بعد أن هدئت الجلجلة الإعلامية التي أحدثتها نتائج اقتراع الثامن من شتنبر الجاري سوف يكون من المفيد للديمقراطية المغربية أن تفتح نقاشا سياسيا عموميا حول الدلالات والآفاق التي تحبل بها هذه النتائج خاصة داخل المشهد الحزبي المغربي. يبدو أن الكثير من الملاحظين اكتفوا فقط بالوقوف عند السقوط المؤلم الذي عاشه حزب العدالة والتنمية باعتباره الحزب الاغلبي الحكومي لمدة عشر سنوات مضت .واغفلوا العديد من المعطيات والأحداث المهمة التي جاءت بها نتائج الانتخابات الأخيرة وأشرت على دخول الحياة السياسية المغربية منعطفا جديدا وجب الانتباه له والوعي بتناقضاته ورهاناته. صحيح أن احتلال حزب العدالة والتنمية المراتب الأخيرة في نتائج الانتخابات الأخيرة كان مفاجئة سياسية صنعها الناخب المغربي لكل المهتمين بالشأن السياسي المغربي. فحتى أكثر المتشائمين في توقعات مستقبل هذا الحزب لم يكن ينتظر هذا السقوط ألكارتي لحزب كان زعمائه وقياداته ينفخون في خطاب التعالي والغرور ضد كل موجات الانتقاد التي عرفها الرأي العام المغربي ضدهم . ورغم ان المقام لا يتسع هنا للقيام بتحليل سوسيو-سياسي للوضعية التي بات يوجد عليها حزب العدالة والتنمية، فإننا يمكن ان نقول في المجمل أنها وضعية تعبر عن مآل النخبة السياسية العقائدية التي تؤسس لصعودها السياسي على يوطوبيات أخلاقية وينتهي بها الواقع في واقعية مبتذلة مرة في المعيشي اليومي لكل من آمن بها وساند دعاتها، ليست هذه هي المرة الأولى التي عاقب فيها الناخب المغربي هذا الصنف من النخب العقائدية ومن يقرأ نتائج انتخابات بخلفية تاريخية تستحضر طبيعة الخطاب السياسي للنخب سيستخلص أن العقائدية في السياسة قد انتهت بقرار من الناخبة والناخب المغربيين. وبالعودة لأهم ما جاءت به نتائج الانتخابات الأخيرة من معطيات جديدة في المشهد السياسي المغربي إلى جانب سقوط حزب العدالة والتنمية الذي كان الجميع ولو بدرجة اقل مما فاجئ به الواقع، يتوقع تراجعه، فإننا نلاحظ ثلاث وقائع أساسية تفتح العمل السياسي الحزبي المغربي على مستقبل جديد يبوأ فاعلين سياسيين بخصائص جديدة مكانة أولى، ويعطي لسلم الأولويات الاقتصادية والاجتماعية طبيعة مغايرة. هده الوقائع الثلاث هي على التوالي: نسبة المشاركة العالية في اقتراع الثامن من شثنبر. احتلال البرنامج الانتخابي الاكثر برغماتية للمرتبة الأولى. وصعود قيادة سياسية حزبية جديدة، من مشارف الهاوية إلى المرتبة الثانية في التصنيف داخل منافسة هي الأشد في تاريخ الانتخابات بالمغرب. بالنسبة لنسبة المشاركة العالية في يوم الاقتراع فإنها تعني بالأساس تقدم كبير في الثقة في المؤسسات الدستورية التي أصبحت في وعي المغاربة هي القناة الوحيدة لتطبيق الإصلاحات المواتية للمجتمع والاقتصاد المغربيين. إنها نسبة مشاركة تؤشر على التطور الديمقراطي داخل المجتمع المغربي الذي وصل إلى أن التغيير السياسي هو الإصلاح داخل الاستمرارية. وثانيا إصلاح عبر و من خلال المؤسسات والنظم والقوانين القائمة والقابلة للتجويد. ثم انها نسبة عالية في المشاركة تعني ثالثا, ان الانتخابات هي الآلية المشروعة الوحيدة لإسماع صوت المواطنات و المواطنين من قضايا الشأن العام الوطني. بهذا المعنى شكلت الانتخابات الأخيرة انتصارا وطنيا للديمقراطية المغربية. فيما يخص المرتبة الأولى التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة لفائدة البرنامج الانتخابي لحزب التجمع الوطني للأحرار فان قراءة هذا البرنامج وتمحص بنيته ورهاناته تعطيه صفة البرنامج السياسي البرغماتي للمرحلة وبالتالي فإن التفاف أغلبية الناخبات والناخبين حوله يعني أن الوعي الاجتماعي المغربي أصبح يتمتع بحساسية قوية اتجاه مصالحه المعيشية، ويخرج من براثن الأوهام طوباوية التي ضغضغته بالتلويح بقيم أخلاقية ماضوية غير قادرة على رفع الغبن عن معتنقيها. فاحتلال برنامج حزب التجمع الوطني للأحرار، للمرتبة الأولى في هذه الانتخابات سوف يظل يعني في تاريخنا السياسي، فوز السياسة البرغماتية الواقعية التي تتجه رأسا للحياة اليومية للمواطن المغربي، دون مواربة شعاراتية أو غموض اديولوجي. بهذا المعنى فان سقوط حزب العدالة والتنمية بهذا الشكل المدوي، لم يكن نتيجة التصويت العقابي للناخب المغربي ضد من تقلد القرار الحكومي عشر سنوات مضت، كما قال بعض المحللون. إن تصويت الناخب المغربي في الثامن من شتنبر كان تصويتا ليس ضد هذا الحزب أو ذاك بل كان تصويتا وبنسبة مشاركة عالية، من أجل هذه البرامج الانتخابية التي احتلت المراتب الثلاث بوضوح في الفارق العددي خاصة البرنامج الذي احتل المرتبة الأولى .فلو أراد الناخب أن يعاقب الأحزاب الحكومية لما كان حزب التجمع الوطني للأحرار ليحتل المرتبة الأولى وهو الحزب الذي ظل عضوا في الحكومة منذ دستور 2011. إن الهدف الأساسي للناخب كان هو التصويت من (أجل) وليس التصويت (ضد). التصويت من أجل برامج تقدم حلولا ومقترحات سياسية واقعية تصب مباشرة في تحسين شروط الحياة اليومية للمغاربة ولقد تصادف التصويت من (أجل) مع السقوط المدوي لمن لم يكن لهم أبدا برنامج انتخابي سياسي، وكانوا يختبئون في خطاب أخلاقوي ماضوي يستغل تدهور الأوضاع الاقتصادية. أما بالنسبة لاحتلال حزب الأصالة والمعاصرة للمرتبة الثانية في نتائج الثامن من شتنبر، فإن قيمتها لا تقاس فقط بعدد المقاعد التي حصل عليها هذا الحزب في الانتخابات، بل تقاس أساسا بالقوة التنظيمية والسياسية التي عبرت عناه هذه المكانة. إن وضع ثقة الناخب المغربي في حزب سياسي كان على مشارف الهاوية وخارج لتوه من أزمة تنظيمية كادت أن تعصف بوجوده، وعانى أزمة هوية سياسية جعلته فريسة سهلة لخصومه، ويحصل بعد كل هذا على المرتبة الثانية بقيادة لم تعمر سوى أقل من سنتين، هو واقعة سياسية وديمقراطية تستحق التحليل الجاد. ان السياق السياسي التنظيمي الذي جاءت فيه القيادة الجديدة لحزب الأصالة والمعاصرة، يعطي لتصويت الناخب المغربي لفائدته من اجل ان يحتل المرتبة الثانية دلالات ديمقراطية جديدة في الثقافة السياسية المغربية .فاستحضار معطيات أساسية كعقد المؤتمر الرابع للحزب على وقع أزمة تنظيمية حادة وانتصار مناضلي الحزب, القدامى و الجدد للوحدة الحزبية والخروج بقيادة موحدة. وتبني هده الأخيرة لنقد ذاتي شجاع ووقوفها موحدة وراء أمين عام يتبنى مسارا سياسيا جديدا يحتاج للوقت لتتضح أهميته, كلها معطيات تجعل التصويت على هذا الحزب بمثابة رسالة جادة من قبل الناخب للطبقة السياسية المغربية. لان التصويت لحزب عاش كل التحولات الممكنة تنظيميا وسياسيا وفي ظروف جائحة كوفيد 19، هو في الواقع تصويت لقيم ولتوجه أكتر منه تصويت على المرشحين فقط.هو تصويت لقيم التجديد في الخطاب كما في الوجوه، انه تصويت لشجاعة النقد الذاتي،ولنبل الخطاب الذي يعلي من الديمقراطية كمدخل للمصلحة الوطنية معتبرا أن الدعوة للمشاركة في التصويت أكثر أهمية من الدعوة للتصويت على مرشحي الحزب.كما لاحظنا في كل خطابات أمين عام هدا الحزب. وتصويت لوجوه جديدة شابة، نساء ورجالا، أبانوا في كل مرة سنحت لهم الفرصة لترجمة أفكارهم لفعل إصلاحي أنهم على مسؤولية وطنية عالية . كما انه تصويت أيضا لتوجه حزبي نحو حزب وحدوي مستقل يستفيد من ماضيه ليبني مستقبلا جديدا أساسه خدمة المواطن. مع احتلال حزب الأصالة والمعاصرة المرتبة الثانية في نتائج الانتخابات يتبين أكثر أن الناخب المغربي صوت من (أجل) اكتر مما صوت (ضد). انه صوت لنصرة الشباب الديمقراطي عندما يتوحد ويبني أداته المستقلة، فكاريزمية أمين عام هذا الحزب وحضوره القوي في المشهد السياسي الديمقراطي يبدو انه اقنع الناخب المغربي، خاصة مع الوحدة الديناميكية للقيادة الحزبية خلفه, و ما راكمته بعض رموزها من نتائج ايجابية في تقلد مسؤولية تسيير جهات كبرى وإستراتيجية في الاقتصاد الوطني, وانضباط القواعد المناضلة لتوجه الحزب ونجاحه في تدبير حياة داخلية للحزب تفور بالرأي والرأي المخالف. بهدا المعنى صارت المكانة الثانية في الانتخابات لحزب الأصالة والمعاصرة تعني تحولا في الثقافة السياسية المغربية للناخب المغربي الذي أصبح يعطي القيمة الايجابية للتجديد في القيادات، ويقدر الشجاعة في المواقف السياسية الجادة و المنتجة، ويثق في الكفاءات النزيهة الواعدة. وفق هذه القراءة للمعطيات التي جاءت بها نتائج الانتخابات الأخيرة ولدلالاتها السياسية، فانه لا يصح أن نبقى حبيسي ملاحظة الفاعلين السياسيين القدامى فقط الذين عمروا أكثر من عقد من الزمن، بل يجب أن ننتبه للفاعلين الجدد الصاعدين من الأمل الديمقراطي.