الحلقة 5 المنطلق قوله تعالى: “وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى، قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إني لك من الناصحين”، وذلك أنه لما سمع القبطي بما باح به الإسرائيلي هرع إلى قومه يخبرهم بأن القاتل هو موسى عليه السلام. فأخذت الحمية آل فرعون وعقدوا جمعهم وأمرهم على قتل موسى كما هي سنتهم في القتل. فما كان من هذا الرجل إلا أن أفسد جمعهم وخطتهم، وأسرع إلى موسى ينصحه الخروج من المدينة، فاستجاب موسى وخرج منها خائفا يترقب ويدعو الله أن ينجيه من القوم الظالمين. الدروس والعبر إن الدروس المستقاة من هذه الآية الحادثة، هي أن الباطل مهما ظهر مجتمعا، ومهما حاول أن يظهر منسجما، متحدا؛ فإن ميزته الأساس هي التخبط والعشوائية حين الاستناد إلى الأهواء وتغييب القوانين. ولهذا فعندما تحدثنا في حلقة سالفة عن فرعون؛ الذي انسلخ من طبيعته البشرية إلى تقمص دور الإله؛ كانت النتيجة بالتعقيب كثرة الفساد، فالطغيان لا يعقبه إلا الفساد” الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد”. والفساد هو وصف جامع لما تنتهي إليه الأشياء حين تختل قوانينها، فلا تستند إلى طبيعتها ولا ما يجب أن تسير إليه، ولكن إلى ما يتوافق مع هوى الأفراد والجماعات. وقياس تعطل القوانين في جسد الدولة لا يشابهه إلا تعطل جريان الدم في جسم الكائن، فيصيب الأجسام الشلل، والأسقام، والكسل، كما يصيب جسد الدولة الشلل، والأسقام وسوء التقدير والخصام والفصام. وهذه طبيعة دولة فرعون الطاغية حيث الاحتكام إلى الأهواء والشهوات والرغبات المتعددة ..إن سعيكم لشتى ..وما أمر فرعون برشيد. لقد تآمر الملأ على قتل موسى الإسرائيلي، وظنوا أنهم كتلة منسجمة موحدة، على الأقل في هذا القرار الانتقامي، لكن يشاء القدر كما في كل مناسبة أن تفضح المجامع الباطلة وغير المنسجمة، ويطالها التسريب، والفرقة، والتلاوم، والتبارؤ؛ لأن الحق واحد والأهواء متعددة، ولأن النور واحد والظلمات متعددة، ولأن سبيل الإصلاح واحد وسبل الفساد شتى. ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت الأرض والسماوات ومن فيهن. في حديث آخر”تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون” فأفعال القلوب شتى لأن مردها إلى الأهواء المتعددة، وعندما تمرض القلوب والنفوس تضطرب معها العقول وتفقد صوابها. والختم إنما يكون على القلوب لا على العقول ” ختم الله على قلوبهم”” إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب”. إن الرجل الذي جاء يسعى إلى موسى ونصح له، نحن ننظر إليه رجلا صالحا، ولكنه في الطرف الآخر رجل ‘منافق'. والنفاق عيب وآفة وعاهة المجامع والمجتمعات، وحين يكثر المنافقون والأفاكون داخل السلطة وخارجها؛ فإنما مثل ذلك كمثل العصا الغليظة تراها فتعجب بها، وتطمئن إليها، وتتخذها سندا، ومتكأ، وعمادا، ودعامة؛ حتى إذا جاء الميعاد فإذا هي منسأة كمنسأة سليمان تنخرها دابة النفاق. فكذلك الأوطان تقوم بصحيحها ولا يصح إلا الصحيح. والناس ليسوا سواء، ومنهم الذين مهما انغمسوا في الباطل بسعيهم؛ فإنه يبقى فيهم بقية من خير بطباعهم؛ مهما تتطبعوا بقذارة السلطة والقرب منها ونالوا الحظوة، فالإنسان يرى الحق فيوقنه فينشغل به ويتناداه ويتناجاه، ويستغل كل غفلة من الباطل وحراس الباطل ليقدم خدمة يكفر بها عن بعض ما قدمت يداه. وهذا هو الرجل الصالح الذي سعى إلى موسى، وفضح مجامع الباطل وتآمره على قتل رجل ذنبه كما يحكي الرجل قوله: “أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله”.. لقد أخذ موسى بالنصيحة وخرج من غير تردد كما ذلت على ذلك فاء التعقيب” فاخرج _فخرج”، ولم يشكك موسى في نوايا الرجل؛ وإنما صدقه لما تفرس والتمس فيه الصدق، وهكذا يجب أن يكون الداعي المصلح في الأخذ بالأسباب وتقدير الأمور بمقاديرها، فالمصلح كيس . وهذا على خلاف ما قد يأتي من النصح المكيدة كما في قصة آدم والشيطان: قال ما نهاكما ربكما عن تلكم الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ” “ولا تطع كل حلاف مهين” لقد فضح الإسرائيلي موسى حتى وقد استنصره بالأمس فاستجاب وأخطأ، ونصر القبطي موسى حتى وأنه قتل رجلا من عشيرته…وهذه من الحكم العامة …ولله في خلقه شؤون. يتبع