إن المعضلة البنيوية بالنسبة لكل حزب سياسي (ليس في المغرب فقط بل في العالم بأسره)، هي أنه اسير تناقض موضوعي دائم لا مفر منه. فحينما نتحدث عن حزب حقيقي (مع استثناء الأحزاب الإدارية) ،فنحن نتحدث عن حزب خرج من رحم المجتمع و معاناته ليعبر عن مصالح طبقة اجتماعية و تطلعاتها و آمالها ،لكنه في الآن ذاته هو مؤسسة سياسية في طور النشأة و التشكل، تسعى للوصول إلى السلطة و احداث تغيير ما في بنيتها و اسلوب عملها. أي بالمعنى الدقيق هو مشروع دولة جنينية كما يصفه المفكر الراحل أيوب بوغضن رحمه الله. يتغول هذا المأزق بعد الوصول لمراكز صناعة القرار السياسي و حينها يجد أي حزب نفسه بين نارين : بين الوفاء للوعود التي قطعها و الشعارات التي رفعها ( الديمقراطية، توزيع عادل للثروة، محاربة الفساد)، أو التماهي مع بنية الدولة القائمة و مؤسساتها إذ يصطدم بتحديات موضوعية متعلقة بموازين القوى السياسية و كون الشعارات المثالية الاجتماعية يستحيل ترجمتها لسياسات عمومية ناجعة فهي لم تكن سوى خطاب إيديولوجي لاستمالة الجماهير . ماهي النتيجة اذا؟ : تتآكل شعبية الحزب ( أي حزب) و تتراجع قدرته على خوض المعارك الشرسة و التي تتطلب قدرا من التضحية و نكران الذات و تَمثل قيم النضال فيخلف وعوده للطبقة الاجتماعية التي أفرزته. و يصير مرتهنا لحسابات "الفوق" أي حسابات إدارة الدولة، فيتعرض لعملية تجفيف منابعه الاجتماعية و يفقد بريقه ثم يموت ببطء. يا لها من قصة مأساوية. لم يشذ حزب العدالة و التنمية عن هذه القاعدة النظرية، فهو كذلك كان جزءا من هذه القصة. غير أنه لم يكن ضحية هذا التناقض الموضوعي فحسب، بل كانت هناك معطيات ذاتية حاضرة بقوة في عملية الاجتثاث و التدجين هذه. لأن الفاعل الحزبي حينما يكون مترددا، مفتقدا لرؤية مستقبلية واقعية يصير سهل المنال أمام اغراءات السلطة المزيفة و التعويضات المادية. وتجد الجماهير نفسها أمام نخبة مأجورة، فاقدة للمصداقية و تقدم على تنازلات بالجملة تبررها لاحقا بخطاب أبعد ما يكون عن معايير المنطق. في نظري ، هكذا فقدَ حزب العدالة و التنمية قدرته على التفاوض و لايزال ، نتيجة لفقدانه أولا شرعيته السياسية و الأخلاقية. منذ تأسيسه و إلى حدود 2011 كان حزب العدالة و التنمية يشكل باعتباره الامتداد الطبيعي للحركة الإسلامية في الحقل السياسي، الأمل الوحيد المتبقي لدى الطبقة الوسطى في تحصين مكتسباتها و حقوقها و الدفاع عن مطالبها الرئيسية، خاصة و أنه لا يجافي وجدانها الجماعي كونه يتبنى مرجعية إسلامية تعكس الميول المحافظة لدى الشعب المغربي. و بعد ولوجه ل "مربع العمليات" كان الأستاذ عبد الإله بنكيران يلعب جميع الأدوار الممكنة بذكاء سياسي منقطع النظير ،فأحيانا يلعب دور رئيس الحكومة المدافع عن امكانات الدولة و رصيدها و تارة يلعب دور المعارض، الذي يخوض المعارك لأجل البسطاء ، الذي يرجع لعقد ازدياده و لا يتنكر له. و في تقديري كانت تجربته في التوفيق بين الوصول لمراكز صناعة القرار و الحفاظ على هوية حركته الاجتماعية دون أن يلحقها اذى كبير نموذجا يستحق الدراسة و البحث فهو قد نجح إلى حد ما في تخطي التناقض الذي ذكرناه فيما قبل . لقد كان ما يسمى بالبلوكاج الحكومي محاولة لجس النبض و امتحان عسيرا للحزب، إما تدجين نهائي أم انتصار تاريخي للحزب له ما بعده. فبعد استماتة ذ. بنكيران ضد قبول شروط سياسية يراها مجحفة للحزب و لمسار الانتقال الديمقراطي ، تم اللجوء إلى الثغرات التي يمكن من خلالها التلاعب بالتماسك الداخلي للحزب. وهنا نستحضر المعطى الذاتي الذي كان عاملا حاسما في موت سريري للفكرة و الجوهر في خفوت القضية و أفول المعنى ، في تبني القيادات لرهانات فردية متعلقة بالارتقاء المادي و المعنوي، في جعل حركة اجتماعية أضحت غريبة عن الحامل الاجتماعي الذي اوصلها إلى مؤسسات الدولة و اصبحت استقلاليتها أمرا ثانويا بالنسبة للقيادة، و لعل مصيرها سيكون بهذه الوتيرة ذاتها على غرار الحركة الاتحادية التي تحولت من محتضن لأحلام المغاربة بعد الاستقلال و مدرسة للنضال الديمقراطي إلى ملحقة سياسية تعرضت للاختراق الشامل و ظلت عبارة عن هياكل تنظيمية جوفاء. اذا كان المصير نفسه ينتظر كل من يسعى للمشاركة السياسية دون استثناء، و أن أي حزب لا مناص له من التناقض الموضوعي السالف ذكره، فما الذي يصنع الفرق؟ إنها المقاومة وحدها و لا شيء آخر غيرها يصنع الفارق و لعل مرحلة 2011-2016 كان عنوانها الأبرز هو : المقاومة .