جميل أن يظل ثمَّة شيء صادِق في حياتك الضيقة، و تحتفظ بشيء عتيق قد يعود إلى جدك الأكبر أو ما شابه يذكرك بزمن بعيد عنك و يستوقفك كثيرا في حياتك السريعة لتسترجع ذكرى ذلك الماضي الذي ابتعدت عنه بسنين عديدة لتجد نفسك وجها لوجه أمام عالم جديد ماتت فيه الرموز و القيم تباعا تباعا، فصرنا كما لو أننا في صحراء قاحلة لا أحد يعرف أحد. عندما كنت طفلا صغيرا، كنت كثير الاهتمام بكل ما هو عتيق في صنعه بسيط في مكوناته و جميل في شكله، لذلك كان يروقني أن أتلمس صندوقا خشبيا أحمر كان بحوزة جدتي على الأرجح أنها ورثته عن أمها الهالكة، و كانت تستعمله من أجل الاحتفاظ بأغراضها الخاصة فيه، و الحق أنه كان صندوقا جميلا تزينه أشكال لولبية و رموز فضية يجعلك الواحد منها تحزم حقائبك و تسافر إلى زمن غابر. كما لا أنكر أني كنت شديد الشوق لمعرفة ما بداخله، لذلك حاولت مرارا و تكرارا فتحه و الولوج إليه، إلا أن المهمة لم تكن حينها بالسهلة على الإطلاق، إذ كان من الصعب حتى الاقتراب منه، خاصة و أن جدتي كانت تحسن تخبئته في غرفتها الظالمة و تجيد إغلاقه بقفل نحاسي كبير يفشل عزيمة كل من سولت له نفسه أمرا. مرت الأيام سريعة.. و ذات يوم و بينما كنت أقوم بزيارة خاصة لجدتي في الآونة الأخيرة، لمحت الصندوق الخشبي من جديد بعدما فقد لونه اللامع و انفكت عنه تلك الرموز و الأشكال الجميلة.. كان يتربع على عرش الطاولة الكبيرة يعلوه نفس القفل النحاسي الذي لازال مسدودا بنفس الطريقة. أنزلته إلى الأسفل و طلبت من جدتي أن تناولني المفتاح، تمنعتْ في البداية و بعد إلحاح و إصرار حصلت على ما أريد.. لكن ما إن فتحت الصندوق حتى وجدت رزمة من الأوراق المهترئة التي أكل عليها الدهر و شرب : منها أوراق إدارية سُلمت من المحكمة أو المقاطعة، و منها أوراق تشهد استخلاص بعض فواتير الكهرباء يعود تاريخ أقدمها إلى عام 1994. لما أدركت أن الأمر يتعلق برزمة من الأوراق أصبت بخيبة أمل كبيرة.. كان من المفترض أن تحتفظ جدتي في صندوقها الخشبي بقطع الحلي التي ورثتها عن أمها الهالكة و خصوصا خيوط العقيق الأبيض و القطع المذهبة التي كانت تتزين بها في فترة شبابها و كذا تلك الأثواب المزركشة بأكثر من لون، و التي لبسها أول ما زفت عروسة جديدة إلى جدي. كل هاته الأشياء و أشياء أخرى كانت غائبة عن صندوق جدتي الذي صار وعاء لمجموعة من الأوراق التي احتلت المكان على نحو رهيب. أخبرتني جدتي فيما بعد بأن كل هاته الأشياء باعتها بثمن جد مناسب لأحد الباعة المتجولين. لقد اضطرت إلى بيعها لأنها لم تعد تستعملها منذ زمن و لا أحد سيلقي لها بالا بعد موتها. لكن أيا كان هذا الثمن الذي باعت به جدتي قطع الأثواب و الزينة، فتلك الأشياء تظل أغلى من أن تساوم بثمن، ليس نظرا لقيمة تاريخية من المفترض أن تحظى بها لكن على الأقل لتلك المكانة الرمزية التي تحملها بالنسبة إلى عائلتنا. هذا الأمر جعلني أتساءل لِما ابتاعت جدتي كل أغراضها الثمينة ؟ أ كانت تريد أن تنفك من كل تلك الأشياء التي تذكرها بالماضي ؟ أم تكون قد انساقت في هذا العالم المادي و أصبحت تؤمن بتفاصيله و إن كانت هي امرأة البادية تميزها البساطة و العفوية عن غيرها من نساء الحضر ؟ و الغريب في الأمر أني حاولت جاهدا أن أقنع جدتي بشتى الوسائل بعدم جدوى الاحتفاظ بتلك الأوراق التي لم تعد لها أية أهمية، خصوصا بعد مرور سنوات طويلة على تاريخ استلامها، لكنها لم تقتنع بذلك و قالت لي إن الاحتفاظ بها خير من عدمه. إنه ليحز في القلب صراحة أن يتخلى المرء عن كل تلك الرموز الثمينة بمقابل زهيد و في أول فرصة سانحة، و بالمقابل لا يستطع التخلي عن الأوراق الإدارية التي لم تعد لها أية أهمية على الإطلاق ! لما لم تعد تحظى الأشياء القديمة عندنا بأهمية كبيرة ؟ لما نسمح لأنفسنا بأن نتخلص منها في أول مرة يعرض علينا ذلك، و لا يهم إن كان المقابل زهيدا أو مناسبا ؟ و لئن كان مفهوما أن استعمال بعض تلك الأشياء لم يعد لائقا نظرا لقدمها و تطور أشكالها، فإن حدا أدنى من الاهتمام يفترض أن نتعامل به معها لأنها تختزل في طياتها تاريخ الأجداد الذي نحن امتداد له و حكاية أصولنا التي لن نستطيع الانفصال عنها بأي كان. إن التخلي عن تلك الأشياء القديمة الرمزية قد يدفع بالمرء إلى التخلي على ما هو أثمن و أغلى كالقيم و المبادئ مثلا. فكثير منا يجد نفسه مضطرا إلى التخلي عن الوفاء بعهد أو المحافظة على أمانة مقابل مكسب مادي زائل. أليس من السخافة إذن أن نقبل على عالم الماديات طائعين ذليلين ننخرط بشكل فعلي و غير مشروط إلى ما يدعو إليه و لا نجد أدنى حرج في التملص من رزمة الرموز و القيم التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعوض بثمن ؟