من سنن الله في الأرض أن الحياة محطات.. وكل محطة من محطاتها لها خصائصها التي نعيشها بكل ما تحمله من تفاصيل.. فلا يبقى الصغير منا طفلا مدللا، ولا الكبير قويا دائما. فذلك الطفل الصغير يكبر، ثم يصبح الكبير بعدها شيخا عجوزا.. وهكذا تدور عجلة هذه الحياة.. إلا أننا في هذه الدورة غالبا ما ينصب جل أو معظم اهتمامنا إن لم نقل كله على فترة بعينها؛ فترة الطفولة.. فنبقى منغمسين منشغلين بها أيما انشغال باذلين بذلك كل جهدنا وطاقتنا لتكون المرحلة الأفضل في عجلة حياة كل إنسان.. فنكون بذلك قد أغفلنا بل همشنا مرحلة حساسة وأساسية، ألا وهي المرحلة الأخيرة والحلقة الأضعف في محطات الحياة؛ حلقة الشيخوخة.. لا ننكر بأن مرحلة الطفولة هي مرحلة مهمة وحاسمة في حياة الانسان، وبأن الاهتمام بها يخلق لنا إنسانا سويا و يجنبنا الكثير من المخاطر والصعاب التي قد يواجهها الفرد فيما بعد في حياته.. لكن هذا لا يعني أن نكون بالمقابل ناكرين للجميل والمعروف غافلين عن من حملوا وتحملوا أعباء ومشقات الحياة في سبيل بناء جيل آخر.. فلو توقفنا لوهلة و أمعنا النظر في تفاصيل وجوههم وتقاسيم ملامحهم لوجدناها تروي مشاهد من واقع الحياة، وتحكي شقاء سنوات طوال من التعب والعطاء.. لوجدنا قصص وحكايا سنوات طويلة باتت اليوم تشهد على ما مروا به حتى أصبحوا يعيشون في غربة معزولين ووحيدين بوجوه ذابلة.. حيث تحالف العجز والأسى وتعاقبت السنين العجاف لتشكل تلك التجاعيد العميقة، حيث اغتال خريف العمر قسمات شبابهم، وطاولهم غدر الزمان ليجد البعض منهم نفسه بدون مأوى يقيه الحر والقر، دون بيت آمن يأويه، في سن حرجة تتطلب من العناية والرعاية الشيء الكثير.. مبررات كثيرة وأعذار سخيفة وواهية أحيانا ولا تستوجب في كل الحالات التخلي عن من كانوا لنا ظهرا وسندا. لكن للأسف النتيجة واحدة .. مسنون متخلى عنهم. فبدلا من أن ينتظر المرء وقد تقدم به العمر من يعتني به ويهتم بشؤونه، يجد نفسه في مواجهة تحديات تحكي مدى القسوة التي يتعامل بها الإنسان مع أقرب الناس إليه. العراء والفراغ والقبور هي "دور العجزة" لهؤلاء المسنين المقصيين والمهمَّشين التائهين على أرضهم وفي وطنهم في زمن قست فيه القلوب… عجزة مهملون منسيون مأواهم الشوارع وجنباتها، والحدائق وأركانها، والمقابر وحُفَرُها، والأحياء وخِربُها… في ظل عدم توفر أماكن كافية وعندما أقول أماكن أقصد بها مؤسسات تعنى بحفظ ما تبقى من كرامة هذا الشيخ الكهل وتلك العجوز الضعيفة.. وحتى عندما يجدون مكانا شاغرا داخل إحدى هاته المؤسسات فهل فعلا تكون على قدر التكليف!؟ أم فقط الاسم بدون مسمى.. فهؤلاء الضعفاء لا يحتاجون فقط إلى قوت يسد جوعهم ولا فقط إلى سقف يحميهم تقلب الفصول.. بل إنهم يحتاجون قلوبا رحيمة تعطف عليهم، يحتاجون أناسا يحتوونهم بحبهم لا بطعامهم وشرابهم، هم في حاجة إلى آذان صاغية تفهم ما وراء كلماتهم دون أن تحكم عليهم.. لتظل ظاهرة التخلي عن المسنين أو تشردهم في تزايد مستمر مهما كان هذا التزايد طفيفا، ليبقى السؤال عن مآلهم ومآل الظاهرة التي تهددهم منوطا بالتساؤل عن كيفية الحد من هذا الواقع المرير، فهل الخطابات العاطفية والأخلاقية والتحليلات السيكولوجية والسوسيولوجية كافية للحيلولة دون تفاقمها؟ وهل هناك جهود تبذلها الدولة والمجتمع لوقاية شريحة لم تعد تقوى على الاعتناء بنفسها؟ وغيرها العديد من التساؤلات التي تظل تحت هامش التظليل والتهميش ولا يلقى لها جواباً، في حين أن هذه الفئة الهشة والضعيفة هي جزء لا يتجزأ من المجتمع وصلاحها من صلاحه.. لكن للأسف نجدها دائما في خانة المهملات بعيدا عن كل اهتمام أو تقدير.