الدخول المدرسي في زمن الجائحة، لا صوت يعلو فوق صوت الأطر الصحية والسلطات المحلية، فصحة التلاميذ والتلميذات فوق جميع الاعتبارات، وهي محور التفكير والتقرير، هل نتعلم عن بعد أم بالتناوب؟ وأيهما أسلم وأنجى للتلاميذ من الفيروس القاتل؟ تركز النقاش والتفكير حول أنجع الإجراءات وأنفع الاحترازات لحماية صحة البنات والبنين من الفيروس القاتل. بعد أن أوشكت الحرب مع الجائحة أن تضع أوزارها، وبعد تقدم الإنسانية في فهم ما يجري، نطرح السؤال: "هل ما توافقت عليه معظم بلدان العالم من اغلاق تام للمؤسسات التعليمية المختلفة، خلال الموسم الدراسي الماضي، أو إغلاق جزئي أثناء الموسم الحالي كان قرارا صائبا يحفظ المصلحة الفضلى للمتعلمات والمتعلمين، ويصب في اتجاه تعزيز فرص تمتعهم بالعيش الرغيد في المستقبل؟". إن الخسائر المترتبة عن إغلاق المؤسسات التعليمية جزئيا أو كليا فادحة وعظيمة، وستكون لها آثار سلبية بارزة على مستقبل الأطفال المتعلمين لا محالة، ولذلك فاعتماد تعليم حضوري عادي في المدرسة الابتدائية، يخصص مكانا معتبرا لأنشطة الحياة المدرسية والتعلم الجماعي، يعتبر في رأينا مطلوبا وضروريا لقلة مخاطر الوباء في هذا السن على الأطفال، ولحيوية التفاعل والاحتكاك بالأقران في تحقيق نمو متوازن سليم لرائدات ورواد المدرسة بصورة تؤهلهم لارتياد المراحل القادمة بكل قوة وأمان. لقد عبرنا عن هذا الرأي قبل شهور منطلقين من وجهة نظر بيداغوجية صرفة، ونعود إليه اليوم بعدما ظهرت معطيات جديدة نتيجة دراسات علمية قامت بها جهات مختصة، وفي مقدمتها منظمة الأممالمتحدة لرعاية الطفولة(يونيسف). أوردت (اليونيسف) في إحاطة صدرت بتاريخ نونبر 2020، موسومة بعنوان "تفادي ضياع جيل الكورونا: خطة النقاط الست للاستجابة والتعافي ووضع رؤية جديدة لعالم ما بعد الجائحة لكل طفل"، أن الأطفال والمدارس، ليسوا هم المحرك الأساس لانتشار فيروس كوفيد 19 في بلدان العالم، فالبيانات الخاصة ب 191 بلدا، لا تظهر أي ارتباط متسق بين إعادة فتح المدارس ومعدلات الإصابة بالفيروس. وفي هذا السياق تؤكد المنظمة العالمية أن ما خسره العالم بإغلاق المدارس أكثر بكثير مما كان سيجنيه لو أبقاها مفتوحة في وجه المتعلمات والمتعلمين. ففي أواخر ابريل 2020 الذي عرف ذروة إغلاق المؤسسات التعليمية والتربوية، وجد ما يقرب من 90% من الطلاب في العالم أنفسهم خارج المدارس، وهي نسبة تقدر بأكثر من 1.5 بليون طالب. وحسب التقييم الذي أجراه المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض ومكافحتها (ECDC)في 31 بلدا خلال شهر يوليو 2020 حول دور المدارس في انتقال كوفيد 19، خلص الى عدم شيوع انتقال العدوى من الأطفال إلى الأطفال داخل المؤسسات المدرسية، وإلى عدم كونه السبب الرئيس في انتقال العدوى بين بعضهم البعض داخل تلك المؤسسات كذلك؛ على العكس تماما من مؤسسات التعليم العالي. ومن جهة أخرى، وحسب المنشور نفسه، فقد توصلت دراسة أجرتها الحكومة البريطانية إلى أن الأطفال أكثر عرضة للإصابة ب "كوفيد19″، خارج المدرسة منه داخلها، إذ أن معدلات العدوى بين الطلاب والمعلمين لم تعرف أي ارتفاع بعد افتتاح المدارس في الصيف، وقد تبين لها أن تفشي الفيروس محليا مرتبط بتفشيه على صعيد الإقليم، وليس بالمدارس. وفي الولاياتالمتحدة كذلك أظهرت دراسة قامت بها "جامعة براون" انخفاض مستوى العدوى بين الطلاب والمعلمين. إن إغلاق المدارس لخص مهمة المؤسسات التربوية في نقل المعارف والمعلومات، فانتكسنا دون شعور منا نحو البيداغوجيا التقليدية، بيداغوجيا التلقين، التي لا تخاطب في المتعلم سوى عقله، وتبذل كل ما بوسعها لحشوه بأكبر قدر ممكن من المعارف والمفاهيم. بيداغوجيا تعود لما قبل علم نفس الطفولة ونظريات التعلم المؤسسة على معطيات علم النفس والاجتماع التربويين، ونسينا أو تناسينا أن للتربية المدرسية وظيفة أشمل وأوسع، وظيفة مساعدة رواد ورائدات المدارس على التدرج في مراقي النمو الشخصي والاجتماعي من خلال تكامل وانسجام بين أنشطة المنهاج الدراسي الصفية وغير الصفية، لم ندرك أن أبناءنا وبناتنا لا يذهبون للمدرسة من أجل أن يتعلموا المعارف فحسب، ولكنهم يقصدونها كل يوم بغرض أن يتعلموا مع آخرين يختلفون عنهم، يتعلمون كيف يكتسبوا معا معارف ومواقف وقيما مشتركة. فمهما أبدعنا من حلول لضمان ما يسمى اليوم بالاستمرارية البيداغوجية فإننا إنما نعمل على استدامة العلاقة مع التربية والتعلم في حدودها ومستوياتها الدنيا فقط. * خبير في السياسات التربوية