ونحن نعيش حالة طوارئ صحية، تفرض الالتزام بما صدر عن السلطات العمومية من إجراءات وقائية وتدابير احترازية، وفي ظل تعقد المشهد الوبائي، الذي يقتضي التعبئة الجماعية والرهان على الوعي الفردي والجماعي للتصدي لخطر الفيروس التاجي، كانت مجموعة من الشوارع والأحياء عبر التراب الوطني، مسرحا لمشاهد الفوضى والرعب والشغب والعبث والتهور والانفلات، في ليلة "عاشوراء" أو ليلة "شعالة"، وهي مشاهد لامدنية تفصلها مسافات زمنية عن التمدن والتحضر، كانت أشبه بحرب حقيقية كما حدث في بعض شوارع العاصمة الرباط، سخرت فيها كل أدوات ووسائل الفوضى، من مفرقعات نارية ورشق بالحجارة وإضرام النار في الإطارات المطاطية، وقد بلغ التهور مداه والشغب منتهاه، بمهاجمة القوات العمومية بدون خوف أو حرج أو حياء، والتي وجدت نفسها وجها لوجه أمام أمواج بشرية من الشباب والأطفال الهائجين الذين تقاسموا الرغبة في خوض حرب "شعالة" في ليلة ليست ككل الليالي. ليلة عبث وانفلات بكل المقاييس، أسفرت عن إيقافه ما مجموعه 157 شخصا للاشتباه في تورطهم في أعمال الشغب والرشق بالحجارة ومقاومة عناصر القوة العمومية وإضرام النار في العجلات المطاطية بالشارع العام، وفي بلاغ لها في الموضوع، أفادت المديرية العامة للأمن الوطني، أن العمليات الأمنية، نتج عنها إصابة 17 موظفا للشرطة و11 عنصرا من القوات العمومية بجروح وإصابات جسدية مختلفة، نتيجة الرشق بالحجارة والمفرقعات النارية، وتسجيل خسائر مادية وتكسير الواقيات الزجاجية لثمان سيارات تابعة للأمن الوطني وسيارتين تابعتين للسلطات المحلية، علاوة على إحصاء عدد من الخسائر المادية بمجموعة من السيارات والممتلكات الخاصة، كما أفادت ذات المديرية العامة، أن العمليات الأمنية الاستباقية، مكنت من حجز العشرات من الإطارات المطاطية وحوالي ألف من الشهب والمفرقعات النارية التي كانت مهيأة للاستعمال في سياق الاحتفالات بهذه المناسبة. ما حدث في ليلة "شعالة" من شغب متعدد الزوايا، انضاف إليه ما شهدته الشوارع والزقاقات صباح "زمزم" من كر وفر وتراشق بالمياه والبيض وإحداث الفوضى و الاعتداء على المارة، وهي مشاهد مثيرة للقلق تفرض علينا دق ناقوس الخطر حول المستقبل، في ظل جيل متصاعد من الأطفال والشباب اليافعين، يعيشون حالة من الشرود والتيهان والتهور وانعدام المسؤولية، بشكل يجعلنا أمام جائحة حقيقية، ربما تفوق "جائحة كورونا" من حيث القوة والتأثير والتداعيات، فلا تعاليق على صور أطفال وشباب معظمهم إن لم نقل كلهم تلاميذ، وهم يعدون عدة "شعالة" بكل حماسة وتعبئة، من شراء للمفرقعات النارية وإحضار للإطارات المطاطية أمام أعين أمهاتهم وآبائهم وأولياء أمورهم، بدل الاستعداد للدخول المدرسي الاستثنائي، ولا توصيف لممارسات فاقدة للبوصلة تواجه القوات العمومية بالمفرقعات النارية والرشق بالحجارة وتلحق الخسائر المادية بالممتلكات العامة والخاصة وتحدث الفوضى والرعب في الشارع العام، ولا رد على صور صبية يتراشقون بالماء والبيض في صبيحة "زمزم". إنهم تلاميذ أو عينات من التلاميذ، سيلتحقون بالمدارس في غضون أسبوع، ونتساءل بحرقة، كيف يمكن الرهان على من اختير له "التعليم الحضوري" أن يلتزم حرفيا بالإجراءات والتدابير الوقائية والاحترازية داخل الفضاءات المدرسية وخارجها، وأن يواظب على الحضور والمثابرة والتحلي بقواعد الالتزام والانضباط، وكيف يمكن التعويل على من اختير له "التعليم عن بعد" أن يتملك مفردات الإحساس بالمسؤولية والانضباط والمواظبة على متابعة الدروس عن بعد والتمرس على التعلم الذاتي، بل كيف يمكن الإسهام في ضمان دخول مدرسي سلس ومرن وفي إنجاح سنة دراسية برمتها،"نماذجها التربوية" قابلة للتغيير والتكييف، في ظل وضعية وبائية مثيرة للقلق، تفرض أن تتحمل الأسر مسؤولياتها المواطنة في مواكبة وتتبع أبنائها في تعلماتهم "حضورية" كانت أو "عن بعد"، لكن واعتبارا لما شهدته الكثير من الشوارع والزقاقات ليلة "شعالة" وصباح "زمزم"، نكاد نجزم أن الكثير من الأسر تراجعت أدوارها التربوية، إن لم نقل يمكن إعلانها "مؤسسات مفلسة"، فالأسر التي لم تستطع التدخل لكبح جماح ابنها وهو يعد العدة رفقة أقرانه لإحياء طقوس "شعالة" و"زمزم" هي أسر "فاشلة" بكل المقاييس، لا تجيد إلا "التفريخ" و لاشئ غيره. ولن ننبش في حفريات هذه الممارسات المؤلمة، التي تسائل السياسات العمومية في المجالات التربوية والثقافية والرياضية، كما تسائل الكثير من مؤسسات التنشئة الاجتماعية (الأسرة، دور الشباب والثقافة والرياضة، الإعلام، الأحزاب السياسية، المؤسسات الدينية ...) ونترك ذلك لذوي الاختصاص، فما هو باد للعيان أن الواقع مقلق والمستقبل لا يبشر بالخير، والمدرسة بمفردها، لايمكن قطعا تحميلها وزر فشل المنظومة السياسية والمجتمعية بكل درجاتها ومستوياتها، ولن نعول كثيرا على أي نموذج تربوي في هذا الزمن الاستثنائي، مهما تم التطبيل أو التصفيق أو إشهار أسلحة الأرقام والمعطيات التي لايمكنها قطها حجب الحقيقة المرة، فمهما كانت نجاعة المنظومة التعليمية، فلن تحقق أهدافها ومقاصدها، في ظل إفلاس الكثير من المؤسسات الاجتماعية وعلى رأسها الأسر، واعتبارا للفوارق الاجتماعية والتفاوتات المجالية الصارخة التي لازالت تكرس مقولات "المغرب العميق" و"مغرب الهامش" الذي تحضر مشاهده في العالم القروي والقرى النائية والمداشر والجبال العالية، وهناك يصبح "الحق في التعلم" نوعا من "الترف" في مسرح الفقر والبؤس والهشاشة والإقصاء والنسيان. وعليه، ونحن نعيش أجواء الدخول المدرسي المرتقب، لابد من وضع النقط على الحروف ولامناص من قول الحقيقة ولو كانت قاسية أو مؤلمة، كما أشار إلى ذلك خطاب الذكرى العشرين لعيد العرش الذي انتظر من "اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي" أن تباشر عملها بكل تجرد وموضوعية في إطار قول الحقيقة، فواقع حال المنظومة التعليمية لايسر الناظرين، ولايمكن إخفاء ما يعتري المشهد التعليمي من مظاهر القصور والبؤس والمحدودية، بمجرد تبني خيار "التعليم عن بعد" أو بالترافع بعدد الأقسام الافتراضية أو بما تم كسبه من موارد رقمية غير مسبوقة، أو بإثقال كاهل نساء ورجال التعليم بالمزيد من الأعباء، فاللحظة، تقتضي اكتساب مفاهيم الخلق والإبداع والابتكار في زمن الاستثناء، وتملك القدرة على إيجاد الحلول الممكنة والخلاقة التي من شأنها الإسهام في إحداث ثورة تعليمية ناعمة، تطال المناهج والأطر المرجعية للامتحانات وأساليب التقويم وطرائق التدريس، واللجوء الذي لامحيد عنه إلى الخيارات الجهوية لتذويب جليد جائحة كورونا وتداعياتها على المنظومة التعليمية، وإعادة الاعتبار للقواعد (أكاديميات جهوية، مديريات إقليمية، مؤسسات تعليمية، مجالس تربوية، مجالس تعليمية، مجالس الأقسام) لصناعة القرار التربوي المحلي الذي ينسجم ويتناغم مع الخصوصيات المحلية، وتملك الجرأة في إعادة النظر في الزمن المدرسي عبر تخليص البرامج من مخالب "الكم" (العبرة في الكيف وليس في الكم)، وإذا كانت بعض الحلول من صميم مسؤوليات الوزارة الوصية على القطاع، فإن حلولا أخرى تتجاوز سقف الوزارة وتحتاج إلى إحداث شراكات مع فاعلين آخرين (الجماعات الترابية وعلى رأسها مجالس الجهات، قنوات الإعلام العمومي، شركات الاتصالات، دور الثقافة والشباب والرياضة ... إلخ)، بشكل يسمح بالإسهام الإيجابي في دعم القطاع بكل السبل والإمكانيات المتاحة، من منطلق أن "التعليم" هو شأن "دولة" وشأن "مجتمع" وليس شأن "حكومة عابرة" أو "وزارة وصية". تلاميذ "شعالة" قد ندينهم باسم القانون والدين والأخلاق، لما صدر عنهم من ممارسات "مرفوضة'' مهما كان المبرر، وقد ندين أمهاتهم وآبائهم وأولياء أمورهم الذين لم يتحملوا ما عليهم من مسؤوليات وواجبات تربوية، وقد ندين أيضا المؤسسات الاجتماعية "المفلسة" أو "شبه المفلسة" و"تجار المفرقعات"، لكن الحقيقة التي لايمكن تجاهلها أو تجاوزها، هي حجم ما يعانيه نساء ورجال التعليم كل موسم دراسي داخل الحجرات الدراسية، من ضغط نفسي وتوتر وقلق وعنف، في ظل عينات من التلاميذ أو "أشباه تلاميذ" يتقاسمون مشاهد التراخي والتهاون والفشل والشغب والتهور، ضبطهم يستنزف الطاقات والقدرات، وفي ظل جائحة "كورونا" التي حملت القلق والتعب والإرهاق للأسر أثناء توقف الدراسة الحضورية وتبني خيار "التعليم عن بعد"، تبين بالملموس محورية نساء ورجال التعليم ومكانتهم التربوية والاجتماعية، ولايمكن ترك الفرصة تمر، دون التنبيه إلى ما بات يعتري مهنة "المدرس(ة)" من مشاهد القلق والإحباط واليأس والتوجس وانسداد الأفق، وهي المشاهد التي تعمقت بؤرتها في ظل جائحة "كورونا" التي لم تحمل للأساتذة إلا المزيد من المسؤوليات والأعباء "حضوريا" و"افتراضيا"، لذلك، فمن الصعب في الوقت الراهن، فتح نقاشات جانبية بخصوص الدخول الدراسي الجديد أو بشأن النماذج التربوية المحتملة، ما لم تحضر الجرأة في فتح ملف الشغيلة التعليمية بكل مستوياتها والشجاعة في معالجة كل المشكلات العالقة التي ألهبت جمر الاحتقان في السنوات الأخيرة، في ظل نظام أساسي جديد "محفز" و"ناجع" و"منصف"، يعيد الاعتبار لنساء ورجال التعليم الذين يعدون محرك الإصلاح وصمام أمانه، فكفى "تبخيسا" و"تقزيما" و"تحقيرا"، وفي انتظار تغير الوضع، نتمنى عودة ميمونة لنساء ورجال التعليم في دخول استثنائي، وسنة دراسية لاأحد يتوقع اتجاهاتها ومساراتها في ظل وضعية وبائية مقلقة، أما تلاميذ "شعالة"، فالأمل أن يقلعوا عن طباعهم وممارساتهم السيئة، ويستعدوا لموسم دراسي، لا يؤمن إلا بلغة المثابرة والجدية والمواظبة بعيدا عن صخب "شعالة" وهرج "زمزم" ... [email protected]