تناسلت في الأيام الأخيرة سلسلة من المقالات والتدوينات لمجموعة من قياديي حزب العدالة والتنمية تفاعلا مع قرار المغرب تطبيع علاقاته مع الكيان الصهيوني، وهي آراء وإن كانت محتشمة في الكمية إلا أنها تعبر في المقابل عن مأزق قيادة الحزب في التعاطي مع قرار التطبيع خصوصا مع نازلة توقيع الأمين العام للحزب ورئيس الحكومة للإعلان الثلاثي المشترك بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل. وقد تمحورت تلك الآراء في تبرير قرار التطبيع، وتبرير توقيع العثماني على الإعلان المشترك، كما أنها تمحورت في الرد والتفاعل مع مواقف التنظيمات الوطنية والإقليمية التي أعلنت رفضها لقرار التطبيع. ومن هذه الآراء مقال لعضو الأمانة العامة للحزب محمد الطويل بعنوان "مؤاخذات على بيانات الإسلاميين والقوميين بشأن خطوات المغرب لتعزيز وحدته الوطنية". الموقف من مغربية الصحراء: أول الملاحظات حول مقال "الطويل" هو عنوانه المضلل، فهو عنوان يوحي بأن المنتقدين لقرار التطبيع مع الكيان الصهيوني يهاجمون مغربية الصحراء ويقفون في خندق خصوم الوحدة الترابية للمغرب، وهذا غير صحيح بالنسبة للغالبية الساحقة من التنظيمات الإسلامية والقومية –باستثناء التنظيمات الجزائرية المرتبطة بالنظام وبعض التنظيمات العربية ذات التوجه اليساري- التي تعاطت مع قرار تطبيع المغرب لعلاقاته مع إسرائيل. فهذه التنظيمات لم تتعاطى مثلا مع قرار المغرب التدخل في معبر الكركرات لوضع حد لاستفزازات جبهة البوليساريو، وهو تدخل وقع قبل أسابيع فقط من قرار إعادة العلاقات مع الكيان الصهيوني، لكن تلك التنظيمات لم تدبج البيانات والبلاغات ضد الخطوة المغربية. وإذا كان أمل كل مغربي هو أن يحظى الموقف الوطني من مغربية الصحراء بدعم كل القوى الحية في الأمة بعلمانييها وإسلامييها، ويمينيها ويسارييها، إلا أن واقع تلك القوى يختلف من بلد لآخر، وهو ما يعيه المغرب تمام الوعي بحكم طبيعة ملف الصحراء المعقدة قانونيا وواقعيا، وتدخل عدة أطراف في الملف، في مقدمتهم الأممالمتحدة، ولهذا كان هدف المغرب منذ بداية النزاع المفتعل في الصحراء هو دفع دول العالم لالتزام الحياد في هذا الملف، وعدم الاعتراف بالكيان الوهمي ودعمه، وما يقال عن الدول يقال عن التنظيمات والهيآت التي شكل العديد منها منبرا للترويج لأطروحة الانفصال وخلق مشاكل للمغرب في عديد من المجالات وعلى رأسها المجال الحقوقي. ويعي المغرب الواقع الموضوعي الذي تتحرك في ظله تلك التنظيمات لاسيما في دول مثل تونس وليبيا والأراضي الفلسطينية، وتحدي علاقاتها مع خصوم المغرب في ملفه الوطني خصوصا النظام الجزائري، وهو النظام الذي عبر عن امتعاضه وغضبه من حياد السلطة والتنظيمات الفلسطينية بعد تدخل المغرب في معبر الكركرات. والغريب أن ينتقد قياديو العدالة والتنمية صمت العديد من التنظيمات العربية والتزامهم الحياد في قضية الصحراء المغربية في حين أن المغرب قبل بتواجد أحزاب وجمعيات تشتغل بشكل قانوني وتدافع عن أطروحة ما يسمى "حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره"، وتتحدث عن مرجعية مواثيق وقرارات الأممالمتحدة لحل النزاع في الصحراء. وبعد التدخل العسكري المغربي في معبر الكركرات أعلن أحد الأحزاب رفضه لذلك التدخل وجدد حديثه عن " حق تقرير المصير"، وهو موقف لم تعبر عن مثيله عربيا إلا التنظيمات المرتبطة بالنظام الجزائري أو بعض التنظيمات اليسارية العربية. حركة حماس والموقف من التطبيع: استشهد محمد الطويل في سياق تبريره لقرار التطبيع مع الكيان الصهيوني ببعض مواقف حركة حماس في عديد من القضايا، وهو قياس يدل على عدم إلمام ببعض الملفات الإقليمية، وبتوجهات حماس واختياراتها، "فالقرار الصعب" –كما وصفه الطويل- بقبول دولة فلسطينية على حدود يونيو 1967 لا يمكن قرائته قراءة اختزالية وتعسفية وتوظيفية بمعزل عن بقية مضامين وثيقة المبادئ والسياسات العامة. وأول ما ينبغي الوقوف عليه في الورقة هي لغتها "المسيرية" –نسبة للمفكر عبد الوهاب المسيري- في تحليل المشروع الصهيوني، كمشروع عنصري إحلالي توسعي، مرتبط بالسياق الحضاري الغربي في محاولته لحل المسألة اليهودية. فقبول حماس بدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967 لا يمكن عزله عن سياق القراءة الجديدة للمشروع الصهيوني التي اعتمدتها حماس، وإعادة تعريفها لطبيعة الصراع، وهي القراءة التي ترى إسرائيل كدولة وظيفية للقوى الغربية في منطقة الشرق الأوسط، وأنها لن تقبل أبدا بقيام دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة حتى على مساحة أقل من حدود 1967، فموقف حماس هو موقف تكتيكي/ظرفي وليس موقفا استراتيجيا، وهو ما يتضح من خلال القراءة الكاملة غير الاختزالية والتوظيفية لوثيقة المبادئ والسياسات العامة، والتي تنص على أنه "لا تنازل عن أي جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أي بديل عن تحرير فلسطين تحريرا كاملا من نهرها إلى بحرها. ومع ذلك –وبما لا يعني إطلاقا الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أي من الحقوق الفلسطينية- فإن حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، عاصمتها القدس على خطوط 4 يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة"، كما أن قبول حماس بدولة فلسطينية على حدود 67 ليس "ممارسة نادرة" كما أشار "الطويل"، فهي ليست بالأمر الجديد كليا على أدبيات الحركة، فهو موقف عبر عنه مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين، في إطار التمييز بين التكتيك والاستراتيجية. وما يقال عن القبول بدولة فلسطينية على حدود 1967 يقال عن الموقف من اتفاقيات "أسلو" التي تستمر الحركة في رفضها، لكنها تقبل بالعمل من خلال المؤسسات التي أنتجتها، وهو الأمر الذي مكنها من توفير قاعدة صلبة للمقاومة في قطاع غزة، والحصول على شرعية التمثيل الفلسطيني الديمقراطي، وبالتالي تعزيز مكانة الحركة على الصعيد الدولي. أشار محمد الطويل لعلاقة الحركة مع بعض الأنظمة العربية والإسلامية كالنظام السوري والنظام الإيراني، وحتى وإن كان "الطويل" يدعي أنها ليست من باب التزيد على الحركة ومثيلاتها، فمجرد الإشارة لهذه العلاقات في سياق تبرير موقف العدالة والتنمية من التطبيع مع إسرائيل -مع التأكيد على جواز المقارنة في عديد من القضايا- تعبر بشكل مؤسف عن القراءة الاختزالية والسطحية لتاريخ الحركة وواقعها ومواقفها، بل ولتاريخ تنظيمات المقاومة الفلسطينية والأخطاء التي وقعت فيها، والتي شكلت درسا قاسيا، لكنه مهم لحماس. فالحركة اتخذت منذ تأسيسها خيار عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والنزاعات القائمة بها وبينها، وركزت هدفها على مقاومة الاحتلال ولا شيء غيره، وهو موقف جددت التأكيد عليه في وثيقة المبادئ والسياسات العامة. ومن هذا المنطلق قبلت التواجد في سوريا بالرغم من جرائم نظامها سنوات الثمانينات ضد السوريين ومنهم أعضاء الإخوان المسلمين، وتجريم الانضمام للجماعة. ومن هذا المنطلق كذلك أقامت تحالفاتها مع النظام الإيراني، وأقامت علاقاتها مع العديد من الدول العربية، ورفضت دائما الانخراط في الصراعات البينية بين الدول العربية والإسلامية، وخروجها من سوريا سنة 2012 لم يكن بسبب الجرائم التي ارتكبها النظام، بل بسبب طلب النظام دعم الحركة في مواجهة السوريين، وبسبب الأخطار الأمنية التي باتت تحيط بأعضاء الحركة هناك؛ ومن هذا المنطلق كذلك استمرت في علاقاتها مع النظام الإنقلابي في مصر بالرغم من جرائمه المروعة بحق الرافضين للإنقلاب. وحماس في علاقاتها مع تلك الأنظمة لم تقم إلا بتفعيل إحدى أهم محددات سياستها الخارجية. وبغض النظر عن الاتفاق والاختلاف مع حركة حماس ومواقفها، فإن ما يحسب للحركة هو مزاوجتها بين النظرية والممارسة، وخير مثال هو وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي استغرق اعدادها أربع سنوات من النقاشات المعمقة، فحماس لا تبرر الواقع بل تقوم بتفسيره مع طرح نظرية لتغييره، أما ما وقع لقيادة العدالة والتنمية فهو مجرد تبرير لقرار التطبيع بعد أسابيع من التأكيد على رفضه، والفرق جد شاسع بين التفسير والتبرير. وما يسترعي الانتباه في مقال "الطويل" هي لغته الطائفية التي ما كان ينبغي على من هو في موقعه الوقوع فيها، وذلك حين تحدث عن غض حركات المقاومة "الطرف عن جرائم النظام الإيراني في حق أخوتنا السنة بمنطقة الأهواز "، وفضلا عن اللغة الطائفية فإشارة "الطويل" لملف الأهواز وقضية "الأخوة السنية" يؤكد عدم إلمام بملف الأهواز وبتركيبته السكانية التي يغلب عليها المكون الشيعي العربي، وعدم إلمام بحقيقة الصراع في ذلك الإقليم وأسبابه التاريخية والسياسية والاقتصادية، وهو ما ينطبق بدرجة معينة على بعض الأقاليم الإيرانية بالرغم من وحدة المذهب الشيعي، مثل المكون الآذري في منطقة أذربيجانالإيرانية، والصراع بين إيران ودولة أذربيجان الشيعية. العلاقات التركية-الإسرائيلية: يثير الاستحضار والتركيز المكثف على النموذج التركي في علاقاته مع الكيان الصهيوني من قبل قيادة العدالة والتنمية لتبرير قرار التطبيع –أؤكد مجددا أن نقاشي ينصب على الموقف من قرار التطبيع- الكثير من علامات الاستفهام والتعجب. وقبل نقاش النموذج التركي في علاقاته مع إسرائيل، فإننا نتساءل عن السبب الذي جعل قيادات العدالة والتنمية تتغاضى عن الإشارة للموقف التركي الداعم لمغربية الصحراء، فقد كان حريا بقيادة العدالة والتنمية وهي تتطرق للنموذج التركي في سياق مناقشة قضية الصحراء أن تستحضر الموقف التركي من قضية الصحراء ولو من باب "التوازن البلاغي" كما جاء في مقال الطويل. ما لم يدركه "الطويل" وغيره من القيادات أن أزمة تركيا مع الكيان الصهيوني هي في جزء منها من تجليات دعم تركيا للموقف الفلسطيني، وانتقال تركيا من حليف لإسرائيل غير مكترث في الغالب للحقوق الفلسطينية إلى مدافع عن هذه الحقوق، وهو انتقال نوعي ومهم. وتحولها إلى لاعب أساسي في القضية الفلسطينية بعد رفع الكثير من الدول العربية يدها عن القضية، مما جعلها منذ سنوات مركزا للأنشطة الداعمة للفلسطينيين وحقوقهم، ولا أظن أن قيادة العدالة والتنمية تناست سفريات العشرات من برلمانييها وقيادييها للمنتديات الدولية حول القدسوفلسطين، كما تحولت تركيا لمتحدث باسم حركات المقاومة في العديد من المحطات كالحرب على قطاع غزة سنة 2014، ويمكن هنا العودة لتفاصيل الاتصال الهاتفي بين أوباما ونتانياهو خلال تلك الفترة، ورفض هذا الأخير للوساطة التركية-القطرية، مع الإشارة إلى أن هذا التحول التركي هو في الأول والأخير في جزء كبير منه يهدف لخدمة للمصالح التركية. وما فات من يعقد المقارنات بين العدالة والتنمية المغربي والعدالة والتنمية التركي في قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني هو وقوعه في مقارنات متعسفة، وإن كانت تصح المقارنة في بعض القضايا الإقليمية، وحتى مقارنة الموقف التركي من إسرائيل ببعض الملفات الأخرى. فالسياقات التاريخية والجغرافية والسياسية بين المغرب وتركيا وبين الحزبين جد مختلفة، فتركيا كانت أول دولة إسلامية تعترف بالكيان الصهيوني سنة 1949 -حتى قبل حصول المغرب وغالبية الدول العربية والإسلامية على استقلالها-، والنظام السياسي التركي ليس هو النظام السياسي المغربي، والعدالة والتنمية التركي ليس هو العدالة والتنمية المغربي، فالعدالة والتنمية التركي وجد العلاقات بين تركيا والكيان الصهيوني علاقات قائمة ومتجذرة، وكانت امريكا ومعها إسرائيل تتحكمان بدرجة معينة في القرار السياسي والاقتصادي التركي، بل إن تركيا بالإضافة لكونها كانت البلد الإسلامي الوحيد العضو في حلف النيتو -قبل أن تنضم إليها بعد سنوات ألبانيا- هي من الدول القليلة التي تتوفر على أسلحة نووية أمريكية. كما أن العدالة والتنمية التركي لم يكن يعلن أنه ضد العلاقات مع اسرائيل، وتعاطى نظريا مع تلك العلاقات تعاطيا وفق الواقع التركي وأعلن تشبثه الحفاظ على تلك العلاقات، وكان منسجما مع أطروحته عندما وصل لرئاسة الحكومة وأصبح يدير شؤون الدولة، لذلك فالتحول الذي قامت به تركيا في العلاقات مع إسرائيل هو تحول ذو وجهين، سلبي في اتجاه الصهاينة وايجابي تجاه الفلسطينيين، لأنه ادخل تركيا كمعادل مدافع عن الحقوق الفلسطينية بعد أن كانت غير مكترثة لها، وهو تحول نوعي واستراتيجي مهم. أما واقع المغرب فهو واقع مختلف، وحزب العدالة والتنمية المغربي بنى أطروحته النظرية على مواجهة التطبيع ورفضه، وهو موقف استمر فيه لمدة تتجاوز عشر سنوات من موقع رئاسة الحكومة، بل هو موقف جدد التأكيد عليه رئيس الحكومة والأمين العام للحزب سعد الدين العثماني قبل أسابيع فقط، مع ملاحظة أساسية وهي أن القوى الحية في المغرب وخارجه لم تكن تحمل الحزب مسؤولية علاقات التطبيع غير العلنية التي كانت قائمة بالفعل، والمسؤولية عن الزيارات التي كانت تتم من وإلى الكيان الصهيوني، فهذا واقع وجده الحزب أمامه. * علي فاضلي- باحث في الدراسات السياسية والدولية