استرعت القرارات الأخيرة، المتمخّضة عن إعلان الرئيس الأمريكي اعتراف بلاده بسيادة المغرب على صحرائه وبما علق بذلك القرار من إعادة ربط المغرب جزء من علاقاته بالكيان "الإسرائيلي"، باهتمام العديد من الدول والفاعلين الذين توزّعت مواقفهم بين تأييد مُستبشر أو إدانة مستنكرة أو تحفّظ حذر. والظاهر أن كل موقف من هذه المواقف الثلاثة تُعبّر عن موقع الفاعل نفسه من القضية وفهمه لها ومصلحته إزاءها. الشيء الذي يفسّر ترحيب العديدين بكل مبادرة إلى حلّها، أو يبرّر إصرار البعض على إبقاء الوضع القائم على حاله. لقد استطاعت الديبلوماسية المغربية، بقيادة عاهل البلاد، أن تُحرز كسبا استراتيجيا نوعيا مُحقّقة نصراً ديبلوماسيا غير مسبوق، بعد أن خاضت غمار عملية تفاوضية مع أحد أكبر القوى الدولية انتهت باعتراف رئاسي للولايات المتحدة بسيادة المغرب على كامل تراب صحرائه. وذلك بعد عقود طويلة من الزمن، ظلّت خلالها هذه القضية تراوح مكانها على مكاتب الأمناء العامين للأمم المتحدة أو بفضاءات المنتديات الأممية أو الإقليمية أو القارية. والواضح، أن هناك جهات شتّى يهمّها بقاء الوضع القائم على حاله، بالنظر لما يجلبه لها من عوائد عديدة، علّ إحداها استمرار نهجها سياسات الاستفزاز والابتزاز المرهقة للمغرب، والذي ظل مرهونا لتعقّد مسارات هذه القضية وتقاطع استراتيجيات الفاعلين الدوليين والإقليميين بخصوصها. فكل هذه القوى، بما فيها دول الجوار، لا تخفي نواياها أو رغباتها لليّ ذراع المغرب، الحريص على وحدته، دفعاً إياه إلى تقديم مزيد من التنازلات، أو لرهن قراراته السيادية والضغط عليه للقبول بصفقات أو الاندراج في مقايضات قد تضرّ بمصالح وطنية وقومية أخرى. ومثل هذه الممارسات والسياسات متوقّعة في عالم العلاقات بين الدول، بحكم أنها علاقات قائمة على منطق القوة ونزوعات المصالح، أكثر من أي شيء آخر. ويُترقّب، في الأفق المنظور، أن العالم سيشهد مزيدا من السباق الاستراتيجي المحموم بين العديد من القوى المتنافسة والطامعة لبسط نفوذها على الكثير من بقاع العالم، والتي يقع في مقدمتها الصراع على طول الشريط الأطلسي ومنطقتي غرب وشمال إفريقيا حيث يتبوّأ المغرب مقاما استراتيجيا حيويا، وعلى أكثر من صعيد. فمن جهة، تسعى القوى الاستعمارية التقليدية (فرنسا وإسبانيا وإيطاليا) جاهدة للحفاظ على شيء مما تبقى لها من مصالح موروثة عن الفترة "الكولونيالية"، مقابل تنامي النفوذ الدولي لكل من الولاياتالمتحدة والصين وروسيا، أو حتى بعض الدول الإقليمية الصاعدة (تركيا وإيران) الطامحتين للعب أدوار أهم على مستوى أكثر من محور إقليمي. في حين تبقى معظم الدول العربية تحت طائلة، ما يسميه المفكر الاستراتيجي العربي د. حامد ربيع، عملية شد الأطراف بين كل هؤلاء الفاعلين المتضاربة مصالحهم والمتناقضة استراتيجيتهم، والطامعة أنظمتها في استغلال دول المنطقة بفضل ما تتمتع به من موقع استراتيجي ومن ثروات هائلة ومقدّرات زاخرة سهل استثمارها، وغير مكلف النفاذ إليها. وبخلاف المنطق الذي يُحرك سلوك الدول واستراتيجياتها تجاه العديد من القضايا التي تعرفها المنطقة، والتي من بينها قضية النضال المغربي من أجل استكمال مسار وحدتيه الوطنية والترابية؛ فإن المنطق الذي يلزم أن يؤطر الفاعل "اللا-دولتي" من حركات قومية أو إسلامية ومنظمات مدنية هو الانحياز إلى توجهاتها المبدئية ولغات المثل المتعالية. وذلك من أجل صنع حالة من التوازن بين منطق المصالح والقوة والصراع على مراكز النفوذ بين الدول القوية في مواجهة الدول المستضعفة، وبين منطق المبادئ المنتصر للقيم الإنسانية ولحق الشعوب في العيش بحرية واستقلال يتيحان لها الإفادة من خيراتها والارتفاق بما حباها الله من ثروات وطيبات. وبلا شك، تتموقع الحركة الإسلامية، إلى جانب باقي القوى الصادقة القومية والوطنية، في طليعة الحركة المجتمعية للأمة في توثّبها إلى استعادة دورها الحضاري، بما هي أمة صاحبة رسالة حضارية وحاملة لأمانة الشهود والتبشير بنموذج إنساني جديد مفارق للنموذج الحضاري الراهن والرهين بمقولات مادية "عالمانية"، فكّكت الإنسان واغتالت روح التنوع الثقافي والقيمي باسم العولمة القسرية والتحديث المفتعل. ومن هذا الموقع، تسكّن الحركات الإسلامية، ومثلها القومية، نفسها ضمن المسار الذي انخرطت فيه الأمة من أجل استكمال مسار استقلالها التاريخي، والتخلّص من كل العوائق التي تمنعها من مباشرة ما يقع على عاتقها من أدوار تاريخية ووظائف حضارية كبيرة. لهذا، فإنه من المتفهّم جدا أن تضع هذه الحركات كل ما يهم الأمة ويخص مصلحتها على رأس أولوياتها التاريخية وفي قمة أجندتها النضالية. في هذا الإطار، صيغت قضية فلسطين وتحرير القدس الشريف باعتبارها واحدة من بين أمهات القضايا والمسائل المركزية للأمة، والتي على أساسها انبنى الوعي القومي والإسلامي وتشكّل وجدان كل إنسان عربي ومسلم مهموم بقضايا أمته ومنشغل بمستقبلها. الأمر الذي جعل كل من الإسلاميين والقوميين في مقدمة القوى المواجهة للمشروع الصهيوني مواجهةً شاملة كاملة، بالمعنى الوجودي للكلمة. ذلك باعتبار الصهيونية مشروعا عنصريا يحمل في طياته خطرا تاريخيا وحضاريا حقيقيا يستهدف وحدة الأمة وكيانها. فالخطر الصهيوني بالنسبة لشعوب المنطقة، بما هو تحالف وامتداد للمشروع الامبريالي العالمي، قائم على تقويض أركان الأمة العربية/الإسلامية، وتفكيك مقومات وجودها وتأبيد أزماتها وتكريس مآزمها، والحيلولة دون ممارسة حقّها في عمارة الأرض وفقا لما يمليه عليها نسقها الإدراكي القائم على مفهومات التوحيد والتزكية والعمران، في إطار وحدتها الجامعة وتكامل نظامها الإقليمي وتعاون مجتمعاتها التي تتقاسم الأرض وتتشارك مقومات العيش المشترك من دين ولغة وتاريخ. وعلى أساس من هذين الاعتبارين التاريخي والحضاري، فإنه لا يملك المرء إلا أن يتفهّم مقدار الاستنكار والإدانة والرفض الذي يُبديه الإسلاميون والقوميون إزاء كل خطوة أو قرار قد يُفهم منه تساهلا تجاه الكيان الصهيوني أو تطبيعا للعلاقة معه. غير أن هذا الأمر المبدئي الجلّي، لا يمنع من القول إلى أن كل من الحركة الإسلامية والقومية مدعوة، اليوم قبل الغد، إلى مراجعة بعضٍ من مواقفها الحدّية وانتقاداتها القاسية التي تُقيّم على أساسها سياسات بعض الدول وجهود بعض الشعوب وهي تواجه معطيات واقعها العنيد، مما قد يضطرها في كثير من الأحيان إلى الاختيار بين "حسن وسيئ" أو بين "حسن وأحسن" أو بين "سيئ وأسوأ". كلها أمور تفرضها ظروف وحيثيات وجب التفاعل معها بالقدر المناسب والمستجيب لما تحمله من تحديات وإكراهات، أو تصطحبه من فرص وعوائد. وهو ما يستحسن بقيادات هذه الحركات وقواعدها إلى حسن تفهم معطيات هذا الواقع الصعب الذي تمرّ به العديد من الشعوب في هذا الزمن الشديد التعقيد والاضطراب. مناسبة هذا الكلام، القسوة في التقييم والنقد الذي أبدته بعض قيادات الرأي والفكر القومية والإسلامية وبعض حركاتها، والتي لم تتوان عن توجيه التهم للمغرب ولحزب العدالة والتنمية بعد الخطوة التي أقدمت عليها المملكة من أجل تحسين ظروف الحضور السيادي والاستراتيجي المغربي في أقاليمه الجنوبية، بالنظر إلى ما تلبس هذه الخطوة من مخافة التورّط في مسلسل التطبيع مع دولة الاحتلال "الإسرائيلي". غير أن تفحّص تلك المواقف والبيانات يكشف عن جملة من المفارقات التي ينمّ عنها الوعي القومي الإسلامي إزاء هذه قضية المغرب المستعصية. كما يميط اللثام عن مقدار التسرّع في الفهم والتموقف الذي بات يعتور استيعاب كثير من الإسلاميين والقوميين للعديد من القضايا التي تشغل شعوب المناطق المغاربية. إن المواقف التي استنكرت على المغرب خطوته الأخيرة لتعزيز الدعم الدولي لقضية وحدته الترابية، سواء كانت مواقف عبّر عنه بعض النخب الإسلامية والقومية في العديد من ربوع العالم من خلال تصريحات إعلامية أو مجرد تدوينات وتويتات، أو ما عبّرت عنه بعض الحركات المشرقية أو المغاربية من خلال إصدار بلاغات وبيانات خاصة بالموضوع، والتي من المؤسف أن أغلبها تصدّت، بصدق وعن حق، لموضوع التطبيع بالإدانة والاستنكار، ولكن من دون أن تتصدّى التصدّي نفسه لموضوع الصحراء الغربية ولوحدة المغرب، ولو من باب نوع من "التوازن البلاغي" في إصدار المواقف وتدبيج البيانات. إن ترصّد العديد من هذه البلاغات بنوع من القراءة والتحليل المتأنيين يدفع إلى القول بأن العديد منها أُسّس على فهم متعسّر لمجريات الأحداث مغربيا، وشُيّد على بعضِ التزيّد في صياغة القول وبناء الموقف، على خلاف الطابع المبدئي الذي حاول البعض أن يصبغها بها. لذلك، ومن باب إسداء النصح الواجب في مثل هذه الوضعيات، كان مناسبا التنبيه إلى بعض من المعاتبات السياسية الأخوية والمؤاخذات المنهجية والتصورية، إثارةً للانتباه إلى ما انتاب بعض من هذه البيانات والمواقف والتحليلات من إشكالات أو اعتورها من اختلالات جعلها تنحو منحى الغلو في التقدير والشدّة في التنكير، لدرجة لم تضع في حسابها التاريخ الطويل والممتد للمغرب لمساندة نضال الفلسطينيين من أجل تحرير الأرض واستعادة القدس. ويمكن، بهذا الصدد، الاكتفاء بالتوقف عند أهم أربع مؤاخذات أساس: مآخذة المقاربة الحدّية والفهم الأُحادي لقد تداعت العديد من الحركات الإسلامية والقومية إلى التعبير عن موقفها مما اعتبرته إعلاناً مشتركاً لتطبيع المغرب علاقته مع العدو الصهيوني. مركّزة في بيناتها على قرار استئناف المغرب تنشيط جزء من العلاقات مع دولة الكيان "الإسرائيلي"، دون أن تكلّف نفسها عناء ربط ذلك كله بسياقه الأعم المؤطّر بالخطوة الأمريكية-المغربية والتي شكّل اعتراف رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية بسيادة المغرب على صحرائه الغربية عنوانها الأبرز. بل لم يتوان بعضها (حركة حمس الجزائرية تحديدا)، في تطاول لا يليق، بأن تدّعي بأن محاولة ربط المغرب خطوته تلك بسياسته لتثبيت عناصر وحدته ومواجهة المشاكل المترتبة عن تحركات جبهة الانفصال ومن يقف وارءها، معتبرة ذلك مجرّد تبرير باطل مفتقد للأساس. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على ضعف عناية هذه الحركات والتوجهات، بل وانعدام استحضارها لمسألة الوحدة الوطنية المغربية في الموضوع. فهي في أغلب بياناتها لم تكد تلقي لها بالا رغم طابعها المصيري الحاسم بالنسبة للمغاربة، كل المغاربة. ويكفي التذكير، في هذا المنوال، بما قدمه الشعب المغربي من تضحيات جسام في سبيل الذود عن حرمة الوطن وصيانة وحدته وترابطه وأمنه واستقراره. لقد سُفكت، في سبيل قضية المغرب العادلة، كثير من الدماء الزكية لمئات الشهداء الأبرار من الجنود المغاربة، كما أُصيب على إثرها الآلاف منهم بجروح عديدة خلّفت لديهم عاهات مستديمة وندوبا غائرة يعجز مدار الدهر على مداواتها. فضلا عمّا كابده العديد من عناصر القوات المسلحة الملكية من عناء الأسر ومشاق الاعتقال لعقود من الزمن في ظروف لاإنسانية. كلها تضحيات جسام تشهد على ما تمثله هذه الأرض الطاهرة من قيمة ومركزية في وعي ووجدان المغاربة. ومن المؤسف حقا، أن كل تلك البيانات والمواقف التي تناسلت في وقت وجيز لم تكلف نفسها عناء التأشير على التهديدات التي تحيق باستقرار المغرب ووحدته، ولو من باب الكلام الإنشائي المبرئ للذمة.. المطيّب للخاطر. إن هذه المقاربة الأحادية التي سقطت فيها بعض الحركات الإسلامية والقومية، والتي أسقطت بسببها عن جدول اهتماماتها عناية المغرب (دولة وشعبا) بوحدته الوطنية واستعداده للدفاع عن حرمة وطنه وسيادته، في مواجهة كل الأخطار التي تحدق به لعقود من الزمن مستهدفة جزءً غاليا من ترابه. إن إسقاط هذا المعطى وعدم إيلائه الاعتبار اللازم، سيدفع بأغلب قيادات هذه الحركات إلى سوء فهم للخطوة المغربية، كما أنه سيُوقعها أسيرة المقاربة الأحادية التي تركز على قضايا، ذات أهمية بلا شك، ولكنها تهمل في المقابل العديد من العناصر الأخرى، والتي من دونها لن تكتمل الصورة ولن تُفهم كل مكونات النازلة التي نحن بصددها. وليس من باب الاستغراب أن حتى بعض تقديرات المواقف التي أصدرتها بعض مراكز الأبحاث والدراسات التابعة لبعض هذه الحركات، (أقصد التقدير الاستراتيجي الذي أصدره مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات بعنوان: "المسارات المحتملة للتطبيع المغربي الإسرائيلي وأثره على القضية الفلسطينية")، قد وقع في هذا الإخلال المنهجي الكبير، حيث أنها تعاملت مع مسألة الصحراء المغربية ببرود وجمود وفتور. الأمر الذي ينمّ عن شيء من التجوّز في إدراك مقدار الإيمان والعزم الذين يتملّكان المغاربة، كل المغاربة، عند الحديث عن مسألة الصحراء، أو يفسّر استعدادهم الدائم والمتواصل للتضحية بكل غال ونفيس دفاعا عن وحدة الوطن وتماسك كل أطرافه وترابط مختلف ربوعه. مآخذة عدم اعتبار ظروف الواقع وحيثياته الموضوعية ثاني المؤاخذات التي يمكن التوقف عندها بهذا الصدد، هو أن أغلب البيانات التي أصدرتها العديد من هذه الحركات قد ركبت مركب المزايدة على المغرب وعلى أحد المكونات الحزبية المشاركة في التدبير الحكومي، وذلك من دون اعتبار الظروف والحيثيات الموضوعية التي سِيقت ضمنها الخطوات المغربية الأخيرة، والتي باستحضارها سيظهر جليا أن المسألة متعلقة بتمرين قاس للترجيح بين جملة من المصالح والمفاسد وردت في سياق إقليمي ودولي شديد الاضطراب، والتي كان ضروريا على المغرب أن يتخذ بشأنها موقفا عاجلا. خاصة وأن الأمر مرتبط بمسألة مصيرية متعلق بجزء عزيز ومهم من التراب الوطني. كما أنه مفتوح على جملة من المآلات التي إن تقاعس المغرب في التفاعل معها بالقدر الضروري من الحزم والسرعة، لأمكن أن تتحوّل إلى عواقب تضر بالمصلحة الوطنية والأمن القومي المغربي. وبخلاف ما كان متوقعا من أن ضغط المحن وشدّة تقلبات الفاعلين، داعمين ومناوئين، سيجعل هاته الحركات مستوعبة لهذا المقتضى، ألا أنه، مع الأسف، كلّما لم يتعلق الأمر بواقعها السياسي وإكراهاتها الوطنية إلا وركبت مركب المزايدة، مع العلم أنها كلّها قد تجد نفسها مجبرة على اتخاذ شيء قريب من هذه المواقف أو تلك. وعلى سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى القرار الصعب الذي سبق أن اتخذته حركة حماس، وهي من هي على مشارف الخط الأول لجبهة المقاومة من أجل تحرير فلسطين، حين قررت في ممارسة نادرة لحظة إصدارها وثيقة "المبادئ والسياسات العامة" قرابة ثلاثة سنوات خلت، حيث قبلت بموجب هذه الوثيقة ضمناً بحل الدولتين بعد أن قبلت بإقامة دولة فلسطينية على حدود حزيران 1967م، بدل كامل فلسطين من نهرها إلى بحرها، مبررة ذلك بحرصها على ما أسمته مكسب "وحدة الموقف التوافقي الفلسطيني الوطني". وقريبا منه قرارها بالمشاركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة على أرضية اتفاقية أوسلو بالرغم من رفضها المبدئي لها. ولا تثريب على حركة حماس، لإن الظروف الصعبة التي قد تمرّ بها حركة المقاومة قد يضطرها أحيانا إلى قبول براغماتي ("واقعي/عملي" لا "ذرائعي/انتهازي") ببعض أنصاف الحلول تحصيلاً لمصالح تقدّر أنها أكبر نفعا، أو دفعاً لمفاسد تراها أعظم ضرراً. فالحياة العملية مليئة بالأحداث والوقائع التي قد تستجدّ مضطرة الإنسان، فرادى وجماعات، إلى التراجع خطوة أو خطوتين إلى الوراء، من أجل تهيئ الظروف المناسبة للقفز خطوات إلى الأمام. ويمكن الاستفاضة في الاستشهاد بعشرات الأمثلة والشواهد الأخرى القريبة التي تدنو مما ذُكر، والتي يتبين معها أنه من دون مراعاة ظروف الواقع وحيثياته فسينتهي الأمر بالإنسان إلى إصدار مواقف إدانة هي في حقيقتها محض مواقف مزايدة. فمثلا عدم إدراك الأجواء الصعبة التي تشتغل فيها بعض فصائل المقاومة الفلسطينية وحاجتها إلى موقع قدم تعمل ضمنه ودولة داعمة تحتضن الفعل المقاوم وتسنده وتمكنه من ساحة عمل واقعية على الأرض، سيجعلنا نقابل بغير قليل من التفهّم الموقف المتغاضي التي تبديه، مثلا، بعض فصائل المقاومة الفلسطينية بشأن جرائم نظام بشار الظالم في حق الشعب السوري. وهي في عمومها جرائم قتل وتنكيل لا تقل قساوة عن جرائم الكيان الصهيوني المحتل في حق الشعب الفلسطيني البطل. كما أن الظروف الموضوعية الصعبة التي تشتغل فيها المقاومة الفلسطينية وحاجتها إلى أكثر من سند دولي، سيجعل من باب التزيّد عليها تذكيرها بغضها الطرف عن جرائم النظام الإيراني في حق أخوتنا السنة بمنطقة الأهواز. وهكذا متتالية من المزايدات، التي لن يحدّ من غلوائها سوى مراعاة ظروف ومعطيات الواقع الصعب. وعلى نفس المنوال، فإنه من المستغرب تداول بعض الباحثين والمفكرين المحسوبين على التوجهات الإسلامية والقومية لبعض الآراء التي ينتقدون من خلالها على المغرب تعبئته الوطنية لاسترجاع أقاليمه الصحراوية، في مقابل ما تخيّلوه تخليا منه عن نفس الواجب تجاه مدينتي سبتة ومليلية وباقي الثغور المحتلة من لدن إسبانيا، وكأن الأمور تُحل بضربة لازب أو بقرار واحد. مآخذة الاستهداف الانتقائي وسياسة الكيل بمكيالين المآخذة الثالثة الجديرة بالذكر بهذا الصدد، هو أنه في اللحظة التي سارعت فيها كل هذه الحركات، تقريبا، إلى توجيه أصبع الاتهام والاستنكار والإدانة في وجه المغرب وفي وجه حزب العدالة والتنمية الذي يقود دفّة التدبير الحكومي، نجدها تؤثر السكوت عن عديد من الخطوات الأخرى لدول عربية أو إسلامية على علاقات وطيدة ومعلومة بالكيان الإسرائيلي، وذلك من دون أن تتوجه لها هذه الحركات بنصف كلمة، ولو على استحياء. ويمكن أن نتوقف في هذا الصدد عند المثال الصارخ لموقف بعض هذه الحركات الإسلامية والقومية من السياسة التركية، التي اختار نظامها السياسي اللعب على الحبلين، تاركا العرب حبيسي اشتباكات لغوية وصراعات كلامية مع الكيان الصهيوني، في حين أن علاقاتها الرسمية في المجالات ذات العلاقة بالديبلوماسية والاستراتيجية والاستثمارية آخذة في التقدّم العملي. واليوم لا أحد من أغلب قيادات هذه الحركات، التي سارعت إلى اتهام المغرب بالتطبيع، يعمل على توجيه نفس الكلمات والمواقف على القدر نفسه من الحزم والقوة تجاه دولة تركيا أو تجاه حكومتها، بالرغم من وجود سفارتين بتركيا و"إسرائيل"، والتي تفيد المعطيات التي ترشح هنا وهناك بأن كلا من هذين البلدين عازمين على تعزيز العلاقة الديبلوماسية بينهما بإعادة تعيين سفيرين بدل مجرد قائمين بالأعمال، بسبب أنهما معنيتين بتسوية الحدود البحرية بينهما. فكيف يُستساغ أن تتفهم قيادات الحركة الإسلامية الخطوات التركية ملتزمة الصمت المطبق تجاهها باعتبار تسوية لحدودها البحرية مع طرف هو أصلا كيان محتل، في حين تسارع إلى إعمال لغات الإدانة والاستهجان والتخوين تجاه المغرب وهو يحاول تأمين شيء من الظروف المناسبة للدفاع عن حدوده وأمنه واستقراره؟! مآخذة التركيز على التطبيع والتغاضي عن التجزئة رابع هذه المؤاخذات التي يمكن الإدلاء بها، في خاتمة هذه المقالة، وهي تلك المتعلقة بحالة الحساسية الكبيرة التي تتعامل بها الحركات الإسلامية والقومية مع مسألة التطبيع ومقاومة المشروع الصهيوني بالمنطقة، بالمقابل تصديها الخافت للخطر التي تتعرّض له المنطقة العربية من مخططات التجزئة والتفتيت، والتي تهدّد استقرار مجمل النظام الإقليمي العربي المهترئ أصلا، بما يدفع نحو خلق مزيد من الكيانات والدويلات. والإسلاميون، في عمومهم بخلاف القوميين، لا يولون لهذا الخطر المحدّق الاهتمام اللازم، خاصة وأن خطر سياسات تجزيئ المجزئ وتفتيت المفتَّت التي ترعاهما جهات دولية عدة هي سياسات معادلة في ثقلها، موضوعيا وسياسيا وتاريخيا، لخطر التطبيع والصهينة، إن لم تكن أكثر وأكبر وأخطر. طبعا، سيقول قائل بأن الحركات الإسلامية قد سبق لها أن أبدت مواقف مشرفة رافضة لتجزئة تيمور الشرقية أو انفصال جنوب السودان، وهو أمر صحيح ثابت. غير أن الأصح منه والأثبت، أن الحركات الإسلامية لم يسبق لها أن أدانت بشكل صريح وواضح محاولات تجزيئ المغرب وفصل جنوبه عن شماله. لذلك وجب التأكيد على أن النضال من أجل وحدة المغرب من طنجة إلى الكويرة، بالمعنى التاريخي للكلمة، لا يقل قيمة استراتيجية ومبدئية عن النضال من أجل تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، كما لا يقل مبدئية عن النضال من أجل وحدة أراضي العراق أو اليمن أو سوريا أو ليبيا أو غيرها من البلاد العربية والإفريقية المهددة في وحدتها واستقرارها وأمنها. وكم كان يُستحسن بنخب ومثقفي الحركات الإسلامية أن تستحضر مقدار الكثافة التي تتعاطي من خلالها العديد من الدول والشعوب العربية/الإسلامية مع قضايا وحدتها ومواجهة التهديدات التي تحيق باستقرارها وأمنها. مع انعقاد اليقين بأن تمكّن كل دولة أو شعب عربي من حلّ مشاكله وتخلصه من كل العوائق التي تكبّل سياساته، سيشكّل إضافة حقيقية لمجمل النضال العربي الإسلامي في سبيل تحرير مزيد من الأوطان وصيانة وحدتها، وطبعا على رأسها تحرير فلسطين باعتبارها قضية الأمة المركزية وبوصلتها نحو التحرر والاستقلال. وهو ما درج المغاربة التأكيد عليه مؤخرا، بأن وجود مغرب آمن وقوي وموحّد خير لفلسطين وللفلسطينيين ولكافة القضايا العربية والإسلامية والإنسانية من مغرب مهدّد بالتجزيء والتخبط في أتون حروب لا أول لها ولا آخر، لا قدر الله. لذلك، كان لزاما على هذه الحركات وعلى كثير من الإسلاميين وهم يصدحون بإدانة الخطوات المغربية، أن يوازنوا مواقفهم تلك بإدانة مختلف السياسات والممارسات العدائية التي تهدّد وحدته وتعمل على خلق كيان دولتي وهمي في جنوبه، مما يضطره إلى اتخاذ مثل هذه القرارات والمواقف. أما إدانة الأولى والصمت عن الثانية فمفارقة غريبة غير مبررة بأي حال من الأحوال. على سبيل الختم لم يكن الغرض من الإدلاء بهذه المعاتبات السريعة والمؤاخذات الأخوية التعريض بالموقفين الإسلامي والقومي الأصيلين تجاه قضية فلسطين، ولكن كان الهدف من ورائه إثارة عناية الكثير من هاته الحركات إلى ما قد يعتور مواقفها وبياناتها وإعلاناتها من خلط في الرؤى أو سهو عن وقائع أو سوء تقدير لمعطيات الحياة الدولية وتعقد تحولاتها وتشابك استراتيجيات الفاعلين فيها. وكلها أمور قد تضطر الدول والأحزاب إلى اتخاذ تدابير وقرارات وخطوات نتيجة اجتهادها في تحصيل أكبر قدر من المصالح في مقابل درء أكبر قدر من المفاسد. نعي جيدا أن التشديد على المغرب وعلى حزب العدالة والتنمية تحديدا نابع من التقدير الكبير لهذه الحركات للموقف المغربي الثابت والداعم لنضال أهلنا بفلسطين لاسترجاع الأرض وطرد المحتل حيث لا رجعة، كما هو تقدير لحزب العدالة والتنمية الذي يعتبر أحد أبرز الفاعلين السياسيين المناضلين من أجل استقلال الفلسطينيين وعودة القدس الشريف إلى حضن أمتها العربية/الإسلامية. غير أنه مع ذلك، لزم العلم بأن المغاربة بالقدر الذي يستحضرون فيه النضال الفلسطيني، بالقدر نفسه الذي يستحضرون ما يقع على عاتقهم من أمانة استكمال وحدتهم الترابية ومواجهة مختلف السياسات العدائية التي تستهدف استقرار الوطن. فكلا من قضية "مغربية الصحراء" وقضية "فلسطينالمحتلة" قضيتان وطنيتان وإسلاميتان بكل ما تحمل الكلمة من دلالة ومعنى. والمغربيات والمغاربة قاطبة مستأمنون على أمن المغرب الأقصى ووحدته، ومساءلون عن أي تفريط في شبر من ترابه أمام أجيال الأمة قاطبة، وذاك واجب الأمة عليهم. وهي نفس الأمانة الملقاة على إخوتنا في فلسطين أو غيرهم من العرب والمسلمين في باقي ربوع الأمة، حيث يقع على عاتقهم واجب الدفاع عن بلدانهم وأوطانهم حيث يقطنون باستفراغ الوسع في الذود عن أمنها ووحدتها والدفاع عن حماها وحرماتها. والله أعلى وأعلم