قبل أيام طلع علينا “كائن افتراضي” عبر مقطع فيديو قصير، حرض من خلاله على ممارسة العنف الخطير في حق نساء ورجال التعليم، بشكل علني وبدون خوف أو حرج أو حياء، ودون تقدير للتداعيات المتعددة المستويات، لما صدر عنه من فعل مخالف للقانون ومعاقب عليه بمقتضاه، وبعده جاء الدور على قيادي حزبي، في “خرجة” فيها سوء تقدير، وجه من خلالها المدفعية، نحو نساء ورجال التعليم، محملا إياهم جانبا من مسؤولية الأعطاب البنيوية التي تتخبط فيها المنظومة التربوية منذ سنوات عجاف، لتكتمل الصورة، عبر برنامج للمواهب الكوميدية يبث على إحدى قنوات القطب العمومي، مرر مادة لأحد المشاركين، تضمنت عبارات مسيئة لنساء ورجال التعليم وحاطة من كرامتهم وقيمتهم، بشكل كرس ويكرس “صورة نمطية” لمدرس(ة)، سار محركا للنكث ومضربا للأمثال .. ما قيل، ما هو إلا مرآة عاكسة، لواقع حال “المدرس(ة)” الذي تحول حاله كحال “الحيط القصير” الذي يتجاوزه الجميع ويتجرأ عليه الجميع، تارة بالعنف بكل أطيافه، وتارة ثانية بتحميله مسؤولية الأعطاب التي تتخبط فيها المنظومة التربوية، وتارة ثالثة بالسخرية والاستهزاء، وتارة رابعة بإثقال كاهله بمهمات متعددة المستويات بشكل يجعل منه “سيبرمان” فوق العادة، وتارة خامسة بقصفه باتهامات وشكايات كيدية.. صور من ضمن أخرى، تحضر بدرجات متفاوتة في الإعلام، الذي يقدم صورة نمطية لمدرس(ة)، تقترن عادة بمفردات “العنف” و”البخل” و”التهاون” و”الإقبال الهستيري على حصص الدعم” و”التقصير” و”انعدام المسؤولية” و”الجشع” و”الطمع”، بل وحتى الوضعيات التي يكون فيها “المدرس(ة)” معنفا، فهي تقدم للجمهور/المتلقي بنوع من الإثارة والتشهير، عبر مقالات خبرية، تحمل عناوين ساخنة حاملة لمفردات “الجريمة” و”التشرميل” و”التعنيف”، وكلها توصيفات تزيد الصورة غموضا والوضعية انحطاطا، أما إذا حدث أن كان “المدرس(ة)” طرفا فاعلا في العنف بقصد أو بدونه، فتلك حكاية أخرى، وهي نفس الصورة التي أضحى يحملها المجتمع عن “مدرس(ة)” تهاوى برجه عبر السنوات، في ظل سياسات عمومية، همشت “مهنة التدريس” وجردتها من قيمتها ورمزيتها المجتمعية، كمهنة حاملة للمعارف والقيم والأخلاق، بشكل جعل “المهنة” مهنة من لا مهنة له، في ظل “التشريع غير المبرر” للأبواب في مباريات “جماهيرية” تفتح أمام “كل من هب ودب”، في وقت تحافظ فيه الكثير من المهن والوظائف على شروط “ولوج” صارمة، كما هو الشأن بالنسبة للقضاء والتوثيق العدلي والمحاماة والمهن الأمنية وغيرها.. صورة نمطية، لمدرس(ة) تقهقر اجتماعيا ولمهنة فاقدة للجاذبية والتحفيز، لم تعد تجذب إلا من تقطعت به السبل، أو من يسكنه هاجس الفرار من “جندية” البطالة القاتلة، ويكفي الإشارة في هذا الإطار، أن “مهنة التدريس” تتذيل قائمة المهن أو الوظائف، في ظل “أجور خجولة” و “غياب غير مبرر للتعويضات والتحفيزات المادية رغم تعدد المسؤوليات (مراقبة (امتحانات البكالوريا، الامتحانات المهنية، مباريات التوظيف، تصحيح، مسك النقط ضمن منظومة التدبير المدرسي “مسار”..)، وهنا لا مناص من التنصيص، أن الكثير من المهن والوظائف، لا تتردد في تحفيز موظفيها، لدفعهم نحو المبادرة والمثابرة والخلق والمردودية، كما هو الحال بالنسبة لموظفي “المالية” و”القضاء” و”المحافظة العقارية” و”الشرطة” و”الجمارك” وغيرها، وذلك بأجور مشجعة وتحفيزات أو علاوات محفزة تسيل اللعاب، وهو وضع هش بامتياز، قد يشكل قوة دافعة لبعض المدرسين للهجرة نحو فضاءات مهنية أخرى، تحقق شروط التحفيز والترقي المهني والاجتماعي، وقد يقود البعض الآخر إلى “عرض خدماته” على المدارس الخصوصية ومراكز الدعم التي تناسلت كالفطريات، بحثا عن مدخول مادي إضافي، قد يساعد على تلبية الحاجيات والمطالب (تسديد مصاريف تمدرس الأبناء، تغطية مصاريف الصحة، تسديد قروض سكن، استهلاك، سيارة …إلخ)، أما البعض الثالث، فهو يتعايش على مضض مع واقع المعاناة المستدامة، في ظل أجور تتحرك كما تتحرك السلاحف، ليبقى التساؤل المشروع كالتالي: كيف يمكن كسب رهان “الجودة” في ظل منظومة تغيب عنها شروط التحفيز؟؟ في ظل “مدرس(ة)” بات “حيطا قصيرا” ينطبق عليه مثل “طاحت الصومعة، علقو “الحجام”/”المدرس(ة)”؟؟. وما يؤسف له، أن “قارة” المدرس(ة) لم تتزحزح ولم تبارح مكانها منذ سنوات، إذ لازالت دار لقمان على حالها، رغم دخول “الرؤية الاستراتيجية” موسمها الخامس(2015-2030)، ورغم تبني “القانون الإطار لإصلاح منظومة التربية والتكوين” الذي لم تصل نسائمه بعد إلى المدارس، وفي هذا الإطار، يبقى الرهان معقودا على “اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي المرتقب” والتي دشنت مهمتها الشاقة بالانفتاح على مختلف الفعاليات السياسية والاجتماعية، من منطلق أن “بيت القصيد” في التعليم هو “المدرس(ة)”، ولا نهوض أو ارتقاء بالمنظومة التربوية التي رصدت لها الملايير من الدراهم، إلا بإعادة الاعتبار للمدرس(ة) والارتقاء بأوضاعه المادية والمهنية، بوصفه “المايسترو” القادر وحده دون غيره على ضبط إيقاعات الإصلاح، و”القائد” الذي بدونه، لا يمكن إيصال “سفينة الإصلاح” إلى بر الأمان.. وهي مناسبة إذن، لإثارة انتباه “اللجنة”، في أن “التعليم” يعد الدعامة الصلبة للنموذج التنموي المأمول، ولا يمكن تصور أي ارتقاء تنموي، بمعزل عن التعليم، أو في ظل تعليم “هش” لازال مصرا على شحن الذاكرة وتعطيل العقول، و”مدرس(ة)” يعيش بين “خيبات الانكسار” و”آمال الانتظار”، لذلك، فطريق “إصلاح التعليم” يمر قطعا عبر “تنمية المدرس(ة)”، بما يضمن إعادة الاعتبار والقطع مع مشاهد الاحتجاج والشكوى والمطالب، والارتقاء بالمهنة، لتكون مهنة جذابة ومغرية ومحفزة، عسى أن تتجرأ “اللجنة” في زحزحة قارة التعليم، ومعالجة ما يعتريها من مشكلات وأزمات، التصدي لها، يبدأ قطعا من “المدرس(ة)” الذي يمتلك “مفتاح” الإصلاح و النهوض والارتقاء، وأية “خطوة” خارج هذا المسعى، فلن تكون، إلا “تغريدة” خارج السرب، في مرحلة مفصلية، لا مكان فيها للتجريب أو الارتباك أو الخطأ.. وقبل الختم، نؤكد أن “المدرس(ة)” كان وسيظل عنوانا للشموخ والرقي والنبل والكبرياء، لا يتردد في البناء المستدام للوطن، بتضحية وصمود ووفاء وعرفان، في انتظار شمس تسطع، تعيد الاعتبار لمهنة قيل في صاحبها “كاد المعلم أن يكون رسولا ..”.. ونختم بالقول، أننا لا نختزل “إعادة الاعتبار” في النهوض بالأوضاع المادية لنساء ورجال التعليم، بل نطالب أيضا، بمناهج عصرية وبرامج حيوية تقطع مع “الكم” المعطل للعقول، وبنيات استقبال لائقة وجذابة، وحجرات دراسية تتوفر فيها شروط الأنسنة للمدرس(ة) والمتعلم(ة) على حد سواء، وحياة مدرسية، تطلق العنان للمواهب والقدرات والطاقات والمهارات والكفايات الحياتية … وحتى لا تفوت الفرصة، نطالب الفاعلين الاجتماعيين (النقابات التعليمية) بالتعبئة وترميم الصفوف، وحسن الترافع، من أجل الإسهام في تنزيل “نظام أساسي جديد” عصري وعادل ومنصف، يستجيب لكل التطلعات والانتظارات .. وكل عام والأسرة التعليمية بألف خير … جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة