باقتراب قطار “حالة الطوارئ الصحية” من محطة “10” يونيو، نكون قد قضينا ما مجموعه ثمانين “80” يوما بالتمام والكمال رهن اعتقال ” حجر صحي” لم يحمل من الصفة سوى “الاسم”، في ظل ما لوحظ ويلاحظ في الكثير من المدن، من حالات العبث والتراخي والإقبال على الشوارع والحدائق والشواطئ والأسواق الشعبية وانتشار كاسح للباعة المتجولين عبر الشوارع والزقاقات، ويكفي إلقاء نظرة على شارع عمومي أو حي شعبي أو سوق شعبي، ليتبين منذ الوهلة الأولى، أننا أو على الأقل، “البعض منا” يعيش حياة أشبه بالاعتيادية، بعيدة كل البعد عن احترام حالة الطوارئ الصحية وما تقتضيه من التزام المنازل، وعدم الخروج إلا للضرورة القصوى، واحترام التباعد الاجتماعي (الجسدي) ومسافات الأمان والتقيد بقواعد الصحة والسلامة و وضع الكمامات، ومن خروج للشوارع في عدد من المدن، احتجاجا على عدم تلقي الدعم، ولم تتوقف عجلة الخرق أو الانتهاك عند حدود “حالة الطوارئ الصحية”، بل امتدت حتى لحالة “حظر التجول الليلي” الذي لم يسلم بدوره من “كوفيد” التهور والعبث وانعدام المسؤولية، في ظل تراجع الفعالية الأمنية والإدارية في الإيام الأخيرة، بالمقارنة مع الأسبوع الأول لفرض حالة الطوارئ الصحية. بالوصول إلى محطة 10 يونيو، يرتفع مرة أخرى منسوب الترقب والانتظار، في ظل تضارب المعلومات حول إمكانية تمديد ثالث للحجر الصحي، في انتظار إطلالة السيد رئيس الحكومة بالبرلمان، ليقطع الشك باليقين، ويحدد معالم خارطة طريق ما بعد الرفع، وسواء تعلق الأمر بالرفع التدريجي أو بالتمديد لمرحلة ثالثة، لا بد أن نشخص حصيلة ما تحقق خلال ثمانين يوما من حالة الطوارئ بتمامها وكمالها، في ظرفية خاصة واستثنائية، فرضت علينا جميعا (دولة، مؤسسات، مجتمع مدني، أفراد) التموقع في تجربة “غير مسبوقة” و “غير مألوفة” في تاريخ المغرب المعاصر، وضعتنا بشكل فردي وجماعي أمام اختبار صعب وشاق، بالقدر ما نجازف في القول أننا حققنا عدة مكاسب، أطلقت العنان للقدرات الذاتية ولما نتملكه كمغاربة من قيم التعاون والتعاضد والتضامن، ومن ملكات التميز والإبداع (إغلاق الحدود، إحداث صندوق تدبير جائحة كورونا، تحول الكثير من شركات النسيج إلى إنتاج الكمامات، في وقت عانت فيه الكثير من الدول المتقدمة من أزمة الكمامات، انخراط مصالح الصحة العسكرية في الحرب ضد “كورونا”، خلق بوابات إلكترونية للدعم الاجتماعي والاقتصادي، إحداث تطبيقات إلكترونية، تصنيع معدات ومستلزمات طبية من طرف كفاءات مغربية خالصة، انخراط المجتمع المدني في ممارسات تضامنية متعددة المستويات، فتح مجموعة من الوحدات الفندقية أبوابها رهن إشارة الأطباء والممرضين ..، تأمين الأمن الغذائي، حضور قوي للسلطات الأمنية والإدارة الترابية، التقيد بالتعليمات والضوابط الصادرة عن السلطات العمومية (رغم ما تم تسجيله من مشاهد العبث والتراخي)، انخراط قوي للإدارات في “الرقمنة”، انخراط نساء ورجال التعليم في عملية “التعليم عن بعد”، بروز صحافة مهنية وأخلاقية تحملت مسؤولياتها المواطنة في الإخبار والتوعية والتحسيس… لكن في نفس الآن، لابد أن نعترف أننا أخفقنا في جوانب كثيرة، تجلت معالمها في إطار التدبير اليومي للجائحة منذ فرض حالة الطوارئ الصحية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: محدودية منظومتنا الصحية والتعليمية، هشاشة القطاع غير المهيكل، غياب أية منظومة أو سجل اجتماعي من شأنه استهداف الفئات الاجتماعية المتضررة، حرمان الكثير من المواطنين من الدعم المادي، اختلالات شابت عمليات تسليم المساعدات الغذائية (القفف)، سوء تدبير ملف المغاربة العالقين بالخارج، الجشع الذي عبرعنه “بعض أرباب المدارس الخصوصية”، عدم إيلاء أهمية خاصة لسكان المغرب المنسي أو العميق، حيث تحضر بقوة مفردات الفقر والبؤس والهشاشة، غياب أية رؤية بخصوص دعم الفلاحين خاصة الصغار منهم، في ظل حالة الجفاف، دون إغفال الصناع التقليديين، عدم التحرك لدعم وتتبع بعض الفلاحين الذين فقدوا محاصيلهم الزراعية نتيجة الأمطار الرعدية، اتخاذ قرارات حكومية خارج النص (تسريب “مشروع القانون المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة، المصادقة على النظام الداخلي للمجلس الوطني للصحافة، الذي كشف عن التعويضات المخولة لفائدة أعضاء المجلس الوطني للصحافة، عوض الانكباب على تنزيل السجل الاجتماعي الموحد) …إلخ. وعليه، فالإشكال المطروح أمامنا في الوقت الراهن، ليس هو رفع الحجر الصحي تدريجيا أو تمديده اضطراريا، ولكن في قدرتنا على تجاوز ما تم تسجيله من نواقص واختلالات، لابد أن يتم استحضارها فيما ستتخذه الحكومة من تدابير وإجراءات، ليس فقط عبر الإسراع بعرض قانون مالية تعديلي أمام البرلمان يواكب رحلة العودة التدريجية للحياة الطبيعية، ولكن أيضا عبر استخلاص الدروس والعبر التي جادت بها جائحة “كورونا”، بشكل يسمح ببلورة نموذج تنموي جديد، نابع من عمق الأزمة الكورونية التي كشفت عن سوءة ما يعترينا من عيوب ونواقص بادية للعيان .. نموذج تنموي لابد أن يكون نموذجا مغربيا-مغربيا خالصا، عاكسا لواقع الحال، وهنا لابد أن نوجه البوصلة نحو “اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي”، لنذكر بما سطره لها جلالة الملك محمد السادس في خطاب الذكرى العشرينية لعيد العرش، من خارطة طريق واضحة المعالم، تتأسس على مفردات الخبرة والتجرد والموضوعية والقدرة على فهم نبض المجتمع وانتظاراته، واستحضار المصلحة العليا والشجاعة والابتكار في اقتراح الحلول، وفي هذا الصدد، نرى أن جائحة “كورونا” بالقدر ما أربكت وأزعجت، بالقدر ما قدمت النتائج والخلاصات التي كانت تبحث عنها اللجنة، ولا ينقص الآن، سوى الجرأة في قول الحقيقة، والقدرة على فهم النبض وتقدير الانتظار وتملك كفاية الخلق والإبداع والابتكار … عسى أن نتملك نموذجا تنمويا جديدا مغربيا “خالصا”، يتأسس على لبنات “منظومة صحية قوية” و”تعليم ناجع وفعال” يعول عليه للرفع من منسوب الوعي الفردي والجماعي، و”اقتصاد متحرر من الأجنبي”، يطلق العنان للكفاءات والقدرات، و”بحث علمي رائد” يحرك عجلة التقدم والنماء، و”مجتمع متماسك” تحضر فيه مفردات التضامن والعدالة الاجتماعية، يقطع بشكل لا رجعة فيه مع مشاهد العبث وممارسات الريع والفساد بكل امتداداته، و”إعلام مهني وأخلاقي” يواكب إيجابا ما تعرفه البلاد من دينامية وتحولات ويرتقي بمستوى الأذواق، ويقطع مع مفردات التفاهة والسخافة والانحطاط … ونختم بالقول، أن المرحلة القادمة تحتاج إلى “الوعي” الفردي والجماعي، الذي يعد المسلك الوحيد والفريد، لمواكبة – ليس فقط – ما سيتم تنزيله من بروتوكولات وسيناريوهات للخروج التدريجي من “عنق زجاجة ” الجائحة، بل لبناء المستقبل بثقة وثبات، في ظل نموذج تنموي مرتقب، يعول عليه لتخليص البلاد والعباد من مخالب العبث وأخواته …