"الجزائر تقرر قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب"، شكل هذا الخبر "أبرز" مستجد لشاشة الأخبار، فتبوأ العناوين الإخبارية لجميع منابر الإعلام الجزائري يوم الثلاثاء 24 غشت 2021، كأنه "فتح عظيم" حققته الخارجية الجزائرية، والحال أنه خبر ليس بجديد، فالعلاقات بين البلدين "مقطوعة" بقوة الواقع، لأن الحدود مغلقة منذ سنة 1994، أما الغريب في القرار أنه جاء بعد الخطاب الملكي لعيد العرش بتاريخ 31 يوليوز 2021، حيث دعا من خلاله العاهل المغربي قادة الجزائر لإرساء علاقات ثنائية قوامها الأخوة والتاريخ المشترك والجوار، وأساسها حسن النية "والثقة والحوار"، لكن الرد الجزائري جاء معاكسا للدعوة المغربية ومتناقضا مع إرادة الشعوب في التقارب والتعاون، الأمر الذي يؤكد بأن حكام الجارة الشرقية يتحملون المسؤولية التاريخية في التفريق بين الشعبين، عبر إطالة أمد التوتر بين بلدين شقيقين، بل ورفض يد المغرب الممدودة.. بيد أن هذا الموقف الجزائري له أبعاد أخرى، خاصة لتزامنه مع ما تعرفه الجزائر من مشاكل على المستوى الداخلي، بما يعني أنه محاولة لتصدير الأزمة الداخلية لنظام يحتضر عبر التلاعب بالمشاعر الوطنية والاسترزاق بقضايا الشعوب، لإقناع الرأي العام الجزائري بالخطر المغربي.. فمن يصدق الكذبة؟ قد يكون الكذب عملة متداولة على نطاق واسع في السياسة الدولية، إلا أنه ليس وسيلة ناجعة لإدارة الأزمات السياسية؛ من الذي كان وما زال يهدد استقرار المنطقة من خلال استدراجها وتوريطها في سباق تسلح مهدد لسلم الشعوب المغاربية؟ أي واقعية فجة – هذه – لنظام جزائري يبيح لنفسه ويستبيح دعم تقسيم وحدة الأوطان عبر استضافة جماعات مسلحة على أراضيه مهددة للأمن والسلم الدوليين، بينما يشيطن مبادرة جاره الغربي لفتح جسور الحوار بذريعة أن المغرب يهدد الوحدة والاستقرار..؟ إن نظام العسكر الجزائري يعاني من فوبيا الخطر الأجنبي.. إذ لم يدرك هذا النظام بأن العالم يتغير، بسبب أنه نظام لم يتغير منذ نشأة الدولة الجزائرية قبل أقل من ستة عقود.. فالجيل الحاكم اليوم هو امتداد للأجيال السابقة، ورغم أن المسألة ليست جيلية بالأساس، فإن محدد الأجيال بحد ذاته يوحي على أن الجيل الذي نشأ في بيئة العداء للمغرب هو نفسه الذي يقرر في مصير بلد المليون شهيد، وبأن هذا الجيل لا يعمل فقط على إظهار السياسة العدائية، بل يكرسها ويثبت وجودها بأجهزة ومؤسسات صنع القرار وفق ما تثبته سلسلة اتهامات موجهة من مؤسسات النظام الجزائري إلى المغرب، وهذا ما يعني بأن النظام الجزائري لا زال سجينا لعقلية الحرب الباردة.. فوبيا الخطر الأجنبي ذات صلة – أيضا – "بعقدة" الدولة.. لأن عمر حكام قصر المرادية أكثر من عمر الدولة التي يحكمونها منذ الاستقلال سنة 1962.. وهو – بحد ذاته – إشكالا يرهق نفسية جنرالات الجيش الجزائري المنشغلين أكثر بالخطط والاستراتيجيات العسكرية، كأن الجزائر في حالة حرب دائمة مع أعداء وهميين لا يوجدون إلا في عقول ومخيلة قادتها، لهذا لا يمكن الانتظار من قادة الحرب أن يؤسسوا لسلام مستقبلي وعلاقات ودية.. وهذا إشكال ثالث، إذ حينما يكون الحاكم عسكريا، فإن المنطق العسكراتي ينتصر على منطق الحوار والتواصل وتجسير الهوة.. معناه أن أبواق الدعاية العدائية وطبول الحرب يغلبان على قدر الجغرافيا المشتركة.. والحق أن العسكر مكانه الثكنات وحراسة الحدود وليس قصور الرئاسة ومؤسسات صنع القرار.. هذا – إذن – جزء لا يتجزأ من تاريخ سياسي لنظام ينهكه الإرث الماضوي.. إرث أكثر من أربعة قرون من اللادولة (خضوع الجزائر للحكم العثماني من سنة 1516 إلى 1830؛ تلاها الاستعمار الفرنسي من سنة 1830 إلى 1962).. وإرث حرب الرمال بعد نشأة الدولة (حرب الرمال سنة 1963 بين الجزائر والمغرب).. إنها متلازمة نظام تزعجه سياسة الجار الخارجية على المستوى الدولي والقاري، فيحاول تكريس واقع بالقوة عبر خلق عدو وهمي للتغطية على التناقضات الداخلية من جهة، ومن جهة ثانية، يعمل على تكريس عقيدة العداء بغية التشويش وشيطنة مبادرات المغرب الصادقة والقائمة على حسن النوايا، سواء على المستوى المغاربي لحل الخلافات الثنائية والوساطة في الملفات الإقليمية أو على المستوى الإفريقي والعربي أو في العلاقة مع شركائه الأوربيين والدوليين عامة.. إن السياسة الخارجية هي عالم يتسم بتجاذب الآراء والمواقف، فعادة ما يقدم الساسة والقادة خطابا يسمونه بالعقلانية والواقعية، لكن الواقعية هي في الأصل نظرية عريقة في العلاقات الدولية، إذ غالبا ما يربطها البعض بالقوة بمعناها الشامل، والقوة هي معادلة صفرية، ما يكسبه هذا الطرف يكون على حساب الطرف الأخر، أي المسألة أشبه بالكعكة، إذا حصل طرف ما على نصف الكعكة، فإن النصف الأخر يبقى للطرف الثاني، ويتغير الأمر كلما تغير حصة حصول كل طرف من حجم الكعكة.. ما يحاول فعله النظام الجزائري من خلال التصعيد هو كسب حجم أكبر من الكعكة، لكن لا يدرك هذا النظام بأن المنطق ذاته سيحكم السلوك المغربي.. وهذا الأمر قد يجر المنطقة إلى الحرب.. ربما لو أدرك هذا النظام بأن المسألة ليست ذات الصلة بمن يكسب أكثر من القوة على انفراد (كسب أكبر حجم من الكعكة)، بل بما سيكسبه الاثنان معا من حجم القوة في حالة التعاون، لكان الرد العقلاني هو التفاعل بإيجابية مع دعوة المغرب لفتح العلاقات، ثم لتم حل معظم الإشكالات الثنائية على طاولة واحدة بالحوار والتفاهم، وهذا الخيار ليس مستحيلا، بل ممكنا، خصوصا إذا ما نظرنا إلى تجارب مقارنة شبيهة، نموذج العداء التاريخي بين ألمانيا وفرنسا الذي انتهى بإرساء أسس علاقات ثنائية متينة، حيث تشكل اليوم قصة نجاح، ليس فقط للدولتين، بل وللاندماج الأوربي بكامله.. لكن يبدو بأن ثمة هوس بالقوة والنفوذ الإقليمي عند قادة قصر المرادية، والذي يجعلهم يتصرفون بلا عقلانية، أكثر من ذلك، فقادة النظام الجزائري حساسون جدا تجاه مشاكلهم الداخلية.. وهذا ما يناقض المنطق الواقعي في السياسة، بل ويعاكس حركة التاريخ التي عادة ما تلفظ الرافضون لسننها.. لأن رفض التعامل بإيجابية مع الدعوة المغربية هو دليل على أن النظام الجزائري لم يصل فقط لمرحلة الإفلاس، وإنما وصل إلى حالة من العدوانية السياسية التي تنجلي بوضوح في تثبيت لعقيدة العداء الدبلوماسي تجاه جاره الغربي.. * عبيد الحليمي، طالب باحث في سلك الدكتوراه، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس.