قراءة في عرض مسرحي مساء الثلاثاء 17 يونيو على الساعة السابعة والنصف حجت ثلة من عشاق المسرح إلى المركب الثقافي بالقنيطرة لمشاهدة العرض المسرحي «كلام الصمت» لفرقة تراس للفنون. «كلام الصمت» عمل مسرحي يجمع بين التمثيل والرقص والكلمة والإضاءة والموسيقى والحركة، عمل يوجه المشاهد إلى أن العرض الدرامي ليس مجرد دراما طبيعية أو نفسية أو مجرد فرجة للتسلية وإثارة الفكاهة، والمخرج أمين ناسور بذلك ومن أول وهلة يستفز المشاهد ويستثيره بعنف، ويستدعيه للمشاركة ذهنيا وروحيا في احتفاله الطقوسي، رافضا أن يجعله مشاهدا راصدا مستلبا وسلبيا، إن أمين ناسور ومع انطلاقة عرضه المسرحي هذا يزعزع المشاهد ويحركه بقسوة ويحرر فيه وعيه الباطن، ويخلصه من غرائزه الدفينة كي يطهره طقوسيا وصوفيا وروحانيا. أول ما تراه العين على الركح هو السينوغرافيا التي تثير فضولك وهي تدفعك في البداية كمشاهد لتفكر مليا كي تفك شفرات هندستها والتي بدون شك لها صلة بموضوع العرض.. فتتساءل: هل هي خيمة؟ ذلك ما توحي به الحبال الستة، ثلاثة على اليمين وثلاثة على اليسار.. والأعمدة الأسطوانية المضاءة، أربعة منها فقط في بداية العرض والمضاءة كلها في نهاية العرض.. وذلك كله في خدمة الفكرة الجوهرية للنص والعرض معا. هل تلك الأعمدة بديلة لركائز الخيمة العربية التقليدية..؟ وهذه الركائز البيضاء التي تبدو كاملة البنيان في آخر الخيمة المفترضة هل هي ركائز الخيمة التقليدية أم ركائز بناية معاصرة تجعل الماضي فاعلا في الحاضر والحاضر غير قادر على الانفكاك والتخلص من رواسب الماضي..؟ وما معنى هذا التداخل بين التقليدي والمعاصر..؟ هذه الأسئلة وغيرها ستجيب عنها آهات ومعاناة وجسد البطلة المسرحية (الممثلة وسيلة صابحي). في وسط الخيمة المفترضة دائما، حسب قراءتنا المتواضعة، يوجد (الخباء / السجن) دائري مضاء وضعت تحته الممثلة التي تحيط بها حبال عبارة عن قضبان سجنها المهترئة .. إذا كانت الخيمة كسجن كبير فإن خباءها هو سجن آخر داخل السجن، وألوان هذه الخيمة المفترضة بيضاء كما هو لباس البطلة، هذا البياض قدره أن يحارب السواد الذي يترصده ويلاحقه أينما حل وارتحل.. إنه الرجل الذي يمارس قهره وجبروته بالصمت ودون أن يتكلم.. فهو شخصية سادية لها خبرة في التنكيل والتعذيب لعب دورها الممثل ياسر الترجماني المرتدي للباس أسود وهو يغطي وجهه بالكامل.. ويعزف على القيتارة الإلكترونية.. طغيانه وجبروته وساديته يعبر عن كل تلك النواقص السالبة لطهرانية شخصيته موسيقيا بدون أن يدخل في حوار مع سجينته التي يمارس عليها أنواع التنكيل والعذاب دون أن ينبس ببنت شفة.. بينماهي تقاوم بالكلام حينا وبالصمت تارة أخرى وبالجسد حين الحوار والصمت معا لا يجديان . الخشبة في هذا العرض المسرحي بدورها تشبه إلى حد ما لوحة غيبية ميتافيزيقية تستفز المشاهد وتهدف إلى أن يكون مشاهدا فاعلا لا منفعلا، من حيث وضعها، وطريقة هندستها، تثير اضطرابا عميقا عند المشاهد، الذي يجد نفسه منذ اللحظة الأولى تحت تأثير ذلك الجو الغامض، وهو يتوقع فيه دائما حدوث انفجار معين وهو ما سيحدث لاحقا مع انطلاقة العرض وآهات البطلة. يقول أنطونان أرطو في هذا الصدد: «في رأيي إن المنصة مكان مادي ملموس، يحتاج منا أن نملأه وأن نجعله يتكلم لغته المادية التي تخاطب الحواس مستقلة عن الكلام». لقد اعتمد المخرج أمين نسور على ثنائية اللونين الأبيض والأسود.. النور والظلام.. العلم والجهل.. المقاومة والاستسلام.. ثنائيات عديدة يبوح بها خطاب البطلة.. أو صمتها.. أو جسدها الثائر.. كما اعتمد المخرج وبشكل لا تخطئه العين على إشراكنا في عرضه المسرحي عن طريق إثارتنا واستفزازنا بالعنف وتحريرنا من كوابيسنا وغرائزنا السلبية الدفينة في وعينا الباطني ولا شعورنا الجمعي عن طريق تطهيرنا روحانيا وطقوسيا ودينيا بواسطة حركات مسرحية إيقاعية قائمة على تموجات جسدية وصرخات صاخبة وحركات الجذبة العنيفة التي أبدعت فيها الممثلة وسيلة صابحي . «كلام الصمت» عمل مسرحي له «رؤيا» فكرية وجمالية، فهو يجمع بين التمثيل والرقص والكلمة والإضاءة والموسيقى والحركة، وهو عمل يوجه المشاهد إلى أن العرض الدرامي ليس مجرد دراما طبيعية أو نفسية أو مجرد فرجة للتسلية وإثارة الفكاهة، لذا أبى المخرج إلا أن يستفز المشاهد ويستثيره بعنف، ويستدعيه للمشاركة ذهنيا وروحيا في احتفاله الطقوسي، ولا يجعله مشاهدا راصدا مستلبا وسلبيا، إن أمين ناسور بعرضه المسرحي هذا يزعزع المشاهد ويحركه بقسوة ويحرر فيه وعيه الباطن، ويخلصه من غرائزه الدفينة كي يطهره طقوسيا وصوفيا وروحانيا. وكأني به يحيلنا مرة أخرى على أنطونان أرطو الذي يرى بأن المشاهد «الذي يذهب إلى المسرح ينبغي أن يعرف أنه مقبل على عملية حقيقية، يشترك فيها بروحه وجسده، كأنها عملية جراحية، وينبغي ألا ينصرف كما جاء». الموسيقى بدورها في عرض «صمت الكلام» لعبت دوار مهما ومنسجما في قول ما لم ولن يستطيع أن يبوح به الكلام، موسيقى طنانة ومزعجة وهو إزعاج مقصود لأنه يتماشى مع سياق العرض على آلة القيتارة الإلكترونية المهيمنة أبدع فيها الفنان ياسر الترجماني والذي زاوج بين عدة إيقاعات.. صحراوية وكناوية وغربية.. لتبقى باقي الآلات من صناجات وبندير في حالات أخرى لتغيير الإيقاع والتماهي مع النص المسرحي . هناك ثلاثة علامات بارزة في العرض بعضها يكمل البعض الآخر: السينوغرافيا أبدع فيها أنوار الزهراوي .. والموسيقى أبدع فيها ياسر الترجماني والأداء أبدعت فيه وسيلة صبحي. وهذه العلامات الثلاث بكل تأكيد كانت جميعها تخدم رؤية المخرج الفنية والتي بدونها لا يمكن أن نتحدث عن عرض مسرحي ناجح . قد يقال: وأين النص المسرحي كعلامة رابعة تضاف إلى العلامات الثلاث..؟ صحيح أن كاتب النص المسرحي الدكتور عبد الرحمان بن زيدان وكقراء نعرفه ناقدا أكثر منه كاتبا مسرحيا قد توفق في عرض الفكرة التي يريد إيصالها للمتلقي ألا وهي معاناة المرأة في مجمعاتنا العربية قديما وحديثا من ظلم وعدوان الرجل الذي يكون غالبا غير مقصود ولكنه ظلم وعدوان كرسته التقاليد والعادات. لكن بدون وجود المكونات السالف ذكرها للعرض وبدون رؤية إخراجية واضحة ومدركة لتقنيات اشتغالها لا يمكنها إلا أن تسيء للنص المسرحي، أما إذا توفرت تلك المكونات والدعامات فلا شك أنها ستضيء الجوانب الخفية الثاوية بين سطور الكتابة النصية وهذا ما توفق فيه المخرج الشاب أمين ناسور... إن الفكرة التي طرحها الدكتور عبد الرحمن بن زيدان عن اضطهاد المرأة في الأوطان العربية هي فكرة سبق أن طرحَها الكثير من الأدباء والفنانين والمبدعين في الوطن العربي إبان عصر النهضة وبعده في أجناس أدبية شتى.. القصة والرواية والشعر والغناء والتشكيل... إلخ .. ولعل أبرز نص إبداعي يلتقي في طرحه مع طرح الأديب والناقد عبد الرحمان بن زيدان ونحن نشاهد صرخات الممثلة وسيلة صابحي وثورة جسدها على الركح يحيلنا فورا على استحضار نص شعري لنازك الملائكة والذي يحمل عنوان «غسلا للعار» تتحدث الشاعرة العراقية في هذا النص عن فتاة عربية يُبْقِرُ والدُها بطنها بالسيف جرما وظلما وعدوانا لا لذنب فعلته فقط لأن الأب المحكوم بالعادات والتقاليد يتوهم بأن هذا البطن قد يجلب له العار.. تقول الشاعرة في مستهل قصيدتها: أماه! وحشرجة ودموع وسواد وانبجس الدم واختلج الجسم المطعون .. والشعر المتوج عشش فيه الطين أماه! ولم يسمعها إلا الجلاد .. (....) ويعود الجلاد الوحشي ويلقى الناس «العار» ويمسح مديته مزقنا العارْ ورجعنا فضلاء بيض السمعة أحرارْ هذا الجلاد ليس إلا والد الفتاة المطعونة بمُدية والدها.. إنها المعاناة البشعة التي تعانيها المرأة العربية هي نفس المعاناة التي يكشف الدكتور عبد الرحمان بن زيدان النقاب عنها.. ويبقى العار والخوف من الفضيحة هو العذر الوحيد الذي يخاف منه الرجل الشرقي وبسببه يسلب الفتاة والمرأة حريتها بالقهر والغصب. لكن طرح الفكرة مسرحيا يختلف عن طرحها في باقي الأجناس الأدبية الأخرى، لأن المهم على خشبة المسرح هو طريقة الاشتغال على الفكرة لتصل إلى المشاهد أولا ولتثير فضوله وتلامس أحاسيسه ثانيا. ولتستفزه ثالثا. إننا إذن أمام عمل إبداعي ثان اسمه العرض المسرحي وليس النص المسرحي، مع العلم أن أحدهما لا يمكن أن يستغني عن الآخر. الإيقاعات الموسيقية المغربية حاضرة بجلاء في الطقوس الكناوية التي تهيج الجسد وتدفعه دفعا ليتحرر من كل القيود التي تقيده.. لذا رأينا لغة الجسد كلغة ثورية تبوح بأكثر مما تبوح به لغة الكلام بأداء فني راق لممثلة محترفة تتقن جيدا حرفتها.. وكأني بأمين ناسور في عرضه المسرحي هذا يحيلنا مرة أخرى على ما قدمه الفرنسي أنطونان أرطو في كتابه الموسوم ب «المسرح وقرينه» والذي قدم فيه مجموعة من التوجيهات المسرحية الرافضة بأن يتحول المسرح إلى مجرد تمثيل وتقليد، ساعيا بذلك أن يعود المسرح إلى جذوره الاحتفالية والطقوسية البدائية لكي يحرر الإنسان من غرائزه السلبية المتأصلة في وعيه الباطني على مستوى اللاشعور الجماعي، كما لامسنا الطقوس المغربية التي تمتح من جذورها الإفريقية محتفلة بالجسد الثائر على نفسه وهو بذلك يثور على تقاليد مجتمعية كابحة ومانعة. إننا أمام جسد أنثوي مسجون يعاني وجسد سجَّان ذكر يتلذذ بعذاب من يسجنها.. نعم! إنها خمسون دقيقة عشناها فكريا وروحيا مع عرض مسرحي متميز يدعونا للتفكير في موضوع المرأة التي هي الأم والأخت والزوجة والبنت.. والصديقة والجارة وأكثر من هذا وذاك المرأة المواطنة. من بين العروض المدعمة لهذه السنة شاهدنا عرضا مسرحيا يستحق منا كل التنويه، لأننا قضينا لحظات مسرحية بامتياز ونحن متفاعلون مع العرض المسرحي ومنفعلون بجودة الأداء. كما لا يفوتنا التنويه بالمجهود التي بذله الطاقم الفني والتقني كل في مجال اختصاصه من أجل أن يتحفونا حميعهم بعرض مسرحي متميز يستند على نص جميل يحمل عنوان «صمت الكلام» لأستاذ الأجيال الدكتور عبد الرحمان بن زيدان وتوقيع مخرج شاب اسمه أمين ناسور وأداء ممثلة محترفة أضاءت الجوانب المعتمة في جسد كل أنثى عربية مكلومة، إنها الفنانة المتألقة وسيلة صابحي.