هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فقه سنن الصفوة وعلاقتها بالحضارة
نشر في نون بريس يوم 26 - 04 - 2018


تقديم في مفهوم الصفوة وخصائصها:
الصفوة هي النخبة المختارة من المجتمع، تتميز عن غيرها بقدرتها العالية على التحمل والتوقع والاستشراف والتخطيط. ورجالها أرباب الوعي في المجتمع وصانعو أمجاده. ولا تقتصر الصفوة على العلماء وأرباب الفكر والمصلحين بل يتسع معناها ليدخل فيه كل الموهوبين في المجتمع في جميع القطاعات العلمية والفنية والعملية، العسكرية والمدنية، الدينية وغير الدينية، النظرية والمهنية.
وكما تكون الصفوة صالحة مصلحة تكون أيضا فاسدة مفسدة:
قال تعالى عن صنف الأخيار من الأنبياء والصالحين: ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 73].
وقال تعالى عن فرعون وجنوده باعتباره نموذج الصفوة الفاسدة المفسدة ﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [القصص: 39 – 41].
وتتميز الصفوة عن عامة المجتمع بصفات وسمات منها:
القلة مقارنة مع الكثرة
التأثير والفاعلية بدل التأثر والانفعالية
القدرة على القيادة والزعامة والتنظيم
قوة الإيمان بالمبادئ والتضحية العالية من أجلها التي لا توجد في الجماهير، وبالإعداد والتخطيط والتنفيذ.
أولاً: لا تنشأ الحضارة إلا على يد الصفوة المختارة:
والصفوة المختارة هي أس البناء الحضاري، ورجاله هم المحرك الأَول للتاريخ، والناقلون الأُول للتاريخ من الجمود إلى الحركة، ولم تنشأ حضارة ولا عمران إلا بوجود الصفوة المختارة أفقيا وعموديا.
وإن من أوائل وظائف النخبة هي قيادة الأمة ونقلها من الغياب الحضاري إلى الشهود الحضاري، ومن العدم إلى الوجود، ومن الذيلية والتبعية إلى القيادة والتوجيه، وقد كان ميلاد كل أمة على يد زعيم أو مصلح، أو نبي مرسل، فنقلها من الجهل إلى العلم، ومن الوهدة إلى النهضة، ومن الكبوة إلى الصحوة، فعلى يد الصفوة تولد الأمة، وتتحرك في الواقع حركة التأثير، وعليها يقع عبء استنهاض الهمم وارتياد المواقع ومدافعة الأمم.
ثانياً: لا تستمر الحضارة قوية إلا باستمرار وجود صفوة قوية:
لا تتوقف الحاجة إلى الصفوة في النهوض وفي مرحلة النشأة فقط، وإنما تستمر الحاجة إليها في مرحلة الازدهار؛ إذ وظيفتها بعد التأسيس هي قيادة الأمة نحو استكمال تقدمها وريادتها، وضمان تفوقها. وهي المسؤولة عن التخطيط للحفاظ على قوة الأمة في جميع القطاعات والتخصصات وفي سائر المستويات، والإرشاد لأسباب ذلك، وهي التي يقع على عاتقها في هذه المرحلة إعداد الخلف الذي يضمن البقاء ويشكل جهاز المناعة القوي للتدخل السريع والوقاية من السقوط المريع.
وإن الأمة التي لم يولد فيها مثل هذه النخبة لم تولد بعد ولادة حضارية، وإن الأمة التي توقفت عن إنجاب الصفوة المختارة أمة شاخت ودخلت مرحلة العقم الحضاري والشيخوخة وأزفت ساعة رحيلها..
ثالثا: الصفوة المختارة في حضارة الإسلام هم الأنبياء والمرسلون وورثتهم من العلماء والدعاة
تقوم الحضارة الإسلامية على صفوة اختارها الله تعالى للقيام بوظيفتها في هدي العباد وصيانة بيضة الإسلام، إنها صفوة روادها الأنبياء وورثتهم من العلماء والدعاة؛
قال تعالى في اصطفاء الأنبياء والرسل وجعلهم الصفوة الراشدة المرشدة: ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [الحج: 75].
وقال جل وعلا في اصطفاء من يحمل الأمانة بعد الرسل: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [فاطر: 32]
وقال تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ".(أخرجه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم).
لذلك نقول إنه لا نهضة للأمة من غير وجود صفوة من العلماء ورثة الأنبياء، فهم جهاز المناعة، وملح الحضارة، فالوجود الحضاري للأمة مشروط بوجودهم، وقوتها رهن بقوتهم، وسلامتها ملازمة لسلامتهم.
رابعاً: في وظيفة الصفوة:
تبين كثير من النصوص من الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة وظيفة الصفوة المختارة من أهل الخير كما تتحدث أيضا عن وظيفة الصفوة المتزعمة للشر والفساد:
1- صفات الصفوة المختارة ووظائفها في القرآن والسنة:
أ- الدعوة إلى دين الله تعالى ورد العباد إلى رب العباد وهديهم وإرشادهم:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ﴾ [الأحزاب: 39]
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ [المائدة: 67]
﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]
ولقال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25].
ب- وظيفة بيان الدين وتعليم أحكامه وأصوله ومبادئه:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 43، 44].
﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
ج- وظيفة التربية والتوجيه والوعظ والإرشاد:
وهي الواردة في الآيتين الآنفتين:
"ويزكيهم" فالتزكية هي التربية على المبادئ الصحيحة والسلوكات السليمة لينشأ الخير فيهم وينمو ويربو بالتدريج.
وظيفة إحلال الدين في الواقع: دلت كثير من الآيات والأحاديث أن القصد من الرسالات وبعث الرسل هو إحلال الدين في الواقع وتحويل مبادئه وتوجيهاته إلى سلوكات واقعية وتصرفات عملية فردية واجتماعية وحضارية إنسانية من ذلك: قوله تعالى في الثناء على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "وإنك لعلى خلق عظيم" وقول عائشة رضي الله تعالى عنها وهي تصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان خلقه القرآن" بمعنى أنه حول مبادئ الدين وأحكامه إلى واقع عملي فوافقت تصرفاته تصوراه، وتوجهت سلوكاته وفق توجيهاته.
وقال تعالى حكاية للحوار الذي دار بين النبي شعيب عليه السلام وقومه ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 84 – 88].
ففي الحوار يظهر أن دعوة النبي شعيب قائمة على تصورات يدعى الناس إلى إقامة تصرفاهم وفقها: إيفاء الكيل والميزان بالعدل، النهي عن البخس، والفساد، الأمر بالصلاة لتحسين السلوك مع الخالق والمخلوق، إخبارهم بامتثاله أولا لما يدعوهم إليه، حصر الغاية من دعوتهم في الإصلاح.
وفي المقابل عاب الله تعالى على بني إسرائيل حين خالفت أعمالُهم أقوالَهم فقال تعالى ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ * أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 40 – 44].
التأسي بأفعالهم واتباع نهجهم وسننهم في فهم الدين والعمل به وتبليغه:
إذ لما كانت الصفوة هي أصلح ما في الأمة وكانت وظيفتها دعوة الناس لذلك، كان لزاما أن يكون أفرادها محل اقتداء وتأسٍّ، ولا يصدر منهم إلا ما يصلح أن يكون سنة للناس يسيرون عليها ويستنون بها ويهتدون بها.
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
* وقد جعل الله التأسي بالصفوة المختارة من الأنبياء والمرسلين واجبا على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الرسول الخاتم فقال تعالى بعد ذكر عدد من الأنبياء والمرسلين ومدحهم والثناء عليهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فدل ذلك أن الصفوة من أهل الخير جعلت محل اقتداء؛ فأقوالها توجيهات تطاع ولا تعصى وأفعالها سنن تقتفى ولا ترمى.
ب – وظيفة النخبة من أهل الشر والفساد وصفاتهم:
1- قلب الحقائق بجعل الباطل حقا والحق باطلا؛ وذلك بتشويه دعوة الرسل ونسبها إلى الضلال وتصوير ما هم عليه هو الحق:
قال تعالى حاكيا عن قوم نوح في ردهم لدعوته : ﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأعراف: 60]
وقال جل وعلا عن عاد الذين أرل الله تعالى فيهم وكذبوه: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [الأعراف: 66] .
وباستقراء تاريخ الدعوات وسيرة الرسل مع أقوامهم نجد نفس رد الفعل من المنكرين ونفس الأساليب في قلب الحقائق بتصوير الحق باطلا والباطل حقا وتسفيه العقلاء قال تعالى مقررا هذه السنة في تاريخ الدعوات والتدافع بين الحق والباطل وأهلهما : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [سبأ: 34، 35]، وقال تعالى أيضا ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [الذاريات: 52].
2- رفض الاحتكام إلى الدين واستنكار إقامة الحياة الاجتماعية طبقا لتوجيهات الشرع ودعوة الناس إلى ذلك: ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود: 87].
3- الاستعلاء في الأرض والكبر واحتقار المستضعفين من أهل الغير والصلاح والإصلاح: قال تعالى حكاية عن ملأ فرعون ﴿ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ﴾ [المؤمنون: 46 – 48].
4- الحفاظ على الوضع القائم من حكم النخبة الفاسدة الذي يخدم مصلحة المترفين ويديم طاعة الضعفاء ويبقي الفساد دون إصلاح، وقد حكى الله تعالى عن الأقوام الذين كذبوا رسلهم نفس المقالة:
فقال تعالى حكاية عن قوم نوحٍ: ﴿ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ [المؤمنون: 24].
وقال جل وعلا عن ملأ فرعون لموسى عليه السلام: ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 78].
وقالت عاد لنبيهم هود عليه السلام ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 53].
ونفس القول حكاه تعالى عن قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾ [ص: 6].
5- مطاردة المصلحين وأتباعهم ونفيهم أو قتلهم أو تعذيبهم حتى يرجعوا عن الحق إلى الباطل:
قال تعالى: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ ﴾ [الأعراف: 88]
وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 90].
وحكى تعالى عن موسى وما وقع له من اضطهاد وإخراج فقال: ﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 20، 21].
6- الصدود عن دين الله تعالى والصد عنه وتخويف المستضعفين من اتباع سبل الخير:
قال تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36].
وقال تعالى مبينا سبب قلة أتباع موسى: ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ﴾ [يونس: 83].
يتبين مما سلف عرضه من الآيات القرآنية وهي تصف النخبة من القوم المعارضين للفكرة الدينية ولعبادة الله تعالى بما شرع، أن الصفة التي أعطيت لهذه الفئة هي صفة الملأ لما فيها من دلالة التمالؤ والتواطؤ والتناصر على الباطل، كما يتبين أو وجود الملأ في كل قوم وأمة وحضارة أمر سنني من سنن الله تعالى في الاجتماع البشري وفي التدافع بين الحق والباطل قال تعالى مقررا هذه الحقيقة في حق خيرة عباده من الرسل: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112] وقال تعالى في حق أتباعهم من المؤمنين و﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [آل عمران: 179]، وهذا التمييز لا يتحقق إلا بوجود الفئة المخالفة للفئة المؤمنة والمتدافعة معها: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 – 3].
ج- في سنة التدافع بين الصفوة والملأ:
وجود الفئتين في المجتمع أمر طبيعي لمقاصد وحكم، وكل فئة تعمل وفق سنن الله تعالى في الحياة، وتتدافع الفئتان بسبب تباين المبادئ والمنطلقات واختلاف المقاصد والغايات، قال تعالى في الفئة من الملأ: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67]، وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال: 73].
وقال أيضا عن الجماعة المؤمنة: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71] وبسبب هذا التباين والتمايز في الخصائص تصورات وتصرفات كان لزاما أن يحصل التدافع: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة: 251] لأن وظيفة كل طرف رد الطرف الآخر عما هو عليه من الاعتقاد والسلوك، قال تعالى مبينا وظيفة الملأ ؛ قال تعالى ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217] ثم بين تعالى ما يبذله الملأ من جهود وتضحيات وإغراءات لصد المؤمنين عن دينهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36]. ويدخل في سنة التدافع سنن أخرى إما هي سبب فيها( سنن الإعداد مثلا)، أو نتيجة عنها (سنن التمكين والنصر والهزيمة)، أو فروعا لها. وسيأتي لا حقا الحديث عن هذ السنن الكلية والجزئية في التدافع بين الحق والباطل في فقه الحضارات والاستخلاف.
خامساً: فيما يعرض للصفوة من أمراض:
الصفوة داخل المجتمع يصيبها أحيانا ما يصيب المجتمع من أمراض؛ وتظهر عليها أعراض ذلك في انحراف تصوراتها وسوء تصرفاتها، ومن أشدها فتكا:
أن تكون من البداية حاملة لواء الفساد والشر والاستعباد: إن شر ما تبتلى به الأمم هو إصابة صفوتها بالفساد منذ البداية، فتحمل مشعل الفساد الفكري وتقود مشاريع الأمة السياسية والفكرية والتربوية، فتنخدع الأمة كلها ويتربى فيها الشر ويستقر البلاء ولا تنتج إلا ما يضرها في ذاتها ويضر الأمم والشعوب المجاورة.
أن تصاب بدائي الشبهات والشهوات فتتحول إلى نصرة الباطل وأهله: وهذان الداءان يصيبان الصفوة بعد انطلاق الأمة في مسيرتها الحضارية، ولنُصْغ إلى ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى وهو يضع يده على هذا الداء ويبين مخاطره وآثاره ويصف كيفية العلاج فيقول: "الفتنة نوعان: فتنة الشبهات وهي أعظم الفتنتين وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد وقد ينفرد بإحداهما:
ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة العلم ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد وحصول الهوى فهنالك الفتنة العظمى والمصيبة الكبرى، فقل ما شئت في ضلال سيء القصد الحاكم عليه الهوى لا الهدى مع ضعف بصيرته وقلة علمه بما بعث الله به رسوله فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ﴾ [1].
هذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق وهي فتنة المنافقين وفتنة أهل البدع[2] على حسب مراتب بدعهم، فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل والهدى بالضلال وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب، وتارة من حق ثابت خفي على الرجل فلم يظفر به، وتارة من غرض فاسد وهوى متبع. فهي من عمى في البصيرة، وفساد في الإرادة لا ينجى من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول وتحكيمه في دق الدين وجله، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه، فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام.
أما النوع الثاني من الفتنة ففتنة الشهوات: وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله: ﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ ﴾ [3].
أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها والخلاق هو النصيب المقدر ثم قال: ﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ﴾ [التوبة: 69] فهذا الخوض بالباطل، وهو الشبهات؛ فأشار -سبحانه- في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان من الاستمتاع بالخلاق، والخوض بالباطل لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل وتكلم به أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح.
فالأول: هو البدع وما والاها.
والثاني: فسق العمل
فالأول: فساد من جهة الشبهات.
والثاني: من جهة الشهوات ولهذا كان السلف يقولون: "احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه"، وكانوا يقولون: "احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون".
وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل؛ فالأول: أصل فتنة الشبهة.
والثاني: أصل فتنة الشهوة؛ ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر.
ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [4]، فدل على أنه بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين؛ وبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة "[5]
أن تصاب بداء التقاتل والتآكل بدل التعاون والتكامل.
أن تصاب بداء الهزيمة النفسية.
وحينها نكون أمام قواعد حضارية:
كل صفوة خرجت عن رسالتها إلى ما يناقضها إلا وتعطلت رسالتها التي جعلت لها، وعادت عليها بالإبطال، وكل فرع عاد على أصله بالإبطال فهو باطل، كما قرر الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى.
حين تتحول الصفوة عن رسالتها يقع الاستبدال والخلف وتنشأ صفوة جديدة تستأنف المسير وتصحح المسار؛ ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ [الأنعام: 89]، ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38].
سلامة جهاز الصفوة سلامة للأمة جمعاء، ومرضه أو فقده أو تشوهه مؤذن بخراب الأمة، لأن الأمن الحضاري يدور وجود وعدما، طردا وعكسا، مع سلامة النخبة وصحتها.
أن تصاب الصفوة بمرض العقم بحيث لا تنجب الصفوةُ صفوةً مثلها أو أحسن منها، وعقم الصفوة مشعر لا محالة بالعقم الحضاري، ولا يعني العقم الحضاري إلا الإفلاس والارتكاس بعد عهد قيادة الناس، والضمور بعد الظهور، والضعف والانحسار بعد القوة والانتشار، ولا سبيل إلى التوقي من داء العقم إلا بالتربية والتنشئة الاجتماعية التي تكفل للصفوة إنتاج أجيال حاملة لنفس المشروع رافعة له إلى كل مقام رفيع، ذابة عنه كل مغرض في الشر ضليع.
وهكذا نختم نظراتنا بالقول إن من فقه سنن الحضارات فقه القوانين المتعلقة بالصفوة وجودا ووظائف، صحة واعتلالا، إذ على هذا الفقه تتوقف حركة الأمة وقوة تأثيرها، ويتوقف أمر الوقاية والعلاج، وبحسب قوة التدافع بين الصفوة والملأ ومآلات ذلك يكون نوع الحضارة؛ فالصفوة الخيرة تقود إلى بناء حضارة الخير والعدل والرحمة، والملأ من أهل الشر والفساد يقود إلى الظلم والبأس والنقمة.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/110568/#ixzz5DlR6sF8u


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.