حتمت الثورات الرقمية والتحولات التكنولوجية التي شهدها العالم تربع الإعلام الإلكتروني على عرش الآليات والوسائل الأكثر تأثيرا في الأفراد، فمواقع التواصل الاجتماعي انتقلت من مجرد منصات تحقق وظائف اجتماعية تتجسد في التعارف والدردشة ، الى ميدان تندلع فيه حروب فكرية إيديولوجية وساحات تتم فيها تصفية الحسابات السياسية بين الفاعلين والدول . فنجد كل جهة لا تتردد في الانتصار لاهدافها وماتروم تحقيقه من غايات ، محاولة التأثير على الرأي العام وتوجيه قناعاته وتشكيل وعيه حسب ما يتناسب وسياستها . فالتدوينات والوسوم والمقاطع تتم صياغتها وصناعة محتواها بعناية تامة وبشكل ممنهج ليكون وقعها على المتلقي كالرصاصة السحرية . إنها حرب حقيقية سلاحها عبارة عن حملات إعلامية ودعائية تستلب العقول وتمارس التعتيم والتضليل وساحتها منصات الإعلام الاجتماعي. أما جيشها فهو عبارة عن ذباب الكتروني في استعداد دائم لشن هجمات و التسبب في اندلاع مواجهات في الحيز الافتراضي . الذباب الإلكتروني ، التعريف وآليات الاشتغال الذباب الإلكتروني هو عبارة عن حسابات وهمية مبرمجة وموجهة باتجاه معين، وبطرق ممنهجة تدار عن طريق برمجيات ومواقع تقوم بكتابة التعليقات والإعجابات وإعادة التغريد تلقائياً، حيث تعمل على إنشاء وسوم (هاشتاغات) واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي للدفاع عن وجهة نظر معينة، أو الهجوم على وجهة نظر مخالفة ، ضد أشخاص أو دول بهدف التأثير على الرأي العام وقد عرفت السنتين الأخيرتين ظهور هذا النوع من الحروب على منصات ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث دارت رحاها بين عدة دول وتم تجييش لها “جيوش إلكترونية ” أسلحتها حواسيب و أجهزة رقمية توجه مدفعيتها الإفتراضية اتجاه الخصوم لدك حصونهم العقدية و الفكرية من خلال تسليط ما يعرف ب “الذباب الإلكتروني” عليهم ،وصرفت أموال طائلة لإنشاء آلاف من الحسابات الوهمية تدافع عن طرح الجهة الموالية لها و تعمل على ترويج و نشر أفكارها للتأثير على الرأي العام و إضفاء الشرعية على الأطروحة المتبناة من كل طرف. يعمل الذباب الإلكتروني على إنشاء ونشر وسوم تدعم الأفكار التي يريد الترويج لها وفي نفس الوقت تقوم بمهاجمة الوسوم المعاكسة لها من خلال اغراق مواقع التواصل بمحتوى وأفكار معارضة لتحقيق التفوق من حيث النشاط وعدد المنشورات، وشن حملة اشاعات منظمة مع استبدال القضية الرئيسية بإثارة قضايا ثانوية، بمعنى خلق أزمة افتراضية وجعلها تبدو وكأنها قضية رأي عام وتمثل رأي الأغلبية. أما عن المحتوى الإعلامي فقد انزلق خارج ضوابط العمل الصحفي والإعلامي بضوابطه المهنية التي تعلمها الصحفيون في معاهد التكوين الإعلامي، إذ في الغالب لا تكون هناك لقيادات أو لذباب الجيوش الإلكترونية أي صلة بالعمل الإعلامي الصحفي، فالمحتوى تتم صياغته بشكل ممنهج يخدم مصالح معينة وجهات محددة تعمل عبر الهاشتاغات والوسوم والمقالات والصور التي قد تكون مفبركة لرسم اتجاه معين تسير فيه الجماهير الافتراضية وتدافع عنه بخصوص الواقعة. وعبره تشكل الرأي العام وتصنعه صناعة تعتمد فيه على تغيير المفاهيم وقلب الحقائق وتزييف الوقائع. كما تتحكم فيه توجهات متضاربة، ومصالح سياسية متباينة. يحاول كل منهما الانتصار لروايته ليخدم بذلك غاياته التي تجاوزت تمرير المعلومة للمتلقي إلى محاولة الهيمنة على تفكيره وتوجيهه. مما جعل الوظيفة الأساسية من وراء هذا التفاعل ليس فقط وظيفة إخبارية تهدف إلى تنوير الأفراد وتزويدهم بالمعلومات الكافية حول الواقعة ، بقدر ما أن للأمر علاقة بصناعة رأي عام افتراضي ومحاولة تشكيل قناعاته وفق ما يتناسب وسياسة ومصالح كل جهة . الذباب الإلكتروني لمواجهة الثورات العربية بعد اندلاع الثورات العربية وتفطن عدد من الأنظمة في المنطقة لخطورة و أهمية وسائل التواصل الاجتماعي وفي ظل رغبتها الشديدة في التصدي لتلك الثورات ، قامت أغلبها بإعادة ترتيب حساباتها من خلال اعتماد نفس الوسائل التي استعملتها الجماهير لإنجاح ثورتها . لأجل ذلك قامت بإنشاء مؤسسات مختصة في صناعة البروباجندا السياسية ، تشتغل من خلال خلق آلاف الحسابات الوهمية على الفيسبوك وتويتر وإغراق المشهد بآلاف الحسابات التي تقوم باختراع الأكاذيب وصنع الدعايات والإشاعات التي هي في غالبها تركز على مخاطبة الجانب الساذج في الوعي الجمعي وخلق قضايا وهمية لإشغال الرأي العام والتحكم فيه , فأصبح العالم الافتراضي يحدد حيزا مهما من وعي المواطنين اليوم ، إن كان وعيا زائفا بحكم أن الأفكار الرائجة في وسائل التواصل الاجتماعي هي أفكار القوى المتصارعة التي تهدف إلى السيطرة على العقول و خلق مجتمع نمطي يفكر بطريقة آلية و مبرمجة . مواجهة الذباب الإلكتروني لمواجهة ظاهرة الذباب الإلكتروني، طورت الشركات المشرفة على وسائل التواصل الإلكتروني مجموعة من التقنيات والخوارزميات الخاصة تهدف إلى التحقق من الحسابات ما إذا كانت وهمية أم لا و مدى صدقية المحتوى المنشور لأجل محاربة الأخبار الكاذبة والصور والفيديوهات المفبركة حيث أصبحنا نسمع بشكل دوري عن حملة إيقاف لمجموعة من الحسابات الوهمية او الحسابات التي تروج لأخبار كاذبة. حيث رصدت “تويتر” آلاف الحسابات التي تعمل بشكل آلي، وصعدت حسابات قطرية و سعودية من حدة انتقادها ل”تويتر” بعد أن أغلقت المنصة نحو 8 آلاف حساب، اتضح أنها تعمل ضمن لجان إلكترونية منظمة يديرها مصدر واحد. كما أن موقع التواصل الاجتماعي الأمريكي “فيسبوك”، قام بإزالة مئات آلاف الحسابات الوهمية والمضللة حول العالم، معظمها في أوروبا ووضعت البريد الإلكتروني للحسابات الوهمية المرصودة ضمن القائمة السوداء للشركة؛ لمنع أصحابها من إنشاء حسابات أخرى على مواقع الشركة المشابهة، وأولها “إنستغرام”.، كما طور الموقع نظاماً أمنياً يتتبع من خلاله مجموعة من الحسابات الوهمية ويرصد نشاطها، من أجل حماية مستخدمي شبكته من الخداع، والتضليل، والأخبار المزيفة. يمكن القول اذن أن الذباب الالكتروني أصبح من الوسائل التي يستخدمها أصحاب المصالح من أجل تحقيق أهداف سياسية معينة، فتتبع سلوكيات بعض الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، تفاعلاتها مع الأحداث وطرق مواجهتها للخصوم الافتراضيين، كلها ظواهر تستدعي البحث والدراسة من أجل بناء تصور علمي ودقيق كيفية تأثير هذه الآليات الرقمية على الرأي العام وقدرتها على التحكم في توجيه “هذا الرأي العام” في اتجاه معين وإبعاده عن آخر توجيها محكما بعناية ومخطط له بشكل يتلاءم ومشيئة الطرف الموجه بكسر الجيم. *مهندس / باحث في العلوم السياسية