ونحن نخطو - قبل سنوات - الخطوات الأولى بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية وتحديدا بشعبة القانون بالعربية، كان لابد لنا من التوقف عند القواعد القانونية من حيث خصائصها ومقاصدها، قياسا لقواعد سلوكية أخرى كالدينية والأخلاقية وغيرها، قبل الجواز الآمن والسلس نحو الدراسة القانونية بكل فروعها ومستوياتها، وفهمنا وقتها ونحن نتعلم أبجديات القانون، أن القواعد القانونية هي قواعد سلوكية واجتماعية وعامة ومجردة وإلزامية مقرونة بجزاء، تتحكم فيها مقاصد ضبط السلوكات والتصرفات وتنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات بما فيها الدولة، واعتبارا لهذه الخصائص، أدركنا مبكرا أن القواعد القانونية يفترض أن تكون قواعد مجردة عن الأهواء والمصالح والحسابات الضيقة، حتى تكون معبرة عن واقع حال المجتمع مسايرة لقضاياه ومواكبة لتطلعاته واهتماماته، من منطلق أن قوة القاعدة القانونية وصلابتها، يبقى مرتبطا بمدى خدمتها لمصالح الأفراد والجماعات ومدى قدرتها على تحقيق العدالة والمساواة والإنصاف والإجماع، بعيدا عن كل أشكال اللغط أو الاحتجاج أو الرفض، وقبل هذا وذاك، مدى قدرتها على تكريس الأمن القانوني وتقوية الإحساس بالأمن والسكينة والطمأنينة. مناسبة هذا التقديم الموجز، ما حدث قبل أيام بمدينة طنجة، من جريمة بشعة غاية في التوحش تفصلها مسافات زمنية عن التحضر والتمدن، توقفت عندها عقارب الدين والإنسانية والقيم والأخلاق والحقوق والحريات، كاشفة عن سوءة ما بات يعتري المجتمع من مشاهد العنف والتعصب والتطرف والقساوة والتهور والعبث وانتهاك سلطة القانون، جريمة حيوانية غاب فيها الإنسان وعلا فيها صوت الحيوان، غاب فيها التمدن وحضر فيها التوحش والقساوة والتمرد على القانون والدين والأخلاق والقيم والأعراف والتقاليد، وبقدر ما حضرت مفردات التوحش والقساوة، بقدر ما حضرت مشاهد الإدانة والرفض والاحتجاج والغضب، وتوحدت الأصوات المستنكرة حول مطلب "الإعدام" للمشتبه فيه الذي تفنن في التغرير بقاصر والاستدراج والاختطاف وهتك العرض والقتل البشع والتخلص من الجثة بالدفن بدم بارد، دون اعتبار لبراءة الطفل "مروان" ولا لأحلامه البريئة والوديعة ولا لحال والديه وأهله وأصدقائه وذويه، ولا لتداعيات ما تم الإقدام عليه من تصرفات إجرامية على المجتمع وعلى النظام العام. ما أقدم عليه وحش "البوغاز" أو وحش "طنجة" من أفعال إجرامية جسيمة، لا يمكن البتة تبريرها أو محاولة التطبيع معها، مهما كان الدافع أو المبرر لا دينا ولا قانونا ولا أخلاقا ولا إنسانية، وما صدر من أصوات نشاز في محاولة لتبرير ما حدث، أو إدانة من رفع مطلب تطبيق عقوبة الإعدام، هي أصوات خارج النص والسياق والإجماع، مهووسة بالجدل وإثارة القلاقل والنعرات، ألفت السباحة ضد التيار رافعة شعار" خالف تعرف"، فما وقع للطفل "مروان" من اعتداءات همجية وحيوانية، هي جرائم معاقب عليها بموجب التشريع الجنائي الموضوعي، وضع لها المشرع جزاءات تصل حد الإعدام، ليس فقط لأنها أجهزت على الحق في الحياة الذي صانته مختلف الديانات السماوية والتشريعات الوضعية، بل لما سبقها من جنايات خطيرة (التغرير بقاصر والاستدراج وهتك العرض بالعنف ..) أفرزت اضطرابا مجتمعيا وعمقت الإحساس الفردي والجماعي بانعدام الأمن وبعدم جدوى القواعد القانونية لعدم قدرتها على الضبط والزجر والعقاب، أما من يطبلون لحقوق الإنسان أو يسترزقون بها ويضعون "العصا فالرويضة" أمام تنفيذ عقوبة الإعدام بمبرر حماية "الحق في الحياة"، نقول، ألم يمس وحش البوغاز بالحق في الحياة لما قرر وضع حد لحياة الطفل "مروان" بعد أن اعتدى عليه جنسيا وتخلص من جثته بالدفن؟ ألم يدمر بسلوكه الهمجي حياة أسرة بأكملها فقدت صغيرها بطريقة بشعة وبأسلوب حيواني؟ ألم يخلق حالة من الهلع والرعب وسط الكثير من الأسر التي بات يسيطر عليها هاجس الخوف على أبنائها من قناصي البراءة؟ أليس ظلما أن يهتك الجاني العرض ويقتل ويدمر أحاسيس أسرة بأكملها، وفي الأخير، تعبد له الطريق ليعيش آمنا مطمئنا يأكل ويشرب وينام وراء القضبان، على غرار "سفاح تارودانت" وغيره ممن تورط في الاعتداء على الطفولة بهتك العرض والاغتصاب؟ أي حديث عن حقوق الإنسان في ظل الاستئصال العمدي للحق في الحياة الذي يعد من أقدس الحقوق البشرية؟ وكيف يمكن للبعض المرافعة في جرائم ماسة بالحق في الحياة وفي ذات الآن يرفع يافطة حماية الحق في الحياة عبر المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام؟ لسنا في موقع المحامي لنترافع ولا في مكانة القاضي لنوزع صكوك الإدانة والاتهام، ولسنا من ذوي الاختصاص لننبش في حفريات علم الإجرام لوضع سلوك الجاني تحت مجهر التشريح، فما هو باد للعيان، أن وحش البوغاز وقع على جرائم منصوص عليها في القانون الجنائي ومعاقب عليها بمقتضاه، أفرد لها المشرع الجنائي عقوبات تصل حد الإعدام، ومن طالب بهذه العقوبة احتجاجا على الاعتداء الهمجي الذي طال الراحل "مروان"، فهو لم يطلب إلا بتطبيق القانون في النازلة قياسا لجسامة وخطورة الأفعال المرتكبة وتداعياتها على أمن المجتمع واستقراره، وإذا كان تنفيذ "الإعدام" معلقا بالمغرب منذ سنوات لدواعي حقوقية، فما اقترفه وحش البوغاز من جريمة بشعة اهتز لها الكبير والصغير، يسائل الجدوى من القواعد القانونية التي تبقى عاجزة كل العجز عن التصدي لظاهرة إجرامية آخذة في التنامي والتمدد (اختطاف الأطفال واغتصابهم وهتك عرضهم وقتلهم)، ويسائل محدودية التشريع الجنائي القائم، في حماية الأطفال من كل أشكال العنف والاعتداء، في ظل ارتفاع حالات الاختطاف والاغتصاب وهتك العرض، كما يسائل الحدود الفاصلة بين حقوق الإنسان وعلى رأسها "الحق في الحياة" والأفعال والتصرفات الجسيمة الماسة بالحق في الحياة .. في جميع الحالات، فقد رحل الطفل "مروان" رحمه الله إلى دار البقاء، تاركا أسرة مكلومة لا يعلم أنينها إلا الله رب العالمين، وأحلاما وديعة اغتصبها عنوة "وحش آدمي" هو الآن رهن الاعتقال، في انتظار ما سيستقر عليه حكم القضاء، في جريمة وحشية تألم لها الداني والقاصي وخلقت اضطرابا مجتمعيا قوى مرة أخرى الإحساس الفردي والجماعي بانعدام الأمن، ووسع قاعدة الجماهير المطالبة بتفعيل تنفيذ عقوبة الإعدام في بعض حالات القتل العمدي خاصة تلك التي تستهدف الأطفال الأبرياء، وبتشديد العقاب في حالات الإيذاء والسرقات بالخطف أو العنف باستعمال الأسلحة البيضاء، لما يحدثه ذلك من اضطراب مجتمعي ومن تراجع في منسوب الثقة في القانون والأمن والقضاء، وإذا كنا نميل إلى المقاربة القانونية والزجرية لكبح جماح الجريمة خاصة تلك التي تستهدف الطفولة، فمبررنا في ذلك، توسع نطاق حالات اختطاف الأطفال واغتصابهم وهتك عرضهم في السنوات الأخيرة، مما يفرض دق ناقوس الخطر حماية للأطفال الأبرياء من وحوش آدمية آخذة في التمدد والانتشار لم ينفع معها أمن ولا قانون ولا زجر ولا عقاب، طالما أن الجزاءات لا تخرج عن نطاق قضاء عقوبات محددة أو مؤبدة خلف القضبان توفر المأكل والمشرب والمبيت والاستحمام والرياضة والتعلم، دون اعتبار للضحايا ولا لذويهم، وهذا يفرض إعادة النظر في منظومة القانون الجنائي، بشكل يسمح بوضع قواعد قانونية صارمة وشجاعة قادرة على فرض هيبة القانون وحماية المجتمع من كل أشكال الإيذاء (ضرب وجرح باستعمال السلاح الأبيض، سرقات بالعنف أو بالخطف، قتل عمدي، اغتصاب، هتك العرض، اختطاف ...)، وفي ذات الآن، نؤمن بتعدد المقاربات لمعالجة ما بات يعرفه المجتمع من انحراف وعنف وجريمة مثيرة للقلق نتحمل جميعا مسؤولية تفشيها كدولة ومجتمع وأفراد وجماعات ومؤسسات تنشئة اجتماعية وعلى رأسها الأسرة والمدرسة والإعلام والأحزاب السياسية ودور الثقافة والشباب والرياضة وغيرها، ونقترح في هذا الصدد، فتح نقاش وطني متعدد الزوايا والأطراف حول السبل الممكنة التي من شأنها كبح جماح الجريمة بكل أشكالها ومستوياتها والتصدي لكافة الانحرافات التي من شأنها تهديد الطفولة والمساس بحقوقها. من يرفع يافطة حقوق الإنسان ويدافع عن الحق في الحياة بالمطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام، من يتغنى بالحداثة والحرية والحقوق الفردية، ندعوه ليستحضر صورة الطفل "مروان" كما رصدته بعض عدسات الكاميرا، وهو مستدرجا من قبل وحش آدمي في عمر والده، كان شغله الشاغل إشباع رغبته الحيوانية، ليتأمل في صورة طفل بريء يرتدي الكمامة خوفا من الوباء، دون أن يعي أن خطواته البريئة تقوده إلى من هو أخطر وأبشع وأقسى من الوباء، أن يستحضر ولو للحظات، حالة أسرته المكلومة وأن يقدر تداعيات الاختفاء والقتل والدفن على والديه، الذين عودونا على الخروج إلى الشوارع والمرافعة دفاعا عن قضايا الشذوذ والمثلية والإفطار العلني في رمضان والإجهاض وغيرها، لماذا خرست أصوات بعضكم في قضية الطفل "مروان"، إن لم تستطيعوا الإدانة والاحتجاج جهرا والمطالبة بتنفيذ أقسى العقوبات في حق الجاني، فعلى الأقل، التزموا الصمت وفرملوا عجلة أصواتكم النشاز، احتراما للروح الطاهرة لفقيد المجتمع الطفل "مروان" ومشاعر أسرته المكلومة، سائلين المولى عز وجل أن يشمله بواسع الرحمة والمغفرة وأن يسكنه فسيح الجنان، وأن يلهم والديه الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون. وقبل الختم، نشير إلى أن عجلة الحكاية لن تتوقف عند حدود حكاية الراحل "مروان"، فنحن على يقين أن كوفيد "البيدوفيليا" سيستمر في التمدد والتفشي في المجتمع، مهددا كالجمرة الخبيثة أجساد أطفال في عمر الزهور تارة بالخطف وأخرى بالتغرير والاستدراج، في ظل جرائم مرفوضة دينا وقانونا وأخلاقا وإنسانية، غالبا ما تنتهي على وقع صدمات الاغتصاب وهتك العرض والقتل البشع، والمشرع الجنائي يبقى مطالبا بالتحرك بعيدا عن المصالح والحسابات الضيقة، من أجل تنزيل قواعد قانونية صارمة قادرة على كبح جماح الجناة والمنحرفين والمتهورين والعابثين، صونا للطفولة وحماية للحق في الحياة، مع وجوب التنبيه، أن الظرفية تفرض توجيه البوصلة نحوى أشكال أخرى من ممارسات الاغتصاب أو هتك العرض، نلخص تفاصيلها في كل التصرفات العبثية التي تستهدف الوطن بالحلب والسلب والنهب والتهور وانعدام المسؤولية والريع والشطط والإثراء غير المشروع واللهث وراء المصالح والمكاسب، وفي النهاية هناك من ينتهك حرمة الجسد وهناك من يغتصب الوطن، ويمنعه من كل فرص النهوض والتقدم والرخاء، وكما ترافعنا عبر هذه السطور المتواضعة دفاعا عن الحق في الحياة وحرصا على حماية الطفولة، نترافع أيضا دفاعا عن الوطن الذي نتحمل فرادى وجماعات مسؤولية حمايته وصونه من عبث العابثين وطمع الطامعين وكيد الكائدين. ونختم بالقول : من ينتهك حقوق الإنسان ومن يغتصب الحق في الحياة ومن ينتهك حرمة الطفولة ومن يتحوز بالسيوف ويحدث الهلع في نفوس الناس ويعرضهم للإيذاء، ومن يدمر حياة الأسر، من العبث أن نخاطبه بلغة حقوق الإنسان، وإذا قيل "تنتهي حريتي حينما أمس بحرية الآخرين"، فنحن نؤكد نفس الطرح بالتأكيد "تنتهي حقوقي كإنسان لما أمس بشكل عمدي وجسيم وبشع بحقوق وحياة الإنسان"، ومن وصف - من حمل مطلب تنفيذ عقوبة الإعدام في حق وحش البوغاز- بالوحشية والعنف والثأر والانتقام، فصوته لن يكون إلا نشازا، في لحظة كانت تقتضي التزام الصمت على الأقل، احتراما لروح الفقيد "مروان" ومواساة لوالديه المكلومين واحتراما لحق المجتمع في الإدانة والاحتجاج والتعبير، وإذا لم تتبنوا معشر "الحقوقيين'' و"الحداثيين" مطالب الجماهير الشعبية وتترافعوا بمسؤولية دفاعا عن قضاياها وتعبيرا عن همومها ومشكلاتها، فعلى الأقل، لا توزعوا صكوك الاتهام بالوحشية والعنف والثأر والانتقام، ولا يسعنا إلا أن نجدد الرحمات لفقيد المجتمع "مروان"، مقدمين لوالديه ولأسرته خالص المواساة والعزاء وإنا لله وإنا إليه راجعون