لقد صار العالم اليوم بمختلف بقاعه الجغرافية يشهد غزوا إلكترونيا مهولاً، يتجلى في الاكتساح المتسارع لوسائل الرقمنة الحديثة وآلياتها؛ التي كان لها دور أساس في الانتشار الواسع لمواقع وبرامج التواصل الاجتماعي (فيس بوك، وتساب، تويتر، وغيرها)، وقد أسهمت هذه الأخيرة في تحويل العالم من قرية صغيرة إلى حجرة صغيرة، هذه المواقع التي يتواصل من خلالها وبها سكان العالم بمختلف لغاتهم ومشاربهم وثقافاتهم، فبكسة زر فقط يصير البعيد قريبا، والقريب أقرب، وتبقى الدول العربية في مصافات البلدان الأكثر استهلاكا لهذه البرامج ومواقع التواصل الاجتماعي الحديثة، في ظل عصر العولمة والرقمنة، وإن كان لهذا الاكتساح من التبعيات التي لم نظن يوما أنها قد تكون سببا مباشرًا في إهمال لغة الضاد من أهلها. إن لهذه الوسائل ما لها من التوجهات الخطيرة ضد اللغة العربية تحديدا، كيف ذلك؟؛ لقد صار الإنسان العربي بصفة عامة، والمثقف بصفة خاصة، صار يعمد إلى التواصل حتى مع من يشاركونه اللغة نفسها-أي العربية- برموز لا يمكن أن نطلق عليها لغة أو لهجة، كونها خليطا من الحروف والأرقام والرموز المصطنعة وغيرها، وقد يتوهم المرء أن السلطة الكبرى تعود إليه في استعمال هذه الوسائل؛ لكن واقع الأمر اليوم يقول عكس ذلك. إن هذه الطريقة في الكتابة سواء شئنا أم أبينا، هي شبه لغة فرضها الاستعمار المعرفي الذي هشم معارف الإنسان العربي في غفلة من هذا الأخير، حتى صار حديثنا اليوم عن التواصل باللغة الأم بين أهلها، أشبه ما يكون بشيء محظور لا ينبغي ذكره؛ بل ويخجل المرء أن يتفوه به؛ وبالمقابل صرنا نفتخر ونعتز باللا لغة في تواصلنا مع بعضنا البعض؛ شبه لغة يصطلح عليها "العرنسية". ومن ثمة لا غرابة في أن نتحدث عن محاولات بئيسة لم تكتنزه هذه الوسائل في مخبرها، إذ يمكن أن نقر بكون هذه المحاولات تسعى لطمس لغة الضاد – سواء بشكل أو بآخر، وقد لا يختلف اثنان في كون الجزء الواضح والجانب البارز والساطع من هوية أي إنسان إنسان يكمن في لغته أولا، باعتبارها هواءً فكريًّا يتنفسه الإنسان بشفتيه وفكره، بل وقلبه أيضا، فكما يستحيل أن يعيش الإنسان بدون هواء طبيعي، فالشأن نفسه أيضا بالنسبة إلى اللغة. إذن لا غرابة أن يُصَوِّبَ من يسكنه هم وهوس طمس الهوية العربية سهامه تجاه لغة أهلها. وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن كل الشعوب المتقدمة لم تتقدم بلغة غيرها، والتاريخ خير شاهد على ذلك، ولا نرمي بهذا القول نفي أهمية باقي اللغات، بل على العكس من ذلك، فقد غدت الحاجة ملحة اليوم إلى ضرورة التزود بلغات أخرى، تقف إلى جانب اللغة الأم لأي بلد كان، حتى تتكامل البنيات المتعددة وتتشكل في بنية واحدة منسجمة، لكن ما لا يجب أن نقبل به، هو هذا التَّقَصُّدُ في اغتيال اللغة العربية حتى من لَدُنِ أهلها أحيانا. هذه اللغة الضاربة في التاريخ، لغة القرآن، ويكفينا أن نقف عند هذه العبارة الأخيرة "لغة القرآن" لندرك يقينا ما الداعي إلى محاولة اجتثاتها، وهذا ما يدعونا إلى ضرورة التصالح مع لغتنا أولا، والرفع من شأنها ما دامت هويتنا لصيقة بها؛ وما دمنا نتنفسها فكرًا، فأهل العربية هم حماتها كتابة ومشافهة، على رغم مما قد يقال بخصوص ذلك؛ لأن تاريخ التراث العربي يكشف لنا بالملموس اليد البيضاء لغير العرب على لغة العرب، لكن مع ذلك لا ينبغي أن نتملص من مسؤوليتنا نحوها، كما لا ينبغي أيضا أن نتنكر لقدسيتها؛ لأن الكتاب الحكيم وحي مقدس من عند الله، وكذلك يجب أن ننظر إلى اللغة التي ترجم (كتب) بها هذا الوحي الرباني؛ فإذا كان القرآن كلا مقدسا، فكذلك يجدر أن تكون اللغة العربية باعتبارها جزءا من هذا الكل، مقدسة أيضا، وتقتضي هذه القداسة أن نفخر ونفاخر بها بتوظيفها بمختلف حمولاتها. وبما أن العالم اليوم صار محكوما بالرقمنة ووسائلها الحديثة، فقد غدا من الواجب على المتخصصين العرب في مجال الرقمنة أن يأخذوا على عاتقهم مهمة تطوير اللغة العربية رقميا، أما في المجال التواصلي فلابد من أن نعيد النظر في لغة التواصل تلك "العرنسية"، ونحل محلها اللغة الأصل ورموزها؛ لأن هذا الأمر سيسهم لا محالة في تغيير مجموعة من التمثلات الخاطئة عنها، إلى جانب توسيع دائرة التداول بها، حتى لا تغدو اللغة العربية لغة خاصة بالحجرات الدراسية، والمدرجات الجامعية، والندوات العلمية فحسب.