بأيِّ ذنب قتلوه، بأيِّ ذنب تحت الأقدام سَحقوه، ذنبهُ الوحيد أنه أحبَّ هذا الوطن، رَحَلَ منه دون أن يُوَدِّع أمه، عَشقَ الهجرة وعانق الأمواج بذراعيه ليحقق حلمه، ولكنه لَم يكن يتوقع أنه سيعود في ثوب أبيض مرفوعا على الأكتاف، لتنتهي حكايته.. هي إذن قصةُ وطن جريح تجرَّع مرارة الاحتقان مرة، ومرارة الذل لمرات، أراد أن يحيا كريما، فتَمَّ قمعه والتَّنكيل به، قَسَموا شوكته وحاربوا طموحه، وأدخلوا الحزن على أطفاله قبل شبابه.. هي إذن لعبة المثير الأفضل، التي أصبح فيها المواطن بمثابة اللباس الداخلي الذي تَكون مهمته مُوجَّهةًلدفئ داخلي، لكن سرعان ما يفقدها متى تَحَوَّل إلى لباس خارجي. مواطنٌ أصبح عاجزا عن الكلام، وحتى أقواله غَدَت مجرد صيحات، ولَم تعد أداة للضغط أو قول الحقيقة، مواطن غدا أخرصا أو تم إخراصه، غير قادر على الوقوف في وجه السلطة، بل أصبح سُلطة تُزكي أفعال السلطة. أنا المواطن المقهور الذي قُلتُ الحقيقة دون مساحيق أو تجميل، فاتُّهمتُ بمعاداة السلطة والرأسماليين.. أنا المواطن الذي عَرَّيتُ الواقع وفضحت التشويهات وحاربت الأوهام، فتَمَّ إسكاتي بأَنَّ الوطن غفور رحيم.. أنا المواطن الذي صرختُ في وجه السياسيين والخونة، فقدمتموني للشعب باسم التحريض وخيانة الوطن.. عذرا أيها الجلاد، فسوطك أصبح مألوفا، وجرحي بات غائرا، لم يعد بمقدوري مداواته، فاتسع الجرح باتساع معاناتي في وطنك. عذرا أيها الجلاد، فالحياة على هذه الأرض تحولت إلى سراب، والبحث عن العيش في هذا الوطن أصبح واقعا مميتا، وما كان حلما وسعادة أصبح كابوسا، وما كان وسيلة تحرر وانفلات من القهر، بات جحيما.. عذرا أيها الجلاد، لا أريدُ أن أكون رقما في سجلاتك، أو ورقة محروقة في خططك، أو صيدا ثمينا في مستنقعاتك.. عذرا أيها الجلاد، فالوطن الذي يسكنني هو الذي أسكن إليه لأكون الفاعل لا المفعول، الوطن الذي أرتقي به فوق آليات إدراكك الواهنة، يسكنني وطن ممنوع من الصرف، وكل الضمائر فيه متصلة لا منفصلة ومستنيرة لا مستترة.. إن الأمر لا يتعلق بالتسوية مع المواطن وإرضاء مطلبه الاجتماعي، وإنما يتجاوز ذلك إلى التأسيس لفكر حر ونزيه يحترم الإنسان، ويتُوق لتذويب الفوارق وقبول الاختلافات، فهل نستطيع يوما أن نغمس من صحن واحد، أو نغرف من النبع نفسه؟ فأن تقاوم لذة الاحتقان والفقر المرير، معناه أن تعيش حد التخمة من اليأس والمعاناة، وأن تأخذ مغامرة الموت، وتكون كالذي ينحت في الحجر بأسنانه ليصنع الأشكال والمعاني. مُواطن اليوم قَطَعَ حَبلَ الصبر مع وطنه وبات يُغرد خارج السرب، يوشك أن يُؤسِّسَوطنية جديدة تخص الشعب دون المسؤولين. مئات الأسئلة سيدي تحتاج منكَ لأجوبة مقنعة، بل الملايين من أجوبتكَ تحتاج لتبريرات معقولة، فإصلاح المجتمع يحتاج لمفكرين متبصرين وليس سياسيين مرتزقين، يحتاج لمثقفين نزيهين وليس كتاب متملقين، يحتاج لإعلام نزيه وليس أقلاما مأجورة، يحتاج لإرادة حقيقية وجادة وليس شعارات منمقة.. صرختي لا تعني خيانةَ الوطن والتنكرَ لجميله، ولا بتشويه صورة مُواطنيه قبل مسؤوليه، ولا بطمس منجزاته واستحقاقاته، بل إنها تعني أساسا التحررَ من وَهْمِالسياسة وفساد مسؤوليه، والبحث عن رغد العيش وكرامة مواطنيه.. لست أدري ما إذا كانت هذه الصرخة مشروعة أم محضورة؟ قادرة على العبور أم معدومة الوصول؟ غير أن ما أستطيع تأكيده أنها صرخة ألم ومعاناة وعلامة انفعال لا فعالية، ودليل على القهر لا على الترف الاجتماعي، الأمر الذي من شأنه وحده أن يجعلنا غارقين ولمدة طويلة في بحر من الأسئلة لا حصر لها.. بهذا المعنى نستطيع بناء الإنسان وتحريره من أصفاده، فكلما ارتقت الدولة بشعبها التقت، وكلما تباعدت في درجة رقيها كلما تصارعت. إسماعيل العسري كاتب مغربي