على طول التاريخ الاتحادي، ظلت الفكرة الإصلاحية مركزية في تراثه السياسي النظري و العملي(وما أضخمه و أعظمه). حتى أن هناك من يعتبر أن فكرة و نزعة و إرادة الإصلاح لدى الاتحاد ، بما هو شخصية معنوية عريقة موحدة ودائمة، كانت سابقة على التأسيس، من حيث انتساب قادته المؤسسين لنخبة مغربية وعت و تشربت رياح و أفكارالنهضة ، و وعت واقعها المجتمعي و طبيعة نظامها السياسي...لتنحاز في "الغالب الأعم" لفكرة الإصلاح، بالتدرج، بالمؤسسات، بالمجتمع وبالسياسة بما هي مفاوضة دائمة Négociation permanente. الوطنية المجردة ( نحن لا نتفاوض مع الوطن ..الوطن دائما على صواب / ع الرحمان اليوسفي ) والتقدمية الديمقراطية المنفتحة شكلت روح وجوهر ومضمون الفكرة الإصلاحية للاتحاد الاشتراكي. في بيئة و مناخ و محيط غير ملائم و لا موات و لا حاضن أبدا للفكرة الإصلاحية، أطلق الاتحاد الاشتراكي _وحيدا _أفكاره وصرخاته وبذوره ومعاركه الإصلاحية الأولى ... وكانت ضريبة ذلك باهظة. وقد كان القائد الوطني الاشتراكي الديمقراطي الكبير السي عبد الرحيم بوعبيد حاسما و هو يصرخ في بعض الاتحاديين و زمرة المتياسرين: "لا يمكن لأي شعب أن يتعلم الديمقراطية إلا إذا مارسها". وهو الذي كان يسبغ على النضال الديمقراطي سبغة "الكفاح الديمقراطي"، مؤكدا بذلك بأن المسلسل الديمقراطي ليس نزهة، و لا يضمن أحد أو شيء، غير النضال ثم النضال، نزاهته وشفافيته وتراكمه. كان وازع الاتحاديين المركزي في نزوعهم هذا ، أن الأمة المغربية تستحق أن تحكم نفسها بنفسها، أي أن تمارس سيادتها. و أمام نبل هذا المنطلق/ الغاية ، و رغم فداحة الثمن المؤدى لقاء ترسيخ المنطلق وبلوغ الغاية/ سيادة الأمة، لم يدخل منطق الربح و الخسارة في قواميس الاتحاد أبدا. حتى أن الاتحاد الاشتراكي ظل ينزاح تلقائيا و مبدئيا لمختلف دعوات و مبادرات إصلاحنا الديمقراطي و المؤسساتي و السياسي و الدستوري التي تتغيأ منح الأمة المغربية حق و وظيفة ممارسة سيادتها . وقد بلغ النزوع الإصلاحي المجرد عند الاتحاد الاشتراكي مبلغه من حيث طرحه لمشاريع إصلاحية نبيلة، لم تحقق غاياتها و مراميها السياسية، و كانت وبالا عليه(الاقتراع اللائحي نموذجا ) ، ومن حيث قبوله بمبدئية وطنية مفرطة بمشاريع و مجرد نوايا "إصلاحية" فرملت دبنامياتها هي الأخرى وقضمت كثيرا من رصيده(التناوب) . و مع ذلك...مازال الديدن نفسه : الإصلاح ثم الإصلاح ما استطعنا إلى ذلك سبيلا و نضالا و تفكيرا و ابتكارا. أثمرت شجرة الديمقراطية المغربية ( الحديثة العهد بمنطق التاريخ ) ثمارا صالحة و فاسدة ، ناضجة و نيئة، حلوة و مرة ...مما يعني بأن الشجرة إياها يلزمها في كل حين(حتى لا تعقر أو تلد استبدادا) كثير عناية و رعاية و تشذيب و تخصيب. إن مفهوم الديمقراطية عند الاتحاد الاشتراكي هنا يتسامى عاليا على التقني و القانوني و الإجرائي و التنظيمي و الحسابات و المعادلات و الأنانيات و الحزبيات و الحملات و الانتخابات و التحالفات و التجاذبات....إنه يسمو ليجعل من الديمقراطية مرادفا لسيادة الأمة. الديمقراطية و السيادة هما أهم تعبيرين متكاملين ، سياسي و قانوني ، عن مركزية الأمة في تملك قرارها. إن مبدأ سيادة الأمة يعني أن "السلطة العليا الآمرة للدولة لا ترجع إلى فرد أو أفراد معينين ، بل إلى وحدة مجردة ترمز إلى جميع الأفراد. وحدة تمثل و ترمز إلى المجموع بأفراده و هيئاته ، و هي مستقلة تماما عن الأفراد الذين تمثلهم و ترمز إليهم ". من المعلوم تاريخيا، أن مبدأ السيادة كان حقا إلاهيا صرفا تمارسه الآلهة ، ثم "تسلمه" منهم الذين تسلطوا على البشرية باسم الآلهة من ملوك و كنائس و رهبان، إلى أن جاءت الثورة الفرنسية و استلهمت طروحات charles louis desecondat /Montesquieu و john locke و jean Jacques rousseau و Thomas hobbses في "عقدهم الاجتماعي" و "روح القوانين " حول مبدإ السيادة Souveraineté ، ثم أصدرت في أبريل 1789 "إعلان حقوق الإنسان و المواطن الفرنسي " ( الإعلان الذي سيكون مرجعا أساسيا لكل ما سيأتي بعده من مواثيق و عهود قطرية و دولية لحقوق الإنسان ) و الذي جاء فيه : " الأمة هي أساسا مصدر السيادة ، و لا يجوز لأي فرد أو لأية مجموعة من الأشخاص أن تمارس سلطة ، لا تكون مستمدة منها صراحة ". و أكد الدستور الفرنسي الصادر في 3 أكتوبر 1791 في مادته الثالثة : " السيادة هي وحدة واحدة غير قابلة للتجزئة ". و منذها ، أصبح أحد المعايير الكبرى و الحاسمة في الحكم على التطور الديمقراطي لكل أمة هو تنصيص دستورها على مبدإ سيادتها ، و مدى احترام الدولة كسلطة سياسية لإعمال هذا المبدإ ، و مدى عمل و حرص القوى القائلة بالديمقراطية على تنمية و تطوير تملك الأمة لسيادتها. الأمة هنا ، ليست أفرادا أو مجموعة أفراد ، و لا هي مؤسسة أو مجموعة مؤسسات ، و هي ليست حتى الشعب نفسه. الأمة شخص معنوي حر ، عابر للمكان و الزمان. الأمة وحدة واحدة بأمواتها و أحياءها ، بمواطني القطر الذي تغطيه دولة ما و آخرين ينتمون لنفس الأمة و قد يأويهم سقف و سماء قطر آخر.. الأمة هي مشترك و تلاقح لتعدد تاريخي و اجتماعي و أنتروبولوجي و حضاري و ثقافي و لغوي و إتني و جيني و ديني و مصالحي ... الأمة جامعة ، موحدة ، محفزة، محمسة، لحمة....و ليست مفرقة. الأمة هي مجموع من كانوا و رحلوا ، و مجموع من مازالوا أشخاصا و حضارة و رموزا. الأمة ماضي ، امتد في الحاضر و يتجه نحول المستقبل. الأمة هي المكون الأساسي للدولة و العنصر الأساسي لسيادتها. ينص الفصل الثاني من الدستور المغربي على : " السيادة للأمة، تمارسها مباشرة بالإستفتاء ، و بصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها. تختار الأمة ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر و النزيه و المنتظم ". منذ إطلاق المسلسل الديمقراطي ببلادنا، لم تخل محطة سياسية أو انتخابية من النقاش و الحوار و السجال و الصراع حول مستلزمات إصلاح و تجويد المنظومة الانتخابية بما يشذب و يهذب و يحسن و يضفي مزيد من المصداقية و النزاهة على العملية الانتخابية و التمثيلية. و لعله من صدقية العملية الانتخابية و التمثيلية الناتجة عنها أن تكون الهيئة و الكتلة الناخبة أوسع ما يكون ، تحسيسا و تعبئة و مشاركة...و بذلك تكون الأمة ، و أقله سوادها الأعظم ، قد مارست سيادتها ، و وظيفتها الانتخابية( التي تتجاوز هنا كونها مجرد حق قابل للتنازل عنه ) ، و أعطت للانتخابات و التمثيلية شرعيتها. بإسقاط بسيط ، على النقاش الجاري الآن حول ما تتطلبه منظومة القوانين و التشريعات الانتخابية من إصلاحات و تعديلات ، و بعدما تم تسريبه عن مشاورات جارية بهذا الصدد، بعد فذلكته و تحويره من طرف يعاسيب و ذباب العدالة و التنمية.. كان للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، في شخص كاتبه الأول جرأة الخروج الإعلامي المسؤول ، الذي يليق بحزب مسؤول ، لنسف تهافت الأطروحة البيجيدية . لقد ألف العدالة و التنمية منذ أن أركبه ادريس البصري العربة المهترئة للدكتور الخطيب ( التي زعم تأسيسها حماية للتعددية و وضعها كجيب احتياطي لدى وزير الداخلية، لاستعمالها في محاربة اليسار و التقدمية ) أن يأكل مع الذئب و يولول مع الراعي. و منذ ، أن استوطنوا المؤسسات و الجماعات و الحكومات و المسؤوليات بأقلية قليلة(لا هي هيئة ناخبة واسعة و ما أدراك بأن تكون أمة كاملة ) ...صاروا يحسبون و يؤولون كل صيحة، لمزة او غمزة إصلاحية على أنها تهديد للمسار الديمقراطي ، و الحالة أنها مجرد رد فعل انتهازي على زعزعة مفترضة لمواقع و امتيازات و مصالح و ريع اكتسبوها في غفلة من التاريخ( الخريف العربي 2011) ، و في غفلة من الأمة و سيادتها الواسعة(2016) . إنه لا حاجة للتأكيد على أنه منذ أن تم إدخال "ذئب الأصولية إلى حظيرة المجتمع " ( عبد اللطيف اللعبي: مغرب آخر ، رسالة إلى المواطنين/ منشورات أخبار اليوم 2014) ، و قبل ذلك بكثير ، أي منذ بروز " الحركات و الدعوات الحزبية الإسلامية " ( عبد الله العروي: مجمل تاريخ المغرب ) كانت غاية العدالة و التنمية و من شابهها ممن سبقها أو لحقها( من الحركات السياسية الدينية هنا و هناك ) هي استعمال و ركوب الشورى ثم الديمقراطية لفرملة تطور الشورى و الديمقراطية ، و لوأد المختلفين و المخالفين سواء أكانوا ناخبين أو منتخبين ، بالشورى و الديمقراطية . إن دفاع العدالة و التنمية عن مواصلة العمل بنفس القوانين الانتخابية الجارية ، هو فاشية مطلقة موجهة لمئات الآلاف ممن توجهوا و سيتوجهون غدا إلى صناديق الاقتراع ..و يجدون أصواتهم و المرشحين الذين صوتوا لفائدتهم و قد القي بأصواتهم في سلة المهملات بذريعة نظام انتخابي مجحف و غير منصف. إن إصرار العدالة و التنمية على أن تستمر في الريادة( و الانتخابات لم تجر بعد) ، و بأقلية من المصوتين، و أقلية قليلة من الناخبين، وأقلية ميكروسكوبية من المواطنين/ الأمة ....هو في المحصلة بالإضافة إلى منافعه و فيئه ،فاشية ومحاولة حجر على الأمة و الدولة. لقد جربت البلاد ، عبر محطاتها الانتخابية أشكال و أنماط متعددة من الاقتراع و التقطيع....و لم تهتد بعد إلى وصفة ، تعطي للانتخابات معنى سياسيا واسعا، و للتمثيلية شرعية كبيرة، و لحقيقة الخريطة السياسية مصداقية، و للديمقراطية المغربية جاذبية... و أكثر من هذا و ذاك.....لم يعط ما جرب لحد الساعة لسيادة الأمة مضمونا. لقد ظلت الأقلية هي التي تشارك، ، و الأقلية هي التي "تحكم" باسم تلك المشاركة. و لأن أخطر ما يمكن أن يتهدد العمليات الانتخابية، و العملية الديمقراطية برمتها هو أن تعرض الأمة عنها و تلفظها... فإن الرفع من منسوب الاهتمام و التنخيب و التنظيم و التأطير و المشاركة حتى تتملك الأمة ناصيتها و سيادتها ، هو ما نحى بالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى التفكير في صيغة "إدماج قسري" للأمة في تملك زمام أمورها بالدعوة إلى اعتماد القاعدة العامة للهيئة الناخبة في احتساب المعامل الانتخابي....كإجراء تحفيزي يجعل الأمة/ كل الأمة شريكا و فاعلا، وكإجراء ديمقراطي لا يستثني صوتا ممن حجوا لمكاتب التصويت، و لا يقصي أي تعبير مجتمعي من حقه في التمثيل( الديمقراطية هي حماية للأقليات و ليس استبداد للأغلبيات رغم أقليتها ) ... وكإجراء بيداغوجي تربوي تحفيزي ، جاذب ...ينتقل معه سواد الأمة الذي لا يشارك ، من وضع المقاطع، اللامبالي، إلى وضع المشارك افتراضا و قانونا وقد احتسب صوته كفرد من الأمة ومن سيادتها، إلى وضع المشارك الفعلي... من خلال ردود أفعال بعض قادة و ذباب العدالة و التنمية ، يزداد يقيننا الراسخ بأن العقل السياسي لهؤلاء لا زال مسكونا بثلاثية الأستاذ محمد عابد الجابري حول العقل السياسي العربي ( العقيدة و القبيلة و الغنيمة ) ، و لذلك تراهم بمظلومية "بوحاطية " كبيرة و بشعارات ديمقراطية مستعارة يرفضون كل ما قد يخلخل عقلهم هذا. و أما الاتحاد و الاتحاديون ، و لأنهم بعقلانيتهم(و هم في هذا ينهلون من الأستاذ محمد عابد الجابري أحد مؤسسي مشروعهم النظري ) يؤمنون بأنها "لو دامت لهم أو لغيرهم لما وصلت لهؤلاء"، وبأن الوطن ومؤسساته ليسا غنيمة للقسمة، و بأن الأمة ليست سفيهة حتى نحجر عليها، و العدالة و التنمية مجرد أقليتها ، و بأنه لا خير في ديمقراطية لا يجد كل الناس أنفسهم فيها ، وبأنه في ظرف وطني و دولي عصيب كهذا لا محيد عن تعبئة و تحفيز أقصى ما يمكن من أفراد و مكونات الأمة...لحماية الأمة و الدولة و الديمقراطية و التنمية...فإنه يكفيه عزة أنه قد أطلق فكرته و انتصب مدافعا منافحللموقع الذي قد "يجنيه" حال إعمالها ...لأن غايته أسمى من كل المواقع (الزائلة مهما طال احتلالها ) . غايته الديمقراطية بما هي سيادة للأمة و ليست غنيمة للقسمة.