انطلق الموسم الدراسي الجديد قبل أيام في سياقات وطنية متعددة الزوايا، في طليعتها احتجاجات الأساتذة المتعاقدين سعيا وراء كسب رهان الترسيم، والجدل الذي أثاره كل من مشروع القانون المتعلق بالخدمة العسكرية، ومشروع القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي. ودون الخوض في تفاصيل هذه السياقات وغيرها، لا مناص من التوقف عند هذا الموسم الدراسي الجديد الذي انطلق تحت شعار "مدرسة المواطنة"، وهو شعار قوي يضع مفهوم "المواطنة" في الواجهة في ظل التراجع المثير للقلق لمنسوب المواطنة وانحطاط منظومة القيم والأخلاق واتساع بؤر العنف والتوتر والتمرد والتذمر، خاصة وسط الشباب، وهو تراجع يسائل بقوة الدولة ابتداء كما يسائل مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تراجعت أدوارها ووظائفها التربوية والاجتماعية، ومن ضمنها "المدرسة العمومية" التي تقف اليوم بين كسب رهان المواطنة والتربية على القيم وهاجس الانحطاط القيمي الذي أضحى ينخر جسد المجتمع ولم تسلم منه حتى المدرسة التي يفترض أن تساهم في صنع القيم بدل الاكتواء من نيران انحطاطها. وعليه، وبعيدا كل البعد عن الشعارات الرنانة، لا بد من الإقرار بأن شعار "مدرسة المواطنة" هو شعار أقرب إلى الحلم من الواقع وإلى الخيال من الحقيقة. لكن بالإمكان ترجمة الحلم إلى الواقع وتنزيل الخيال إلى مستوى الحقيقة من خلال إسهام الجميع في خلق مدرسة عمومية جذابة ببنياتها وفضاءاتها الداخلية ومنظرها الخارجي اللائق ومغرية بما تقدمه من عروض تربوية وتعليمية تفتح أفق الخلق والإبداع والابتكار والتميز..مدرسة عمومية عصرية تقطع مع كل الظواهر المشينة، وفي طليعتها العنف المدرسي الذي وصل مداه في السنوات الأخيرة بشكل يكرس فقدان الثقة في هذه المدرسة العمومية يوما بعد يوم، ويجعلها حلبة صراع خفي ومعلن بين المدرس (ة) والمتعلم (ة)، في إطار علاقة عداء تحضر فيها عناوين الكره والنفور على حساب قيم المحبة والاحترام والتقدير المتبادل..مدرسة عمومية متجددة تتوفر على شروط الحياة من حجرات لائقة تحفز على التعلم، وفضاءات خضراء جذابة وبنيات مغرية قادرة على صناعة متعلم(ة) متعدد القدرات والمواهب في مجالات الرياضة والمسرح والسينما والفن التشكيلي والموسيقى والأدب والكتابة والتواصل والخلق والإبداع، في إطار أنشطة موازية تتناغم مع العرض التعليمي التعلمي..مدرسة عمومية تعيد بناء صرح كرامة المدرس(ة) وتمكنه من كل الظروف المادية والمعنوية باعتباره قناة لا محيد عنها في أي عملية إصلاحية.. مدرسة عمومية قادرة على تحفيز أطرها وكفاءاتها لوقف النزيف المقلق الناتج عن تمدد دائرة الإقبال على التقاعد النسبي، خاصة وسط المدرسات والمدرسين "القدامى"، وتوفير كافة شروط الكرامة والاستقرار للأساتذة الموظفين بموجب عقود بشكل يجعلهم يمارسون مهامهم بنوع من الثقة والطمأنينة، ما يشكل لديهم محفزا للجدية ودافعا للخلق والتميز والإبداع..مدرسة عمومية تضع المتعلم(ة) في صلب أهداف ومقاصد وغايات الفعل التعليمي التعلمي من خلال مناهج متطورة ومقررات دراسية محفزة ومتفتحة على تكنولوجيا الإعلام والاتصال، تقطع مع "الكم" المفضي إلى الرتابة والنفور..مدرسة عمومية تنزع الجلباب الضيق للتقويم، وتتفتح على أشكال تقويمية عصرية تسائل المعارف والقدرات والمناهج والمهارات والإبداع ...إلخ، ما قد يقفل الباب بشكل لا رجعة فيه على معضلة الغش المدرسي الذي أضحى ليس فقط يقضي على مبدأ المنافسة الشريفة وفرص التكافؤ بين المتعلمات والمتعلمين، ويضرب العملية التعليمية التعلمية ككل في الصميم؛ بل ويصنع جيلا من الغشاشين والمتهاونين والمتواكلين الذين يتصورون "الغش" حقا مشروعا لا خجل في ممارسته بل والدفاع عنه ولو كلف ذلك ممارسة العنف في حق المدرس(ة) المراقب(ة)، خاصة في إطار الامتحانات الإشهادية.. مدرسة متفتحة وصارمة في الآن نفسه قادرة على فرض الانضباط وضمان احترام قانونها الأساسي، وهذا لن يتأتى إلا بفرض البذلة الموحدة لتحقيق المساواة أمام المتعلمات والمتعلمين، للحد من ارتداء بعض الملابس غير التربوية، كالسراويل الممزقة والقبعات والنظارات الشمسية، وقطع الطريق أمام بعض الغرباء الذين يلجون إلى الحرم المدرسي من أجل العبث أو لترويج الممنوعات، والحرص على فرض احترام مواقيت الدخول والخروج وكذا التعامل الصارم مع كل السلوكات والتصرفات غير التربوية المخلة بمقتضيات القانون الأساسي، من قبيل استعمال الهواتف النقالة والسماعات والحلاقات المثيرة للانتباه والتدخين والسلوكات المخلة بالحياء والاحترام والعنف والغش في فروض المراقبة المستمرة والامتحانات الإشهادية وغيرها..مدرسة عمومية بمواصفات معمارية وفنية عصرية، قادرة على الجذب والتأثير والتفاعل المتبادل مع المحيط..بشكل يجعلها تلحق بركب المدرسة الخصوصية التي قطعت أشواطا على مستوى البنيات والوسائل والعروض التربوية والتعليمية... مدرسة عمومية تشكل مجتمعا مصغرا يسود فيه القانون على الجميع ويفرض الجزاءات المناسبة على المخالفين..مدرسة عمومية بهذه المواصفات لن تكون إلا "مدرسة المواطنة" القادرة على صناعة مواطن الغد..مواطن يحترم القانون والمؤسسات ويقوم بما عليه من حقوق وواجبات ويتشبع بما يكفي من قيم المحبة والاحترام والتقدير والتفاني في حب وخدمة الوطن في زمن تراجعت فيه مؤشرات "المواطنة" إلى مستويات مثيرة للقلق والسؤال.. غير هذا سيظل شعار"مدرسة المواطنة " كمن يريد إخفاء شمس الحقيقة المرة بالغربال..لكن قبل هذا وذاك، فملعب "التربية على المواطنة" يتقاسمه لاعبون كثر، وكسب الرهان يمر حتما من التشارك والتعاون وتقاسم الأدوار والمسؤوليات، وحصر "المواطنة" في رقعة "المدرسة العمومية" كمن يغرد خارج السرب... *أستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي (المحمدية)، باحث في القانون وقضايا التربية والتكوين. [email protected]