ما وصلت إليه علاقات المغرب على التوالي مع ألمانيا وإسبانيا من مشاهد الفتور والقلق والاحتجاج والتصعيد، لايمكن فهمه إلا في سياقات ما حققه المغرب في السنوات الأخيرة وخاصة بعد أزمة الكركرات من مكاسب دبلوماسية وترابية ذات حمولات اقتصادية وتنموية وأمنية واستراتيجية، داعمة لقضية الوحدة الترابية للمملكة، ومعززة للدور المحوري الذي بات يلعبه المغرب كقوة إفريقية صاعدة لايمكن إنكارها إلا منكر، وهي مكاسب بقدر ما غيرت الموازين بالمنطقة وقوت من قدرات الدبلوماسية المغربية التي انتقلت إلى مستوى الحزم والصرامة والواقعية، بقدر ما أقلقت وتقلق أعداء الوطن وأحرجت بعض الدول الأوربية كألمانيا وإسبانيا، التي لم تتجرع تنامي قوة وقدرات المملكة على جميع الأصعدة، من منطلق أن ما تحقق من متغيرات، من شأنه أن يسحب البساط من تحت أقدامها، وهي التي اعتادت منذ سنوات أن تتعامل مع المغرب بعقلية إمبريالية صرفة، تسخر قضية الصحراء المغربية لممارسة لعبة المناورة البئيسة والابتزاز الرخيص، لإرغامه على المزيد من التنازل والخضوع، بالشكل الذي يخدم مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية. ما يحدث الآن بين الرباط وبعض العواصم الأوربية، يوحي بما تعرض له المغرب طيلة القرن التاسع عشر من ضغوط إمبريالية، تعددت أشكالها وأساليبها، لكنها توحدت في ابتزاز المغرب وإضعافه وإذلاله والسيطرة على خيراته، مستغلة ما كان عليه المخزن وقتها من ضعف عسكري وهوان سياسي واقتصادي، ولم تكتف القوى الإمبريالية وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا من ممارسة لعبة الضغط والابتزاز، بل وحرصت كل الحرص على أن تعرقل بطرق ووسائل مختلفة ما كان يتطلع إليه مخزن القرن التاسع عشر من إصلاحات، فزادت من حدة التكالب والضغط والابتزاز، بل والدخول في مناخ من التوتر والصدام في سباقها نحو السيطرة على المغرب واستغلال خيراته، كما حدث في التنافس الإمبريالي الشرس الذي احتدم بشكل خاص بين فرنساوألمانيا، خاصة خلال أزمة 1905م لما حل إمبراطور ألمانيا غيوم الثاني بطنجة، وإلقائه لخطاب دافع من خلاله على المصالح الألمانية بالمغرب، وذلك كرد فعل على الاتفاق الودي المبرم بين فرنسا وبريطانيا سنة 1904م لتسوية الخلاف حول مناطق النفوذ خاصة في المغرب ومصر، وأزمة 1911م، لما أرسلت ألمانيا باخرة عسكرية إلى سواحل أكادير مهددة بقصف المغرب احتجاجا على الحملة الفرنسية على فاس، قبل أن تسوى الأزمة بتنازل فرنسا عن الكونغو لفائدة ألمانيا، وعقب ذلك مباشرة باتت الطريق معبدة أمام فرنسا لبسط الحماية على المغرب بمعية إسبانيا. وخلافا لما قد يعتقده البعض، فالحركة الإمبريالية لم تضع أوزارها بعد حصول المستعمرات في إفريقيا وآسيا على الاستقلال، بل استمرت مستعملة أسلحة جديدة مرتبطة بالمناورة والمساومة والابتزاز وإثارة النعرات والدسائس الخفية والمعلنة وتغذية النزاعات الإقليمية …، ليس فقط لخدمة مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، بل وإرباك المستعمرات السابقة وعرقلة كل مساعيها وطموحاتها المشروعة في النهوض والرقي والازدهار والتحرر من التبعية، بالشكل الذي يسمح بالتحكم فيها واستنزاف خيراتها ورسم المعالم الكبرى لاختياراتها السياسية والاقتصادية والمالية والتربوية وغيرها، لذلك، فلا يمكن إلا أن نستوعب ردات أفعال دول استعمارية سابقة كألمانيا التي تمادت في الممارسات المعادية للوحدة الترابية للمملكة، وإسبانيا التي انكشفت نواياها الحقيقية بعد تورطها في "فضيحة" أو "مؤامرة" استقبال زعيم مليشيات الوهم المدعو "ابراهيم غالي" على أراضيها باستعمال جواز سفر جزائري مزور باسم "محمد بن بطوش"، وهو الملاحق من قبل القضاء الإسباني لتورطه في جرائم خطيرة وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وهي قرارات ومواقف تعكس حجم القلق ودرجة الحقد والتوجس، في ظل ما جنته الدبلوماسية المغربية المتبصرة من مكاسب متعددة الزوايا، أفقدت الأعداء والخصوم أوراق الضغط والابتزاز، ولم يعد أمامهم سوى التمادي في لعبة المناورة والتحرش، في مباراة حسم المغرب نتائجها بخطة متبصرة، استطاع من خلالها قلب الموازين، باعتراف أمريكي غير مسبوق بمغربية الصحراء وبنجاح متواصل لدبلوماسية القنصليات، وبحضور قوي في العمق الإفريقي، وبرهان حقيقي على إعطاء زخم قوي للشراكات مع الأصدقاء والأشقاء وفق قاعدة "رابح .. رابح"، وبقوة أمنية واستخباراتية على درجة كبيرة من الحرفية والنجاعة. نؤكد مجددا أن أمورا كثيرة تغيرت خاصة بعد أزمة الكركرات، انتقلت فيها الدبلوماسية المغربية من واقع الدفاع والهدنة والصبر، إلى مستوى متقدم من الجرأة والواقعية والصرامة والحزم في تعاملها مع كل القوى التي لازالت تراهن على "ازدواجية المواقف" في تعاملها مع قضية الوحدة الترابية للمملكة، ولم تعد قادرة على السماح بأية مناورة بئيسة أو ابتزاز رخيص أو مؤامرة مفضوحة من شأنها التشويش على السيادة ووحدة التراب، والوقوف في وجه دول أوربية من حجم ألمانيا وإسبانيا، هو دليل قاطع على أن اللعبة تغيرت وموازين القوى اختلت، بعدما نجح المغرب بكل تقدير وتبصر في توسيع نطاق تحالفاته الاستراتيجية خارج أوربا، بتعزيز آليات الشراكة والتعاون مع دول وازنة ومؤثرة من حجم الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا والصين وبلدان الخليج العربي …، فضلا عن العلاقات التاريخية والاستراتيجية القائمة مع عدد من الدول الإفريقية الصديقة والشقيقة، بكل ما لذلك من آثار اقتصادية وتنموية وأمنية واستراتيجية، تتحقق معها المكاسب والمصالح المشتركة وفق قاعدة "رابح .. رابح"، ودول الجوار الأوربي وفي طليعتها ألمانيا وإسبانيا، هي مطالبة باستحضار المتغيرات المرتبطة بالوحدة الترابية للمملكة، وبحسن تقدير القوة المتنامية للمغرب في محيطه العربي والإفريقي على المستوى الاقتصادي كما على المستوى الأمني والاستخباراتي، وهذا يفرض عليها رسم خارطة طريق جديدة تؤطر علاقاتها مع الرباط في إطار من التوازن والثقة والاحترام المتبادل بعيدا عن ممارسات الابتزاز أو التواطؤ أو التآمر، وهذا الإطار هو الكفيل بالمضي قدما في اتجاه إعطاء نفس جديد للشراكة المتعددة الزوايا التي تربط المغرب بجيرانه الأوربيين، الذين لابد أن يستوعبوا أن الشراكة مع المغرب بأبعادها المختلفة لايمكن تصورها أو الارتقاء بها، إلا في ظل احترام تام للسيادة الوطنية بعيدا عن "دبلوماسية الابتزاز والاستفزاز" التي باتت مكشوفة أكثر من أي وقت مضى. أما الإخوة الأعداء في الجارة الشرقية ونخص بالذكر من يتحكم في أزرار السياسة الجزائرية، فيؤسفنا إصرارهم على العداء الخالد، وتماديهم في إنتاج دبلوماسية "التهور" و"الغباء" و"التنازل" و"التحرش" و"المناورات"، التي لن تقودهم إلا إلى المزيد من الأزمة والضعف والهوان والعزلة، ويؤسفنا أنهم يستنزفون كل الطاقات والقدرات للمساس بالوحدة الترابية للمملكة وضرب مصالحها، فلاهم أفلحوا في زحزحة المغرب عن صحرائه ولا الصحراء عن مغربها، أو وقفوا سدا منيعا أمام ما حققته الدبلوماسية المتبصرة والمسؤولة للمغرب من مكاسب ونجاحات، ولا هم انتبهوا إلى البيت الداخلي الذي لم يسلم من جائحة الحراك، وباسم روابط الدين واللغة والتاريخ والمصير المشترك وحسن الجوار، ليس بإمكاننا إلا أن نأمل في أن يعودوا إلى جادة الصواب ويستحضروا صوت العقل وعين الحكمة، ويقدروا فاتورة العداء والحقد والتنازلات على الجزائر الشقيقة ذاتها وعلى المنطقة برمتها، نتمنى ونحن على أبواب عيد الفطر السعيد، أن تنتهي مسرحية الوهم والانفصال، لأنها مصدر الداء والوباء، من أجل الإسهام الجماعي في صناعة مستقبل آمن ومطمئن، تتحقق معه أهداف التنمية ومقاصد الرخاء والازدهار للشعبين الشقيقين المغربي والجزائري، ونختم بالقول أن أية دبلوماسية تراهن على شرذمة من مرتزقة الوهم والعار، بدل الرهان على خدمة شعبها والانخراط في قضايا التنمية والوحدة والأمن والاستقرار والعيش المشترك والمصالح المتبادلة، لن تكون إلا دبلوماسية غبية ومتهورة وتائهة …