حذّرنا أكثر من مرّة في مقالات سابقة أن الوضع في تونس خطير وسينفجر في أي لحظة نتيجة تراكم المشاكل السياسية التي تتبعها بالضرورة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وقُلنا إن الأمر يحتاج إلى تدخل عاجل من كل القوى الوطنية الغيورة على وطنها والحريصة على الاستقرار الأمني والاجتماعي في تونس، لكن يبدو أن الطبقة السياسية كانت تستخفّ بما يُنشر هنا وهناك من تقارير تبين خطورة أوضاع الشباب الذي لا يجد عملا ولا وظيفة يقتات منها ويعيش هو وأهله، هؤلاء الشباب الذين يمثلون عصب المجتمع، وفي مقال أخير كتبتُ أن الشباب سينتفضون وسيقيمون ثورة أخرى على غرار الثورة السابقة أو أشد لأن هذه المرة تمسّ حياتهم المعيشية وليست السياسة، لكن السياسة هي سبب المشكلات اليوم في تونس أكثر من أي وقت مضى، وما دامت شعلة التحركات قائمة على الخبز فإنه يصعب إطفاؤها إلا بتنازلات مؤلمة ترضي جميع الأطراف، وهذا لن يتحقق إلا بإرساء حوار وطني عام يكون الشباب الفئة المهمة والطرف الخفي الذي يمكن أن ينقذ البلاد مما نحن فيه من اضطرابات دون توجيه اتهامات إلى طرف، لأن ذلك لن يحل المسألة بل سيُؤججها من جميع الزوايا والأطراف. عشر سنوات كان يمكن لتونس أن تتهيأ لمثل هذه الظروف السيئة جدا، لو أنها عرفت كيف تستقطب الشباب بكل أطيافه، فهم ثمرة البلاد وعمودها، فأي دولة تهتم بشبابها صحةً وتعليمًا وتأهيلًا وتدريبًا وتوظيفًا للقدرات لن تخسر أبدا، لأننا سنغرس فيهم الوطنية والتربية والتعليم وهي أسس ضرورية لقيام دولة فتيّة مستقرة، وقد طالبتُ في أكثر من مقال بضرورة إشراك الشباب في الحوارات الاستراتيجية والبحث العاجل عن حلول واقعية تنقذ هذه الفئة التي تسعى للخروج من البلاد أو التي تعيش اليأس والكبت ولا تجد متنفّسا للتعبير عن رأيها والمشاركة في الحياة السياسية بطريقة أو بأخرى والاستماع والإنصات إلى مشاريعهم وأحلامهم وطموحاتهم بدل الاستماع إلى نواب البرلمان وهم يصطرخون أو يصرخون ويتلاسنون ويلقون التّهم جزافا لبعضهم بعضا، أليس ذلك كله تضييعا للوقت وهذا نتيجته. كما يكمن سبب هذه الفوضى التي تعيشها البلاد شمالا وجنوبا، شرقا وغربا في النظام السياسي الحالي الذي لا يعير للشعب اهتماما لأنه نظام قائم على المحاصصة الحزبية إن صح التعبير وتوزيع المهام على الأحزاب المتناثرة وغير المستقرة، ومحاولة الاستحواذ على الحكم من كل الأحزاب، فكل حزب بما لديه من إمكانات كان يظن هو الأولى في الحكم من غيره، لذلك من أين ستنبع الوطنية وهل سيكون عمله متقنا وخدمة للشعب أم خدمة لحزبه ونفسه، وما ظهر للشعب أن النواب يتمسرحون في قبة البرلمان في باردو، ويرسمون لوحات من النزاع الشديد والخصام اللامبرر في مشهد يدعو للحيرة والسأم، نزاع متواصل في كل جلسة تقريبا دون أن يحققوا اختراقا قويا على الأرض والواقع يمكن أن يفيد الشعب التونسي الذي يريد أن يرتوي من خيرات البلاد فيخدمها بكل قوة وبكل تفان. مشكلتنا أننا دائما نستفيق في الوقت الضائع ولا نستطيع أن نفعل شيئا، ألم يناشد الشباب في أكثر من موضوع، وفي أكثر من مرة، وعبر كل وسائل الإعلام، وخاصة منها وسائل التواصل الاجتماعي، الحكومات المتتالية النظر إلى حاجيات الشباب وأحوالهم ومساعدتهم قدر المستطاع، ألم تر الحكومات المتعاقبة ما يعانيه الشباب التونسي في كل المناطق من حالات بؤس وشقاء دفعتهم جميعا للمغامرة والمقامرة من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية وحالاتهم المادية، ألم تكن الأحزاب هي السبب المباشر ووراء هذه الأحداث الدامية التي تشهدها البلاد اليوم، فالشباب غاضب من الدولة التي لم توفر شيئا لشعبها، واكتفت بالموجود واستسلمت للحالة المُزرية التي هي عليها اليوم، دون إصلاح حقيقي وجذري. المطلوب اليوم وقبل كل شيء إصلاح النظام السياسي حتى تتغير بوصلة البلاد نحو الاستقرار، المطلوب جهة واحدة تحكم البلاد، وتضبط الأمن بكل صرامة وجُرأة وحزم وحسم، وتوجد الحلول المناسبة التي تخدم الشعب لا الحزب، فالديمقراطية التي نشهدها اليوم لا نريدها، لأنها تُرسي الفوضى، وعلى الكل أن يتحمل المسؤولية الوطنية وينزع عنه لباس المصالح واللهاث وراء المنافع الذاتية على حساب كل المعطيات الوطنية، ومن المهم أن يكون النظام السياسي اليوم أكثر من أي وقت مضى قويا ومتينا حتى يستطيع مواجهة كل التحديات، وخاصة منها محاربة الفساد الذي يعد العدو اللدود الذي يهتك عرض البلاد، ويؤدي بها إلى الإفلاس.