بينما تتكاثر الدعوات والمبادرات الدولية الرسمية والشعبية في جميع أرجاء العالم، الداعية إلى الحوار والتسامح بين الشعوب والثقافات والأديان، ونبذ التحريض على الكراهية الدينية؛ تأبى بعض الأوساط والدوائر السياسية الرسمية إلا أن تظل خارج التغطية وأن تغرد خارج السرب. وأن تضرب في الصميم هذه المبادئ السامية للإنسانية، التي جاءت بها مختلف الشرائع السماوية منذ الأزل، وتسعى المواثيق الدولية من خلالها إلى تحقيق السلام العالمي. وذلك من خلال إصرارها على تبني رسومات كاريكاتيرية تدخل في إطار ازدراء الأديان أو ما يعرف ب"التجديف"، الذي يعتبر استهزاءً واستخفافا بمعتقدات دينية مقدسة وبرموزها للنيل منها؛ مما يعزز الكراهية الدينية بين مختلف الفئات البشرية المكونة لأفراد المجتمع داخل نفس الدولة. فحيث يتم ذلك من قِبل مجموعة شعبية أو منبر إعلامي في هذا البلد أو ذاك، فقد يعتبر الأمر مجرد تطرف أو تعصب "شعبوي"، يدخل ضمن الشؤون الداخلية التي يمكن معالجتها بوسائل وقوانين داخلية. إلا أنه عندما يتحول الأمر من موقف شعبي إلى موقف رسمي تتبناه الدولة على أعلى مستوى، "رئاسة الدولة"؛ فعندها ندرك أن الدولة قد تحولت -في مواجهة هذا السلوك- من الدولة الناهية إلى الدولة الراعية. إن الالتزامات التي يفرضها انخراط الدول في منظمة الأممالمتحدة بمختلف منظماتها ووكالاتها المتخصصة، تجبرها على احترام التزاماتها الدولية المنصوص عليها في ميثاق الأممالمتحدة. لاسيما عندما يتعلق الأمر بدولة فاعلة في السياسة الدولية، من خلال عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الذي وُجد من أجل استتباب السلم والأمن الدوليين. خصوصا أن العالم الذي نعيش فيه اليوم، شئنا ذلك أم أبينا، بات عالم الانفتاح على العولمة العالمية وعلى رأسها عولمة الهجرة البشرية في كل الاتجاهات الجغرافية. هذه الهجرة التي أصبحت من ضروريات استمرارية الدول التي لا يمكن لها إلا أن تقبل بها داخليا وخارجيا؛ من خلال القبول بالتعدد والتنوع الثقافي والمعرفي والديني، الذي يعني بدوره القبول بالانصهار في منظومة بشرية عالمية ترتقي عن التمييز العنصري والديني، الذي يشكل سُبّة في وجه الدولة؛ إلى التمييز بالانفتاح على فسيفساء التنوع المعرفي والإدراكي الذي يزيدها غنى وتميزا ورقيا، من خلال تبنّي أنماط مختلفة من الثقافات والحضارات والأديان داخل نفس الدولة؛ والعكس بالعكس. في هذا السياق، فقد تَسنُّ الدول داخليا العقوبات اللازمة لضمان عدم الإخلال بهذا التوازن الوطني الضروري لاستمرارها واستقرارها؛ وذلك بتجريم كل الأفعال الاجتماعية التي قد تؤدي إلى المساس بجوهر هذا التماسك الاجتماعي، المفضي إلى التفرقة والتشتت داخل الدولة؛ من قبيل ازدراء الأديان والرموز الدينية لبعض الفئات المجتمعية من مكوناتها البشرية، التي قد تؤدي إلى خلخلة هذا التوازن داخل الدولة. ولا يفترض التمييز في هذا الصدد بين دولة ينص دستورها على دينها الرسمي، وأخرى لا دينية أو علمانية لائكية. ولا يتم الخلط في ذلك ما بين حدود حرية الحق في التعبير عن الرأي، والاحترام الواجب للأديان والمقدسات الدينية. وفق ذلك، فإن السؤال الذي يظل مطروحا، هو مدى إلزامية إعادة النقاش حول آفاق تدويل تجريم "التجديف" على مستوى منظمة الأممالمتحدة إلى الواجهة، بالنظر إلى الآثار القانونية الناجمة عنها المتمثلة في عدد التوترات الدولية الرسمية والشعبية، التي صاحبتها موجات غضب رسمية وشعبية عارمة. وذلك لسببين أساسيين: الأول قانوني، ويتعلق بتحليل مدى اعتبار هذه التصرفات موجبة، من وجهة نظر القانون الدولي، لقيام مجلس الأمن وفق المادة 34 من الميثاق، بفحص إن كانت هذه التصرفات ستؤدي إلى احتكاك دولي أو قد تثير نزاعا، لكي يقرر ما إذا كان استمرارها من شأنه أن يعرض للخطر حفظ السلم والأمن الدولي؛ وليكيّفها قانونيا إن كانت تشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين بمفهوم المادة 39 من الميثاق. مما يبرر قيام العديد من الدول العربية والإسلامية التي شرعت مؤخرا من تلقاء نفسها، في ممارسة بعض التدابير والعقوبات في مواجهة فرنسا. وهي تعني الرفض الصريح لهذا التصرف الرسمي الشائن ودعوة صريحة للعدول عنه، تجنبا لما قد يؤدي إلى تهديد السلم والأمن الدوليين، أو إلى زعزعة استقرار العلاقات الدبلوماسية. وقد تم ذلك من خلال تفعيلها لبعض التدابير الأدبية السياسية، التي تبادر إليها الدول عموما بشكل أحادي من تلقاء نفسها، انطلاقا من قناعتها بوجود انتهاك لقاعدة من قواعد القانون الدولي. ويتعلق الأمر بكل من اللوم والشجب والاحتجاج والتنديد، التي لا تتطلب انعقاد قمم دولية لإصدارها، لأنها تعبر عن استياء واستنكار الرأي العام الدولي لتصرف أحادي مخالف لأحكام وقواعد القانون الدولي، من جهة؛ وبعض العقوبات الواردة في المادة 41 كالمقاطعة الاقتصادية الرسمية والشعبية، وقطع العلاقات الدبلوماسية أو تجميدها، كإحدى الوسائل الرادعة للدول المخالفة، التي تُتخذ لإرغامها على التخلي أو إعادة النظر في سلوك تبنته، من جهة أخرى. والسبب الثاني حقوقي، يتجلى في تحليل إشكالية الدفع بحرية التعبير -التي تنتهي كمبدأ دولي عام عندما تبتدئ حرية الآخرين- هل تعلو على أفعال يمكن تكييفها قانونيا -وطنيا ودوليا-، على أنها إهانة وتشهير وازدراء وتضليل واتهام وادعاء وتزييف للحقائق العلمية والدينية والتاريخية الخاصة بشخصيات وبمقدسات معينة. لاسيما أن الدعوة إلى تدويل تجريم ازدراء الأديان ليست مطلبا وليد اليوم، بل يعد مطلبا كان قد تم التداول في شأنه من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي سابقا، (منظمة التعاون الإسلامي حاليا) ما بين سنوات 1999-2011 من أجل استصدار موافقة الأممالمتحدة على منع ازدراء الأديان. حيث قدمت عددا من مشاريع القرارات في هذا الخصوص إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة؛ تم رفضها من قبل عدد من الدول الغربية بكل من أوربا وأمريكا الشمالية والجنوبية، التي كانت قد شرعت مسبقا في إزالة حظر ازدراء الأديان تدريجيا من معظم قوانينها، بدعوى أن ذلك "سيشكل تهديدا لحرية التعبير". وتمت إعادة التداول في الأمر من قبل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في يناير 2015، من أجل إصدار قانون أممي يجرم ازدراء جميع الأديان، وتم اقتراح إصدار "ميثاق شرف للتعايش السلمي بين الأمم". هذا التحليل القانوني والحقوقي في نفس الوقت، تفرضه حدة التشنجات العديدة التي شهدتها العلاقات الفرنسية مع العالمين العربي والإسلامي في الآونة الأخيرة، على خلفية الإساءة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك من خلال إعادة نشر الرسوم الكاريكاتيرية التي سبق للمجلة الفرنسية «Charlie hebdo» أن نشرتها سنة 2006 في عهد حكومة الرئيس الأسبق الراحل "جاك شيراك"، في نوع من الإمعان هذه المرة على واجهات مباني حكومية شاهقة، في الأماكن العمومية بدعوى الدفاع عن "حرية التعبير". وهي نفس الرسوم التي نشرتها صحيفة "يلاندس بوستن" الدنماركية في 30 شتنبر 2005. خصوصا بعدما تحول الأمر من مجرد "فعل شعبي" تقوم به مجلة معينة خاصة داخل الدولة، إلى "فعل رسمي" تتبناه الدولة. وهو ما يطرح التساؤل عن شرعية ومشروعية تحول المقاطعة الاقتصادية -التي جاءت كرد فعل- من مقاطعة شعبية إلى رسمية، مع احتمال تدويلها. لاسيما أن إمكانية معالجة ذلك بمقتضيات قوانين وطنية قد أصبحت معدمة كما أسلفنا. وأن الأمر مقابل ذلك أصبح مؤهلا لأن يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين، إذا ما تم تكييفه وفق مقتضيات المادة 39 أعلاه، الأمر الذي قد يستدعى ضرورة معالجته بمقتضيات قواعد القانون الدولي والمواثيق الدولية. لذلك نرى أن هناك ما يستوجب منا، من خلال هذه الدراسة القانونية، تحليل مدى إلزامية إدراج ازدراء الأديان رسميا ضمن باقي الخروقات الدولية، الموجبة للتطبيق الدولي للعقوبات الاقتصادية الدولية لاسيما المقاطعة، من خلال تحليل مدى اعتباره خرقا وتهديدا دوليا للسلم والأمن الدوليين من وجهة نظر القانون الدولي. وهو ما يفرض علينا بداية تناول تطور مفهوم هذه العقوبة دوليا؛ وتمييزها عن الحضر في القانون الدولي؛ ثم الانتقال إلى تحديد أشكالها من حيث نطاق تطبيقها والجهة التي تطبقها؛ وضرورة التمييز فيها بين المقاطعة الرسمية والشعبية؛ قبل الانتقال إلى تحديد الأساس القانوني في تطبيقها على مستوى القانون الدولي؛ والختم بتحليل حدود التمييز ما بين التجريم الدولي للازدراء وحرية التعبير. تطور المقاطعة الاقتصادية في العلاقات الدولية يعد تفعيل سلاح المقاطعة الاقتصادية أحد أخطر الأسلحة السلمية الدولية التي تنظمها قواعد القانون الدولي في علاقات الدول ببعضها البعض. لذلك فقد سماها الرئيس الأمريكي الأسبق "وودرو ويلسن" -الذي كان شديد الحماس لإدخال هذا المفهوم ضمن عهد عصبة الأمم- ب:"السلاح القاتل الصامت". وهي العقوبة المنصوص عليها في المادة 41 من الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. بينما كان الجنرال "سميت-Smuts" هو من اقترح اصطلاح المقاطعة الاقتصادية وإدراجها في العهد. لذلك فإن الميلاد والتطبيق الفعليين لهذا النوع من العقوبات يعود لعصبة الأمم، التي كان لها فضل السبق على الأممالمتحدة في ذلك. وقد كانت أولى تجليات هذا النوع من العقوبات الاقتصادية غداة الحرب العالمية الأولى، من خلال التدابير الاقتصادية التي اتخذتها كل من الولايات المتحدةالأمريكية وبريطانيا ضد البضائع المتوجهة إلى ألمانيا. وتعتبر المقاطعة الاقتصادية واحدة من بين أهم العقوبات التجارية(Les sanctions commerciales) التي تجمع بين كل من عقوبتي الحظر والحصار البحري، علاوة على بعض العقوبات الجمركية. وقد جرى توسيع تعريف العقوبات التجارية منذ نهاية القرن 19، حتى أصبح يتراوح مابين المعنى الواسع جدا والمعنى الأقل اتساعا. ويتعلق المعنى الواسع بمنع إرسال الصادرات لدولة أو عدة دول. أما المعنى الأوسع فيتضمن منع إرسال الواردات أيضا إلى درجة اختلاطه بمفهوم المقاطعة. ويعود اشتقاق عبارة المقاطعة الاقتصادية "Boycottage" إلى اسم أحد الضباط الإيرلنديين "Charles Cunningham Boycott" سنة 1880، وتم إلحاقه بالقانون الجنائي الإيرلندي سنة 1887 لينتشر بعد ذلك في باقي اللغات عبر العالم. ويؤكد تطبيق سلاح المقاطعة الاقتصادية من طرف الاتحاد الألماني -الذي كان معروفا ب"الهانسا"- في علاقاته الدولية، خلال الفترة التاريخية التي تعود إلى القرنين الرابع عشر والخامس عشر، أن هذه الممارسة ضاربة في جذور التاريخ. فقد كانت القرارات التي يصدرها في هذا الصدد ملزمة لجميع الأطراف، وكانت إجراءات المقاطعة ذات طابع سلمي. وإلى جانب الاتحاد الألماني مارست الصين هذا النوع من العقوبات ضد اليابان في أكثر من مناسبة، حيث بلغت معدل تسع مرات خلال الفترة الممتدة ما بين سنتي 1908 و1931. كما تم استخدامها قديما من قبل الثوار الأمريكيين حينما أعلنوا التمرد على الحكومة البريطانية التي كانوا خاضعين لها؛ ومقاطعة البضائع الإنجليزية بسبب زيادة مجلس العموم البريطاني في الضرائب المفروضة على الأمريكيين. هذا بالإضافة إلى ما قررته اللجنة الوطنية في الهند سنة 1956، والقاضي بمقاطعة البضائع الفرنسية والبريطانية، بسبب اشتراكهما إلى جانب إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر. من جهتها اعتُبرت منظمة الدول الأمريكية "O.E.A" من السباقين إلى ممارسة هذه العقوبة؛ وذلك عندما فرضتها ضد "السان دومينيكSaint Dominique-" بموجب القرار (Rés.I.21août1960) وضد "كوبا-Cuba". هذه الأخيرة التي تسببت لها عقوبات المقاطعة الاقتصادية المفروضة ضدها بشكل أحادي من قبل الحكومة الأمريكية، في خسارة ممولها الأول وزبونها الأول في نفس الوقت، وهو الولايات المتحدة نفسها التي كان قد تراجع حجم صادرات كوبا إليها، في الفترة الممتدة ما بين يناير 1959 ودجنبر 1961، من 474 مليون دولار إلى 35 مليون، أي من 74% إلى 6%. وفي المقابل تراجع حجم وارداتها من الولايات المتحدة في نفس الفترة، من 435 مليون دولار إلى 14 مليون، أي من 65% إلى 2%، مما انعكس سلبا حتى على الولايات المتحدة بنفسها التي تراجعت إيراداتها من كوبا بهذا الشكل المهول. تمييز المقاطعة الاقتصادية عن الحضر في القانون الدولي يختلف الحظر عن المقاطعة الاقتصادية في أنه يُفرض من قبل حكومة الدولة نفسها. في حين نجد أن من يمارس المقاطعة ويشارك فيها هي المؤسسات والشركات والمصالح المعنية داخل الدولة. ثم إن المقاطعة تهدف إلى قطع ووقف كافة العلاقات الاقتصادية. في حين أن الحظر هو المنع المفروض على جميع الصادرات أو جزء منها. ولعل ذلك ما يجعل المقاطعة حسب البعض أشمل من الحظر. ويميز البعض بين الحظر والمقاطعة بالقول: "إذا تعلق الأمر بعقوبة تعليق تصدير منتَج تجاري بعينه إلى البلد الهدف، فإننا نتكلم إذ ذاك على "حظر Embargo-"، وهذه الكلمة الإسبانية الأصل تعني من حيث الاشتقاق "حَرَج"، والمقصود منها عند اتخاذ قرار بفرض حظر تجاري جزئي أو تام، هو "إحراج" البلد المستهدَف. وإذا تعلق الأمر بعقوبة رفض استيراد منتج بعينه من البلد المستهدف، فإننا نكون بصدد "مقاطعة" boycott. وفي هذا السياق يمكن تعريف المقاطعة الاقتصادية بأنها تلك "الإجراءات الرسمية التي تؤدي إلى قطع العلاقات الاقتصادية بين دولة وأخرى معتدية، عندما لا تكون هناك حالة حرب معلنة بينهما." ويقصد بها في معناها العام "وقف العلاقات التجارية مع جماعة أو فرد أو بلد لتحقيق غرض اقتصادي أو سياسي أو عسكري في السلم أو الحرب". وتشمل إجراءات المقاطعة الاقتصادية وقف كل العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية والاستثمارية مع دولة ما، والامتناع عن الاستيراد منها. كما قد تتناول الامتناع عن التصدير وحظر الشحن الكلي أو الجزئي إليها، وحظر إنشاء عوامل الإنتاج على إقليمها. حيث تقوم المنظمات الدولية بدعوة الدول الأعضاء أو رعاياها لتطبيق المقاطعة الاقتصادية على الدولة المخالفة لأحكام القانون الدولي. هذا علاوة على العلاقات الاجتماعية التي تتم على مستوى الأشخاص كالسياحة والهجرة والسفر… وهي إجراءات لا تقتصر على قطاع معين، بل تمتد لتشمل سائر القطاعات. الأمر الذي يؤدي إلى إخضاعها لمطالب الدولة أو الدول التي بادرت بأسلوب المقاطعة، تحقيقا لأهدافها التي قد تكون سياسية؛ كإجبار دولة على تغيير سياستها أو موقفها أو نظمها السياسية والاجتماعية. وقد يكون هدفها غير سياسي مثل محاولة إجبار دولة على قبول معاهدة معينة. على عكس الحظر والتحريم الاقتصادي، اللذان يقتصران على إيقاف حركة تبادل السلع بين الدول المرسِلة (أي المعاقِبة) والدولة الهدف (أي المعاقَبة)، ولعل ذلك ما يميزها عن هذه الأخيرة. وينظر "لويس دو بويس" إلى المقاطعة في مفهومها الشاسع، على أنها تتحدد في رفض إقامة العلاقات التجارية مع الدولة المستهدفة. ولذلك فهو يرى في هذا المفهوم أن الحظر لا يمثل إلا نوعا من إجراءات المقاطعة. غير أنه يشير إلى التعريف الأضيق لها، الذي يحصرها في منع الاستيراد الذي يتوافق مع الواقع العملي؛ حيث تكون الإجراءات الناتجة عن المقاطعة في علاقات الدول ببعضها البعض، موانع تصيب الواردات فقط. وتعتبر المقاطعة الاقتصادية من أهم العقوبات الدولية التي استعملتها الدول ضد بعضها البعض للضغط على الدولة الهدف. وقد اعتبرها البعض من فقهاء القانون الدولي الفرنسي بمثابة "النموذج الأمثل للعقوبات الاقتصادية"، الذي يجنب الدولة الهدف مواجهة حرب العدوان. تمييز أشكال المقاطعة الاقتصادية من حيث نطاق وجهة تطبيقها تتخذ المقاطعة الاقتصادية عدة أشكال؛ يمكن التمييز فيها بين شكلين أساسين، تتنوع حسبهما من حيث نطاق تطبيقها ومن حيث الجهة التي تطبقها. فمن حيث نطاق تطبيقها الذي ينقسم بدوره إلى كل من المقاطعة الداخلية والمقاطعة الدولية. فتعني المقاطعة الداخلية مقاطعة فرد أو جماعة داخل دولة معينة؛ بمعنى أنها تسري في حدود الدولة الواحدة. وهي في هذه الحالة تخضع للقانون الداخلي للدولة التي تجري في إقليم هذه المقاطعة. ومن أمثلتها المقاطعة التي مارسها الشعب الفلسطيني سنة 1936 ضد الإنتاج الإسرائيلي خلال فترة الانتداب البريطاني. بينما تعني المقاطعة الدولية، التي تختلف عن المقاطعة الداخلية في كونها تطبق خارج حدود الدولة. ويخضع هذا النوع من المقاطعة للقانون الدولي العام. ومن أمثلة تطبيقها ما كان مجلس الأمن قد تقدم به ضد جنوب إفريقيا لمواجهة السياسة العنصرية التي تنهجها، وذلك في قراره رقم 181(1963) الذي جاء في إحدى الفقرات الأساسية منه أن مجلس الأمن: ج) يطالب جميع الدول بمقاطعة بضائع جنوب إفريقيا. أما بالنظر إليها من حيث جهة تطبيقها والتي تنقسم بدورها إلى المقاطعة الفردية، التي تتحقق في حالة ما إذا قامت دولة واحدة بالمقاطعة في مواجهة دولة أخرى أو أكثر من تلقاء ذاتها. أو كرد فعل لعمل انتقامي تم تجاهها. ومنها مثلا المقاطعة الكويتية لتجارة الولايات المتحدةالأمريكية وتحويلها إلى الإتحاد السوفيتي وغيره من الدول الاشتراكية، ثم إلى بعض الدول الرأسمالية الأخرى إبان أزمة الصواريخ الكوبية سنة 1962. ثم المقاطعة الجماعية التي تقوم بها مجموعة من الدول تجاه دولة أخرى أو أكثر، وذلك تنفيذا لقرارات تنظيم دولي أو إقليمي معين. وكمثال على المقاطعة التي كانت في إطار تنظيم دولي، تلك التي قامت بها الدول الأعضاء في عصبة الأمم ضد إيطاليا بسبب غزوها للحبشة سنة 1935. وكذلك المقاطعة التي قامت بها الدول الأعضاء في هيئة الأممالمتحدة ضد روديسيا سنة 1966. ومن أمثلة المقاطعة التي قد تتم في إطار تنظيم إقليمي، المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل التي شملت جميع منتجاتها، وذلك عملا بقرار مجلس الجامعة العربية بتاريخ 2 دجنبر 1945، بسبب تصاعد الهجرة اليهودية إلى فلسطين وإقامة مستوطنات بها. هذا بالإضافة إلى المقاطعة السلبية التي تهدف إلى منع التعامل بأسلوب مباشر أو غير مباشر مع الدولة التي تطبق المقاطعة في مواجهتها. والمقاطعة الإيجابية التي تتجلى فيما حدث من خلال أسلوب المقاطعة العربية لإسرائيل، التي طبقتها الدول العربية على الشركات التي تتعامل مع إسرائيل طيلة مدة مقاطعة الدول العربية لهذه الأخيرة. وقد انطوت على منع تدفق رؤوس الأموال أو الخبرة الفنية إلى إسرائيل. مع منع الشركات الأجنبية العاملة في الدول العربية، من استخدام مواد أو معدات أو منتجات من شركات موضوعة في القائمة السوداء في صادراتها أو مشروعاتها للدول العربية. تمييز المقاطعة الاقتصادية الرسمية عن الشعبية تعد المقاطعة الاقتصادية الشعبية بمثابة مقاطعة غير رسمية إذا ما تولى تنظيمها أفراد أو تنظيمات أو جماعات خاصة؛ أو إذا قام بتنظيمها الجمهور بشكل تلقائي بدافع من عواطفهم وحماسهم الوطني، وذلك دون تدخل من الدولة؛ فيقررون إيقاف التعامل بالبضائع والمنتجات المستوردة من الدولة المنتهٍكة وتعليق التصدير إليها. وقد يتسع ذلك ليشمل الامتناع عن التعامل مع رعاياها كما يقول "بيير رينوفان". وفي هذا الصدد، يمكن الحديث عن حملات المقاطعة الشعبية الواسعة النطاق للبضائع الفرنسية، التي انطلقت على امتداد ربوع العالم الإسلامي منذ إعادة نشر الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في أكتوبر الماضي؛ وازدادت اتساعا بعد تبنيها رسميا بدعوى الدفاع عن "حرية التعبير". وكذلك حملات المقاطعة الشعبية للبضائع الدنماركية التي شهدتها الدول الإسلامية سنة 2005، جراء نشر الصحيفة الدنماركية أعلاه ل 12 رسما مسيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها أيضا مقاطعة الشعب الصيني للبضائع الأمريكية سنة 1906 بسبب وضع قيود على هجرة الصينيين واستيطانهم فيها. وقد تكررت من الصينيين ضد اليابان ما يقارب تسع مرات. ومنها أيضا مقاطعة الأتراك سنة 1908 للبضائع النمساوية لضمها لأحد أقاليم البوسنة، وللبضائع اليونانية سنتي 1909 و1910 لتقديمها مساعدات للثوار الكريتيين. وكذلك مقاطعة الهنود الوطنيين بقيادة "المهاتما غاندي" للمنتجات البريطانية سنة 1920. ومنها أيضا مقاطعة الحركة الشعبية الواسعة للمنتجات اليابانية التي تأسست قبيل الحرب العالمية الثانية. وفي هذا الصدد، قد تكون المقاطعة سلمية إذا ما اقتصرت على توزيع المنشورات وعقد الاجتماعات وتضمنت الدعوة إلى المقاطعة من غير عنف. وقد تكون غير سلمية إذا كانت مصحوبة بارتكاب أعمال عنف وشغب وتخريب. وفي هذا الخصوص فقد تناقلت وسائل الإعلام أن "بيتر ماندلسون" المفوض التجاري الأوربي الأسبق، كان قد هدد بتقديم شكوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد الدول التي تسمح بالمقاطعة الاقتصادية؛ مدعياً أنها تخالف اتفاقات تلك المنظمة التي وقعتها مجموعة من الدول العربية التي تنشط فيها حملات المقاطعة، وعلى رأسها السعودية وبقية الدول الخليجية. غير أن أول مثال للمقاطعة الاقتصادية الشعبية ضد دولة أخرى في التاريخ الحديث -كما يذكر ذاك بعض القانونيين- هي المقاطعة التي قررتها جماعات من أصحاب الحرف الدنمركيين للبضائع الألمانية، وذلك احتجاجاً على الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الألمانية للحد من استعمال اللغة الدنماركية في مقاطعة شليسفيغ الشمالية. أما المقاطعة الاقتصادية الرسمية فهي تلك المقاطعة التي تقررها أجهزة الدولة المسؤولة ضد جماعات أو دولة معتدية. ويفرق القانونيون في هذا الصدد ما بين المقاطعة الرسمية في حالة السلم، والمقاطعة الرسمية في حالة الحرب. ومن أمثلتها المقاطعة التي فرضتها البلدان العربية على المنتجات الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، تطبيقاً لقرار مجلس جامعة الدول العربية رقم (16/دع2/ج11)، الصادر في الدورة الثانية بتاريخ 02/12/1945، والمتضمن لتبني المقاطعة العربية لإسرائيل بغرض إعاقة تمكين اليهود من تحقيق وطن قومي لهم في فلسطين. وكان مجلس جامعة الدول العربية قد أقر في دورته الثانية والعشرون بتاريخ 11/12/1954 مشروع القانون الموحد لمقاطعة إسرائيل، الذي حدد الجرائم التي تقترف بالمخالفة لأحكامه والأشخاص والهيئات المحظور التعامل معها. علاوة على العقوبات التي ترد ضد مخالفي نصوصه، ووافقت الدول الأعضاء على هذا المشروع. وكذلك مقاطعة الصين للبضائع اليابانية سنة 1931 على إثر غزو هذه الأخيرة لإقليم منشوريا؛ إذ أيدت الحكومة الصينية المقاطعة رسميا وحثت الدول الصديقة على اتخاذ إجراءات مماثلة ضد اليابان. ومقاطعة الولايات المتحدة للاتحاد السوفييتي للفترة ما بين الحربين العالميتين. ومقاطعة الولايات المتحدة ودول السوق الأوربية المشتركة واليابان لإيران، وذلك أثناء فترة احتجاز الرهائن الأمريكيين في السفارة الأمريكية في طهران ما بين سنتي 1979 و1980. وفقا لما سلف، فقد أثارت مشروعية المقاطعة الاقتصادية خلافا قانونيا بين فقهاء القانون الدولي؛ حيث اعتبرها البعض منهم مشروعة في زمن الحرب فقط، وهناك اتفاق دولي حول هذا الأمر. بينما يثور الخلاف بالتحديد حول مشروعيتها في زمن السلم؛ حيث يراها البعض الآخر غير مشروعة لأنها تعد في حد ذاتها تهديدا للسلم والأمن الدوليين، وذلك لتجاوزها لمبدأ ضمان حقوق الإنسان. ولعل ذلك ما دفعنا لدراسة مدى مشروعية تفعيلها في زمن السلم من وجهة نظر قانونية، خصوصا إذا نظرنا إليها من زاوية التكييف القانوني لها المستمد من مقتضيات المادة 39 من الميثاق والمادة 34 قبلها. وذلك من خلال دراسة الأسس القانونية لتجريم تصرفات من قبيل الازدراء الرسمي للأديان والرموز الدينية، باعتبارها تؤدي –وفقا لهاتين المادتين دائما- بدورها إلى تهديد السلم والأمن الدوليين، وتؤدي إلى الإخلال الرسمي بمقاصد الأممالمتحدة بين الأمم. وذلك في أفق احتمال عرض الأمر على أنظار مجلس الأمن الدولي، لتدارس مدى إمكانية فرض عقوبة المقاطعة الاقتصادية على الدولة المخالفة، كإحدى العقوبات الدولية الاقتصادية الرادعة لمثل هذه التصرفات في إطار دولي وفقا لمقتضيات المادتين 39 و41 من ميثاق الأممالمتحدة. الأساس القانوني للمقاطعة الاقتصادية الرسمية لقد أعطى ميثاق الأممالمتحدة مشروعية للمقاطعة الاقتصادية من خلال المادة 41 منه، التي تنص على حق الدول في وقف كل العلاقات الاقتصادية ضد الدولة المخالفة. كما أن مبادئ حرية التجارة التي أقرتها منظمة التجارة العالمية تقوم في الأساس على مبدأ "العقد شريعة المتعاقدين". وهذا يعني أن الدول الأعضاء لديها الحرية في تضمين العقود التي تريد إبرامها فيما بينها، الشروط التي تتماشى مع حقوقها ومصالحها. ومنها اشتراط عدم التعامل مع دولة معينة تجاريا أو ماليا لأسباب معينة. مع احتفاظ الدولة المتعاقدة بحق قبول أو رفض هذه الأسباب. الأساس القانوني المتمثل في المادتين 34 و39 من الميثاق من الثابت في مبادئ القانون الدولي أن أي تصرف ينطوي على أي تهديد للسلم والأمن الدوليين، يقوم به شخص من أشخاص القانون الدولي، يستوجب تدخل الأممالمتحدة من خلال مجلس الأمن الدولي لوضع حد لأي تصرف من هذا النوع. وذلك من أجل استتباب الأمن الدولي وإعادة الأمور إلى نصابها. ويدخل ذلك ضمن الصلاحيات الواسعة التي منحها الميثاق لهذا المجلس وفقا للمادتين 34 و39 منه. وفق ذلك، يمكن القول بأن المادة 39 تعد سلطة الملائمة والتكييف القانونيين اللذين يمتلكهما مجلس الأمن. وذلك لتكييف وملائمة الخروقات الدولية التي يقوم بها أي شخص من أشخاص القانون الدولي تجاه شخص دولي آخر أو أكثر. واستنادا إلى هذه المادة، يفترض أن يجتمع مجلس الأمن ليقوم بفحص وتشخيص الحالة المعروضة على أنظاره، ويقرر في البداية إن كانت فعلا تشكل تهديدا للسلم والأمن الدولي أو إخلالا به. ولا تضع هاتان المادتان 34 و39 أي حد للسلطة التقديرية لمجلس الأمن في تكييف ما يعرض عليه من وقائع. فهو لا يخضع لأية رقابة قضائية أثناء ممارسته لهذه السلطة، لا سيما أنه لا يوجد أي تعريف محدد للإخلال بالسلم أو تهديده. وعليه، فعندما أسند ميثاق الأممالمتحدة الاختصاصات الرئيسة المتعلقة بالسلم والأمن الدوليين إلى مجلس الأمن، ومنحه سلطة تقديرية تامة في فحص أي نزاع بموجب المادة 34 من الميثاق، أو أي موقف قد يؤدي إلى احتكاك دولي أو يثير نزاعا؛ ذهب بمقتضى المادة 39 منه إلى أبعد من ذلك، عندما منح المجلس سلطة تقرير ما يعد فعلا تهديد للسلم أو إخلالا به أو عملا من أعمال العدوان. وقد أثارت هذه المادة العديد من المؤاخذات والكثير من الجدل القانوني حول تفسيرها وتحديد طبيعتها. وذلك نظرا لما تنطوي عليه من سلطات وصلاحيات واسعة وخطيرة، يتمتع بها المجلس في تصديه للقضايا التي تمس السلم والأمن الدوليين. فبالاستناد إلى هذه المادة يتعين حدوث تهديد للسلم والأمن الدوليين أو إخلال بهما، ليقوم الاختصاص لمجلس الأمن لممارسة صلاحياته وسلطاته في توقيع العقوبات الاقتصادية. غير أن ما يعاب على ميثاق الأممالمتحدة في هذا الصدد، أنه جاء خاليا من أي تعريف لهذه الحالات حسب ما يراه البعض، كما ذكرنا. الشيء الذي يفتح الباب أمام مجلس الأمن على مصراعيه، لتفسير هذه الحالات تفسيرات واسعة قد تبتعد أو تتجاوز المراد منها. وفي هذا الخصوص يرى الفقيه "هانس كلسن" أن "الغرض من الإجراءات المتخذة بموجب المادة 39 من الميثاق، ليس هو صون أو استعادة القانون، بل هو الحفاظ على السلام أو استعادته، وهو ما ليس بالضرورة متطابقا مع القانون". والمرجح أن المجلس قد تعمد ذلك بغرض التقرير في كل حالة على حدة وفق ما يراه مناسبا؛ حيث يهدف من خلال ذلك إلى إزالة التهديد القائم للسلم الدولي، وليس تحديد الطرف المخطئ. ولعل ذلك ما دفع ببعض الفقهاء إلى التشكيك في قانونية إجراءات مجلس الأمن في هذا الصدد؛ بل هي في الواقع لا تعدو كونها مجرد إجراءات سياسية. وهو ما أكده أغلب فقهاء القانون الدولي وأيدهم فيه بعض قضاة محكمة العدل الدولية، من بينهم القاضي "Werramantry وSchwebel" في قضية لوكربي. حيث يرون أن مسألة تكييف الوقائع وتصنيفها ضمن ما يشكل تهديدا للسلم الدولي أو إخلالا به أو حتى عملا من أعمال العدوان، هي عملية سياسية لا يمكن تقييمها بالرجوع إلى مبادئ القانون الدولي. كما أن الأعمال التحضيرية للميثاق تشير إلى أن المجلس هو الجهة الوحيدة المخولة بتحديد المقصود بالمصطلحات الثلاث الواردة في المادة 39. لذلك يمكن القول بأن تصدي مجلس الأمن لازدراء الأديان ممكن، في حال تم الاتفاق على تجريمه دوليا في إطار الجمعية العامة للأمم المتحدة. بل وواجب إذا تم الاتفاق عليه انطلاقا من المقتضيات القانونية والسياسية الوارد ذكرها في الفقرة أعلاه. إذ حسب المادة 39 يمكن القول إن مهمة العقوبات الاقتصادية، بالإضافة إلى كونها علاجية، فهي وقائية بالدرجة الأولى. وبعد تأكد مجلس الأمن من وجود انتهاك للسلم والأمن الدوليين أو تهديدهما، فإنه لا يجب أن ينتظر حتى الوقوع الفعلي للإخلال المؤدي إلى تهديد السلم والأمن الدوليين، وانتهاك قواعد القانون الدولي ومقاصد الأممالمتحدة الواردة بديباجة الميثاق لكي يتدخل. بل يملك السلطة الفعلية للتدخل وفرض ما يراه ملائما قبل الحدوث الفعلي للانتهاك. الأساس القانوني المتمثل في المادتين 40 و41 من الميثاق علاوة على المادتين 34 و39 أعلاه، تشكل المادتان 40 و41 من الميثاق بدورهما أساسا قانونيا قويا لتطبيق كل من التدابير المؤقتة، والعقوبات التي من ضمنها المقاطعة الاقتصادية وقطع العلاقات الدبلوماسية. لاسيما المادة 41 التي احتوت على جملة من العقوبات اصطلح عليها عمليا "بتدابير المنع"؛ وهي عبارة عن مجموعة من الآليات التي تكون متاحة لمجلس الأمن الدولي يطبقها وفقا لما يراه مناسبا. وقد أعطت هذه المادة لمجلس الأمن سلطة غير مقيدة فيما يتعلق بفرض العقوبات الاقتصادية الجماعية، الشيء الذي أثار العديد من النقاشات في هذا الخصوص. وإن كانت قد جعلت ذلك رهينا بتوفر شرطين أساسين: الأول وهو ضرورة وجود تهديد للسلم الدولي أو خرقه أو حدوث عمل من أعمال العدوان؛ ويقتضي الثاني أن يكون الهدف من فرض العقوبات هو الحفاظ على السلام والأمن الدوليين أو إعادتهما إلى نصابهما. وعلاوة على المادة 40 التي تنص على أن: "لمجلس الأمن أن يدعو المتنازعين للأخذ بما يراه ضروريا أو مستحسنا من تدابير مؤقتة منعا لتفاقم الوضع"؛ تنص المادة 41 على أن: "لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي يجوز أن يكون من بينها، وقف الصلات الاقتصادية وقفا جزئيا أو كليا وقطع العلاقات الدبلوماسية." وعليه، يمكن لمجلس الأمن أن يدعو إلى فرض عقوبات اقتصادية جماعية بمقتضى المادة 41 من الميثاق في حالتين: الأولى إذا كان قد قرر بمقتضى المادة 39 منه أن تصرفا قام به أحد أشخاص القانون الدولي، يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين أو خرقا لهما. حيث لا يمكن لمجلس الأمن –حسب ما يراه البعض- أن يباشر تفعيل مقتضيات المادة 41 إلا إذا سبقها تكييف للوقائع انطلاقا من مقتضيات المادة 39. والحالة الثانية إذا كان الهدف من فرض العقوبات هو الحفاظ على السلام والأمن الدوليين أو إعادتهما إلى نصابهما. وهي الأهداف التي من أجلها أنشئت الأممالمتحدة (المادة 1 الفقرة 1) من الميثاق، ترمي إلى تحقيقها من خلال التدابير الواردة في الباب السادس من أجل التسوية السلمية للمنازعات. هكذا فإذا ما قرر مجلس الأمن وجود تهديد للسلام أو انتهاك له وفق المادة 39 أعلاه، فسوف يصدر توصيات أو يقرر اتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين أو إعادتهما إلى نصابهما. وقد تتمحور هذه التدابير حول المقاطعة الاقتصادية المنصوص عليها في المادة 41، باعتبارها إحدى تدابير المنع التي تستخدم كوسيلة لمنع الصراعات في العالم. لكنها في الأصل تستخدم لتمنع وصول بعض أو كل المواد الحيوية للدولة موضوع هذه العقوبات؛ وهو ما من شأنه إضعاف القوة الاقتصادية للدولة المخالفة أو إضعاف مكانتها الدبلوماسية والتجارية على المستوى الدولي. وهذه التدابير -التي هي في الأصل تدابير جماعية قسرية- تنفذها الدول الأعضاء في الأممالمتحدة بناء على قرار يصدره مجلس الأمن منفردا بموجب الفصل السابع. وفي هذا الخصوص، تجدر الإشارة إلى أنها لا تكون دائما موجهة ضد الدولة المخالفة في شخصها، ولكنها قد تكون موجهة أيضا لأي مكون من مكوناتها، طالما أن نتائجها ستنعكس على الدولة بشكل أو بآخر. فإذا كان المألوف أن تطبق العقوبات الاقتصادية على الدول باعتبارها تتمتع بالشخصية القانونية الدولية، فإن العمل الدولي قد جرى على تطبيق هذا النوع من العقوبات على أطراف غير حكومية أيضا. ومثال ذلك قرار مجلس الأمن رقم864 الصادر بتاريخ 15 شتنبر 1993 ضد" الإتحاد الوطني للاستقلال التام لأنغولا"، حيث أشار هذا القرار إلى أنه يتصرف وفقا لمقتضيات الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. وعلى إثر ذلك فقد قرر حظر جميع أشكال بيع وتوريد الأسلحة والنفط "للاتحاد الوطني لأنغولا". كما أعرب المجلس على استعداده للنظر في فرض عقوبات تجارية ضد هذا الإتحاد، إذا ثبت عدم التزامه بقرارات مجلس الأمن. ولنفس الغرض أُنشأت لجنة خاصة للنظر في هذه العقوبات، والتي تتكون من أعضاء مجلس الأمن الدولي على غرار اللجان التي تُنشأ للنظر في العقوبات التي تطبق على الدول. كما فرض مجلس الأمن حظرا على البترول وعلى السلع البترولية في المناطق التي يسيطر عليها الخمير الحمر في "كمبوديا"، وذلك للضغط عليهم من أجل إلقاء السلاح والدخول في المصالحة الوطنية. بل إن هناك من يعتبر على أنه حتى العقوبات التي طبقت ضد روديسيا الجنوبية لم تفرض ضد دولة عضو في المنظمة، بل ضد مجموعة إقليمية غير دولية، وضد أقلية بيضاء غير شرعية قامت بإعلان الاستقلال من جانب واحد، بتاريخ 11 نونبر 1965 بقيادة الوزير الأول "إيان سميث–Ian Smith". وقد كان الهدف من فرض العقوبات ضدها هو عدم الاعتراف بهذه الحكومة غير الشرعية من قبل المجتمع الدولي، وممارسة الضغط عليه لتمكين الشعب الأصلي من تقرير مصيره بنفسه. إن عقوبة المقاطعة الاقتصادية تستهدف المقومات الاقتصادية والمالية في الدولة المستهدفة فقط. وبذلك فهي تعتبر وسيلة من وسائل الضغط الأممي، غايتها حمل الدولة المهدِّدة أو المخلة بالسلم والأمن الدوليين على الإذعان لسلطة وأحكام وقرارات هيئة الأممالمتحدة من جهة؛ ولإلزامها باحترام التزاماتها الميثاقية والتراجع عن الأسباب المفضية لذلك التهديد أو الإخلال من جهة أخرى. وتعتبر القرارات التي يصدرها مجلس الأمن طبقا للمادة 41 قرارات ملزمة، وواجبة التنفيذ من جانب جميع أعضاء الأممالمتحدة. حيث لا يمكن لأي دولة أن تتملص من تنفيذ بعضها أو كلها تحت أي ذريعة مهما كان نوعها، لاسيما الادعاء بوجود معاهدات أو اتفاقيات مع أحد أطراف الأزمة. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن هذه القرارات قد تخلق نوعا من التداخل في الالتزامات التي يجب الأخذ بها، هل تلك الناتجة عن قرارات أجهزة الأممالمتحدة، أم تلك المدونة في إطار اتفاقيات أو التزامات دولية أو إقليمية مع دول أخرى، كتلك التي قد تجمع مثلا دول الاتحاد الأوربي للتبرم من التزاماتهم الدولية، التي قد يعد الدفع بسمو "حرية التعبير" على "احترام المقدسات الدينية" أحد أوجهها. غير أن المادة 103 من الميثاق قد حسمت الأمر حيث قررت أنه "إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأممالمتحدة وفقا لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي أخر يرتبطون به، فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق". ووفق ذلك، فهل يستعصي على الدول التي تقوم بازدراء الأديان والرموز الدينية لمجتمعات معينة، أن تدرك أنه بدل الدعوة إلى وقف المقاطعات الاقتصادية التي تكون عبارة عن ردود أفعال طبيعية شعبية ورسمية لتصرفاتها تلك، بدعوى أنها تمس بمصالحها الاقتصادية بهذه الدول؛ أن تعي جيدا مضامين مقتضيات الفقرة (ب) من المادة 55 من الميثاق، التي تنص على ضرورة "تيسير الحلول للمشاكل الدولية الاقتصادية". هذه الفقرة التي توجب عليها حتى في حال عدم انخراطها في هذا الورش الدولي لتيسير الحلول لهذا النوع من المشاكل، أن تمتنع على الأقل عن القيام بما يزيد من تعقيدها بدل حلها. الازدراء ما بين التجريم الدولي وحرية التعبير تجد مسألة تدويل تجريم ازدراء الأديان أسسها القانونية، علاوة على ما سبق ذكره أعلاه، في معاهدة حقوق الإنسان متعددة الأطراف التي تضم 160 دولة. وكذا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966، الذي يلزم الدول الأعضاء بمقتضى المادة 2 منه الفقرة 1 باحترام الحقوق المعترف بها فيه لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها، دون أي تمييز لأسباب من بينها العرق أو اللون أو اللغة أو الدين أو الأصل القومي. ويلزم الدول بمقتضى الفقرة 2 من نفس المادة بملائمة قوانينها التشريعية الدستورية والتنظيمية المحلية بمقتضيات هذا العهد، وعلى رأسها حظر الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية. بل ويلزمها بأن تكفل سبل التظلم الفعال لأي شخص انتهكت حقوقه أو حرياته المعترف بها في هذا العهد، حتى لو صدر الانتهاك عن أشخاص يتصرفون بصفتهم الرسمية. بل إن المادة 19 حتى عندما تنص على حق كل إنسان في حرية التعبير في الفقرة 2 منه، وتمنحه حرية نقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني، "كالرسوم الكاريكاتيرية"؛ فإنها وفق الفقرة 3 الموالية تستتبع ممارسة هذه الحقوق بواجبات ومسؤوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية، أولا لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، وثانيا لحماية الأمن القومي أو النظام العام. حيث تجعل الناس جميعا متساوين في التمتع بحماية القانون وفق المادة 26 منه، دون أي تمييز لأسباب من بينها العرق أو اللون أو اللغة أو الدين أو الأصل القومي. وفي هذا الصدد، فقد سبق للمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان أن حسمت النقاش في قضية ازدراء الأديان بتاريخ 25 أكتوبر 2018. وذلك عندما أقرت بأن "الإساءة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليست حرية". بل واعتبرت أن الهجوم على الإسلام يعرض السلام الديني للخطر. وأقرت بذلك حكما لإحدى المحاكم النمساوية صدر بهذا الخصوص سنة 2011، بإدانة سيدة نمساوية بتهمة الإساءة للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم سنة 2009؛ حيث اعتبرت أن الإساءة إلى الرسول لا يمكن إدراجها ضمن حرية التعبير عن الرأي. واعتبرت المحكمة الأوربية أن حكم المحكمة النمساوية لا يعد انتهاكا للحق في حرية التعبير، ولا يمثل خرقا للفصل 10 من الميثاق الأوربي لحقوق الإنسان. كما أكدت على أن المحكمة النمساوية وازنت بدقة بين الحق في حرية التعبير وحق الآخرين في حماية مشاعرهم الدينية، وحافظت بذلك على السلام الديني في النمسا. وقد وجدت المحكمة الجنائية الإقليمية في فيينا بتاريخ 15 فبراير 2011 تصريحات السيدة النمساوية المسيئة للنبي الكريم "تهين المعتقدات الدينية"، وأيدت محكمة الاستئناف هذا القرار في دجنبر من نفس السنة. والواقع أن الحجية القانونية القوية لقرار المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، تجد منطلقها في المادة 95 من الميثاق التي تؤكد على أنه: "ليس في هذا الميثاق ما يمنع أعضاء الأممالمتحدة من أن يعهدوا بحل ما ينشأ بينهم من خلاف إلى محاكم أخرى بمقتضى اتفاقات قائمة من قبل، أو يمكن أن تعقد بينهم في المستقبل". وحري بالذكر في هذا الصدد أن الأمانة العامة لمنظمة التعاون الإسلامي، كانت قد بادرت بتاريخ 23 أكتوبر 2020 بإصدار بيان ذكّرت فيه بهذا الحكم القضائي الصادر عن أعلى محكمة أوربية لحقوق الإنسان. من أولى المبادئ الدولية الراسخة التي يتلقنها طلبة السنة الأولى في كليات الحقوق، عند دراستهم للقانون الدستوري وللحريات العامة وحقوق الإنسان، هو أن "حريتك تنتهي عندما تبتدئ حرية الآخرين". وفق ذلك، يكون من غير المقبول أخلاقيا ومنطقيا أن يتلقى الطالب هذا المبدأ في مدرج الجامعة، ويتلقى أن من يسهر على حسن تطبيقه هو الدولة ممثلة في حكومتها وعلى رأسها رئيس الدولة، الضامن والساهر على حماية الحقوق والحريات بالنسبة لسائر المواطنين داخل الدولة، كيفما كانت انتماءاتهم ودياناتهم ومعتقداتهم. ثم يفاجأ بتحول هذا المبدأ رسميا إلى "مبدأ جديد" في الحريات العامة تتبناه بعض الدول المتقدمة. وهو: "لا تنتهي حريتك عندما تبتدئ حرية الآخرين"، بل تستمر… مع ما ينطوي عليه ذلك من مفارقات صارخة على عدة أصعدة، في قواعد ومبادئ القانون الدستوري والحريات العامة والقانون الدولي والعلاقات الدولية… لعل أبرزها يكمن في التناقض الذي سيصير إليه شعار الجمهورية الفرنسية الخامسة "الحرية والمساواة والأخوة". حيث يضرب هذا المبدأ "النشاز في الحريات العامة" هذا الشعار في الصميم، ويُفقد معالمه الثلاثة معانيها تباعا. وفق ذلك، هل سيحق لفرنسا أن تفتخر بأنها بلد التعدد والتنوع الثقافيين والبشري من سائر الانتماءات الثقافية والبشرية والجغرافية. وإلا فعن أية حرية يمكن الحديث عندما يصبح من حق مواطن من ثقافة أو ديانة معينة، أن يسخر ويستهزئ "باسم حرية التعبير" من ثقافة ومعتقدات مواطن آخر داخل نفس الدولة؟ فما هي حدود هذه الحرية؟ خصوصا إذا كان من شأنها إطلاقها أن يؤدي إلى إثارة الشغب والفتنة والتوترات داخل نفس الدولة بل وخارجها أيضا. مما قد يُخرج التوتر من نطاق اختصاص القانون الوطني إلى نطاق اختصاص القانون الدولي عندما يتعلق الأمر بالسخرية من معتقدات أمم أخرى تؤدي إلى تهديد السلم والأمن الدوليين. ثم ألا يؤدي ذلك -ضمن نفس الشعار- إلى أن يضرب بعضه بعضا؟ فعن أي مساواة يمكن الحديث عندما يصبح للدولة فئتين من المواطنين: فئة "حرة" يحق لها ممارسة حريتها في الاستهزاء بمقدسات مواطنيهم من ديانات أخرى؛ مقابل فئة مستضعفة ليس لها أدنى حق في الرد بالوسائل القانونية التي يجب أن يكفلها لها القانون انطلاقا من شعار المساواة؟ ألا يعتبر مبدأ الحرية هذا نفسه بهذا الشكل ضربا لمبدأ المساواة؟ ثم عن أي أخوة يمكن الحديث داخل مجتمع يشجع على تبني ثقافة الكراهية في المعتقدات والثقافات والانتماءات، والاستهزاء بالآخر والنظرة الدونية التي تنبذها الشرائع السماوية الثلاث الإسلامية والمسيحية واليهودية؟ دون أدنى اعتبار لما تشجع عليه هذه الشرائع نفسها لتبني ثقافة التسامح الفعلي، والأخوة الفعلية وتضع قيودا على الحرية؟ بحيث تلجمها بلجام لا يسمح بتخطي حدود يؤدي تخطيها إلى المس بحرية الآخرين. بل لعل المثير في هذه "الحرية" أنها تظل دون قيود عندما يتعلق الأمر بالمقدسات الدينية؛ لكنها تضيق بشكل جليّ وتنتهي فورا عندما يتعلق الأمر بالتشكيك في عدد ضحايا الهولوكوست مثلا، أو رسم كاريكاتير للمحرقة! وبينما ترفض سائر الدول الأوربية تدويل تجريم ازدراء الأديان؛ فإنها تتفق أوربيا على تجريم إنكار "الهولوكوست" بتهمة معاداة السامية في كل من ألمانيا وهولندا وإيطالياوفرنسا وإسبانيا وجمهورية التشيكوالنمسا والمجر ورومانيا وبلجيكا وسويسرا وسلوفاكيا وبولندا ولوكسمبورغ وليخشنشتاين وليتوانيا. حيث لا يعتبر مجرد التشكيك أو رسمُ رسمٍ كاريكاتيري في هذا الخصوص حرية في التعبير عن الرأي؛ بل يعتبر جريمة يعاقب عليها بعقوبات تتدرج من دولة إلى أخرى. ولعل نماذج تاريخية لشخصيات مثقفة حاولت ذلك وتمت معاقبتها، خير دليل على التناقض في مفهوم حرية التعبير هذا؛ من أمثال الفيلسوف الفرنسي "روجي غارودي" والمفكر الفرنسي "روبير فوريسون" والمؤرخ الفرنسي "هنري روكيه" والسياسي الفرنسي "جان ماري لوبين" والمؤرخ البريطاني "ديفد إيرفينغ" والسياسي البريطاني "كين ليفنغستون" والأسترالي "فريديريك تويبن" والكيميائي الألماني "جيرمار رودولف" والمحامية الألمانية "سيلفيا ستولتز" والقاضي الألماني "ويلهيلم ستايغليش"… فهل ستكف بعض الدول عن سياسة الكيل بمكيالين في التعاطي مع "حرية التعبير عن الرأي"، من خلال الكف عن رفع حدث تاريخي إلى درجة "القداسة" التي تنتهي عندها حرية التعبير؛ بينما تدنس "المقدسات" بجعلها مجرد حدث تاريخي يمكن ازدراؤه بكل حرية؟! لأن التمادي في اعتبار الأمر "حرية تعبير" يؤدي إلى انتكاسة قانونية وحقوقية دولية، تضرب في الأعماق مقاصد ميثاق الأممالمتحدة الذي يدعو إلى ضرورة التعايش في أمن وسلام بين الأمم، من خلال ديباجته التي أكدت على ضرورة "أن نأخذ أنفسنا بالتسامح وأن نعيش معا في سلام وحسن جوار". ومن خلال مادته الأولى التي يدعو فيها إلى حفظ السلم والأمن الدولي، من خلال منع الأسباب التي تهدد السلم وإزالتها (الفقرة 1). وإلى إنماء العلاقات الودية بين الأمم (الفقرة 2). وإلى تحقيق التعاون الدولي على تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا والتشجيع على ذلك (الفقرة 3). وهو ما لا تعكسه التوجهات الفرنسية الرسمية الأخيرة، التي زادت من تأزيم الوضع بتضييقها للخناق على الجاليات المسلمة المقيمة فيها، من خلال إلصاق تهم بالفئات الرافضة لازدراء معتقداتها الإسلامية من قبيل "الإرهاب والإسلاموية والتطرف والتعصب الديني…". بل بلغ الأمر حد الغلو في التضييق، من خلال إغلاق العديد من المساجد وتأكيد وزير داخليتها الحالي "جيرالد دارمانان"، الشروع في إحصاء كل من سيتقدمون من العرب والمسلمين لاقتناء "أكياس الكسكس" من المتاجر..! ودعوته إلى رفع المنتجات الحلال من كافة المتاجر الفرنسية… الشيء الذي لاقى معارضة شديدة من قبل عدة أطياف سياسية وازنة داخل فرنسا. كل هذا الإصرار والغلو والتعصب والاستقصاء الفكري والثقافي الفظيع، لا يساهم إلا في تأكيد ضرورة تدويل هذا النقاش من جديد، من خلال طرحه من قبل إحدى أو عدد من الدول الإسلامية ليس أمام مجلس الأمن الدولي فحسب، بل عبر اللجوء إلى رفع دعوى قضائية أمام قضاة محكمة العدل الدولية، وفق ما تنص عليه المواد 35 و36 و38 من النظام الأساسي لهذه المحكمة. أو على الأقل استصدار فتوى أو رأي استشاري من هذه المحكمة في هذا الخصوص، وفقا لمقتضيات المادة 65 من نظامها الأساسي. * مروان يعقوبي باحث في العلاقات الدولية.