة، فهي فرصة مواتية، للارتقاء بالرياضة المدرسية، لتسهم من جهتها ليس فقط في دعم الحياة المدرسية، بل وفي الكشف عن المواهب الرياضية في أوساط المتعلمين في الرياضات الفردية والجماعية، وتمكينهم من كل شروط الدعم والرعاية والتحفيز، مع الرهان على خلق بطولات إقليمية وجهوية ووطنية خاصة بالرياضة المدرسية، تطلق العنان للمواهب المدرسية، التي تحتاج فقط إلى من يرعاها ويهتم بها ويصقلها، وفي ذلك، خدمة للرياضة الوطنية، التي لايمكن أن تزدهر وترتقي، إلا في ظل رياضة مدرسية حقيقية رصينة ومتبصرة، تقطع مع ممارسات العشوائية والارتباك، وبلوغ هذا المسعى يقتضي الاهتمام بالبنيات الرياضية المدرسية من ملاعب وصالات وتجهيزات رياضية، والمضي قدما في اتجاه إخضاع مدرسي التربية البدنية إلى التكوين المستمر والدورات التدريبية، بما يضمن الرفع من كفاياتهم وقدراتهم، من أجل جعل "التربية البدنية" مادة لصناعة المواهب الضائعة في المجتمع المدرسي، وبناء صرح القيم الوطنية والإنسانية، كما تقتضي توسيع تجربة "رياضة ودراسة" للإسهام في صناعة أبطال المستقبل، ومرة أخرى نؤكد أن الحياة المدرسية عموما والرياضة المدرسية خصوصا، يصعب الرهان عليها، ما لم يتم تحرير المتعلمين والمدرسين على حد سواء، من جائحة البرامج الغارقة في الكم. الحد من معضلة "الهدر المدرسي" التي تضع فئات عريضة من الناشئة خارج زمن التربية والتكوين، مما يشكل مساسا صريحا بالحق في التعلم وبتكافؤ الفرص والإنصاف، بكل ما لذلك من آثار مباشرة على المستوى العام للتنمية بالمغرب، والقضاء على هذه الظاهرة الصامتة، يقتضي الرهان على المدارس الجماعاتية والنقل والإطعام المدرسيين، وتوسيع نطاق برنامج "تيسير" لدعم الأسر المعوزة، والدفع بعجلة التنمية في اتجاه الأحياء الهامشية الفقيرة والمعوزة وخاصة نحو العالم القروي، عبر تعميم الكهربة والماء الشروب ومد الطرق والمسالك، وبناء المرافق والتجهيزات الضرورية من مدارس ومراكز صحية وخدمات عمومية وملاعب قرب وغيرها. الرهان على تعميم التعليم الأولي والارتقاء بمستوى التعليم الابتدائي على مستوى العروض البيداغوجية من مناهج وبرامج وطرائق تدريس وغيرها، باعتبار هذه المرحلة التعليمية المبكرة، تعد الدعامة الصلبة التي تبنى عليها التعلمات، وفي هذا الإطار يظهر واقع الممارسة أن مجموعة من المتعلمين في المرحلة التأهيلية، يعجزون عن قراءة وكتابة فقرة بشكل سليم، وهو ما أقره الوزير الوصي على القطاع خلال تقديمه لمشروع الميزانية الفرعية لوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، حيث كشف أن 70 في المائة من التلاميذ يواجهون صعوبات في القراءة والكتابة والرياضيات، وهذا الرقم المخجل، يقتضي ما يشبه بالعملية الجراحية الاستعجالية، في إطار رؤية إصلاحية شمولية، تقطع مع مفردات "الرتوشات" و"الماكياج" و"الترقيع"، التي لم تكرس إلا الضعف والعجز والهوان. العناية بجودة التكوين الأساس والمستمر، لما لذلك من آثار إيجابية على مستوى الرفع من كفايات المدرسين، واستعجال تنزيل منظومة عادلة ومنصفة للتحفيز، تستحضر ما بات يضطلع به المدرسون من مهام ومسؤوليات جسام، تتباين بين مراقبة/حراسة الامتحانات الجهوية والوطنية ومباريات التوظيف والامتحانات المهنية، وتصحيح امتحانات البكالوريا ومسك النقط بمنظومة مسار، وكلها أعباء تفرض تخصيص تعويضات / علاوات دورية لفائدة نساء ورجال التعليم، على غرار مجموعة من الإدارات العمومية، ليس فقط من أجل أن يقبل عليها المدرسون بما يلزم من الأريحية والجاهزية والدافعية، بل وكسب رهانات "المردودية" و"الجودة". ويبقى "بيت القصيد" في أية جودة مأمولة أو أية "نهضة تربوية" مبشر بها، هو "المدرس(ة)" الذي يبقى بمثابة العمود المركزي بالنسبة لخيمة الإصلاح، أو حجرة الزاوية في أي بناء نهضوي تعليمي مرتقب، ومن الخجل إن لم نقل العبث، أن يبقى المدرس ليس فقط، خارج سكة الإصلاح المأمول، بل وتلك "الحلقة الأضعف" في منظومة تربوية لا يستقيم عودها إلا بالمدرس(ة)، لذلك، واستحضارا للرهانات المعقودة على الأوراش الإصلاحية التي بشر بها القانون الإطار لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، واعتبارا لمخرجات تقرير "النموذج التنموي الجديد" الذي لايمكن تصوره إلا داخل نطاق التعليم "الناجع" و"الفعال"، لا مناص اليوم، من النهوض بالأوضاع المادية والمهنية والاجتماعية لنساء ورجال التعليم، بما يضمن إعادة الاعتبار لمهنة التدريس، والقطع بشكل لا رجعة فيه، مع كل الشروط المنتجة لليأس والإحباط والاحتجاج والاحتقان، والمقوية للإحساس الفردي والجماعي بانعدام الأمن الوظيفي والاستقرار الاجتماعي والنفسي. وإعادة الاعتبار، تمر قطعا عبر أجور محترمة وتعويضات محفزة وظروف عمل وتكوين لائقة، تتحقق معها أهداف الثقة ومقاصد تقدير الذات، وتطلق العنان للخلق والإبداع والابتكار، وقبل هذا وذاك، تنقد المدرسين من جائحة التسول في المدارس الخصوصية كل بداية موسم دراسي بحثا عن فرصة شغل إضافية، في ظل ظروف عمل غير محفزة، وبهذا النهج، يمكن كسب رهانات أخرى على جانب كبير من الأهمية من قبيل "المردودية" و"تكافؤ الفرص" و"الجودة" و"الحياة المدرسية"، وفي هذا الإطار، يكفي توجيه البوصلة نحو عدد من المنظومات التربوية المتقدمة عبر العالم، ليتبين منذ الوهلة الأولى، قيمة مهنة التدريس والمكانة الاعتبارية التي يحظى بها المدرس(ة) ماديا ومهنيا واجتماعيا ونفسيا. ونختم بالقول، قد نتفق حول مداخل الجودة أو الإصلاح وقد نختلف، لكن لابد أن يحضر الإجماع، في أن المدخل الأساس لإصلاح المنظومة التعليمية عنوانه العريض "المدرس(ة)" أو "المعلم(ة)" الذي قيل فيه " قم للمعلم وفه التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا"…، وأية رؤية تروم تهميش المدرس(ة) أو التقليل من شأنه أو إثقاله بالمزيد من الأعباء والمسؤوليات، فلن تكون إلا هدرا لزمن الإصلاح واستنزافا للمال العام، وعرقلة للطموح المشروع في بلوغ "نهضة تربوية" حقيقية، تضع البلد في مصاف البلدان المتقدمة والشعوب الراقية.