من الطبيعي أن تحدونا العاطفة إلى احترام آثار الآباء والأجداد، والتنويه بمناقبهم والإشادة بفضلهم. ويمكننا في نفس الوقت، أن نتعاطى لكل أسباب المدنية الديمقراطية القائمة على مبدأ المواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.قد يبدو للكثيرين ان هذا مثالي وبعيد المنال، في ظل ما نعيشه حاليا من صراع مستعر بين دعاة التجديد ودعاة التقليد.صحيح هذا منطقي، وهو الأمر الذي فوت علينا تلك الوثبة الحضارية المنشودة التي طال انتظارها والتي يتوخى منها الارتقاء بالإنسان العربي أو المسلم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا. فعلا قد نتعاطى لكل أسباب المدنية ولكن في الغالب تكون بخلفية ثقافية موغلة في القدم والبدائية. ولهذا تجدنا مستهلكين لما ينتجه الآخر وليس منتجين له؛ سواء على مستوى الفكر والعلم أو على مستوى التقنية. بل أصبحنا عالة على الحضارة الإنسانية. والأدهى من ذلك، انه يتم استغلال التقنيات الحديثة، لعولمة التخلف والبداوة وتسويقها أحيانا كما يحدث في بعض دول الشرق العربي. ولا أدل على ذلك ما حدث مع وباء كورونا خصوصا في بداية ظهوره، فقد ظل العقل السلفي البدوي قاصرا عن استيعاب خطورة الوباء الفتاك بحيث انخرط في الترويج لخطابه الشعبوي والماضوي بترويجه لفكر المؤامرة أولا، ثم بتسويق نفسه كمشروع إيديولوجي قادر على انقاد المجتمع من العقاب الإلهي مستغلا العامة غير الواعية وغير المتعلمة وهي الغالبة في مجتمعنا. لنحاول ان نضفي على الموضوع طابعا اجتماعيا داروينيا وفكرته عن الاصطفاء الطبيعي. فكيف ذلك؟؟ نحن البشر، نشترك مع الأحياء الأخرى كالحيوان والنبات في عدد من القواسم. حيث نخضع – على سيبل المثال – في تطورنا لعاملين أساسيين: عامل الوراثة وعامل الوسط الذي نشانا فيه. فنحن مثلها نرث خصائصنا الوراثية من الآباء وأيضا نتاثر بالوسط المحيط بنا، من هنا شبهنا بهؤلاء الاسلاف اجتماعيا وعقائديا وادبيا؛ واختلافنا عنهم جاء نتيجة تفاعلنا مع المحيط الذي نعيش فيه؛ حيث نتكيف معه وفق متطلباته واكراهاته. فنضطر أن نتنازل عن بعض آثار الأسلاف وتقاليدهم حتى لا نصاب بالعقم والجمود، ومن تم الانقراض والابادة من الوجود. إذن فمن المنطقي ان نحترم تقاليد الآباء والأجداد فيما لا يتعارض مع الوسط الجديد؛ لأن العالم يتطور بشكل طفروي وأن الحضارة المعاصرة تفرض مقتضيات جديدة. فما هو الأولى لنا؟؟ أن نغذي فكرنا الموروث ونشحذه بهذه المقتضيات المعاصرة، فينمو ويزدهر ويثمر. أم نتركه جامدا حتى يضمحل وينقرض؟؟؟. فالفكر كأي معطى اجتماعي يلزمه التطور والنمو المستمر وتغذيته بما هو حديث حتى نجاري هذا العالم الذي نعيش في صلبه. فلم الادعاء اذن في أن أسلافنا ومنذ أكثر من 1400 سنة قد عرفوا كل ما يمكن معرفته عن هذا الكون؟؟. فما هو معروف، ان نصيبنا من العلم والمعرفة الإنسانيين لم يبلغ درجة الكمال آنذاك بالمقارنة مع ما أنجزته الحضارة الإنسانية منذ أكثر من ستة آلاف سنة. فعلا ساهمنا إلى جانب باقي الأمم في بناء هذا الصرح الحضاري. لكن أن ندعي ان حضارتنا تجيب عن كل الأسئلة؛ فهذا لن يخدمنا بل سيغدو بقاؤنا على هذا الكوكب كامة وكحضارة عبئا عليها. إذ كيف يستطيع من ينظر إلى نفسه وإلى ماضيه بالكمال أن يفكر في واجبات الحاضر ويستشرف المستقبل؟؟. في الحقيقة، ان التعلق بأفكار السلف بشكل مرضي واستغراقها في كل قضايانا وهمومنا يقود الأمة إلى الهلاك الأكيد ويجعلها جامدة لا تتفاعل مع الوسط الاجتماعي والعلمي والأدبي الذي تعيش فيه؛ والذي لا يمكن لأي تطور مستقبلي ان يحدث إلا إذا فهمنا بعمق كل نزعاته وتطوراته. فثرات السلف لم يعد يقدم حلولا للقضايا الراهنة وأصبح عائقا أمام اي تقدم وان اقترح حلولا فإنه يرجع بنا إلى الماضي. فالنصوص التي يبني عليها غدت جامدة بينما واقع الناس في تغير مضطرب وسريع وبالتالي أضحى كل من يتمسك به غريبا في العصر. على سبيل الختم أقول: ففي الوقت الذي تخلصت فيه أوربا من فكر الكهنوت وسلطته ورقابته، ذهبنا نحن نبحث عنه.