هذا المقال في الأصل عبارة عن مقتطفات من الورقة التي ساهمت بها في الورشة التواصلية حول التعليم الأولي المنظمة ضمن فعاليات المهرجان الجهوي للتعليم الأولي الذي تنظمه الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين في نسخته الثانية بتاريخ 27 فبراير 2020. لا يخفى على المهتمين بالطفولة الدور المحوري للعب في حياة الطفل، كونه يعد مطلبا أساسيا لنموه من مختلف الجوانب المعرفية والجسمية والاجتماعية والوجدانية، وأن اللعب من أهم مداخل الطفل نحو اكتشاف قدرات الحواس واستخدامها، واكتساب الكثير من المهارات والمعارف والاتجاهات في المراحل الأولى من العمر، وهو أيضا أفضل آلية للتزود بخبرات أقرب إلى الواقع العملي. وقد ألمح القرآن الكريم بعمق لأهمية اللعب في حياة الطفل من خلال قصة سيدنا يوسف عليه السلام، كما نقلت إلينا روايات عديدة عن التفاعل العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم مع اللعب عند الأطفال. ويتيح اللعب أيضا فرص جيدة جدا وقابلة للاستثمار في يد الآباء للتفاعل مع الأطفال، وفعلا الأسر اليوم تصرف جزء مهما من ميزانيتها على الترفيه والألعاب وأدوات الأنشطة الترفيهية، لكن السؤال المطروح ما مدى استثمار اللعب والألعاب الاستثمار التربوي الواعي الذي يسعى للاستفادة من هذه المصاريف والطاقة والوقت للزيادة في تطوير قدرات ومهارات أبنائنا. للأسف ( وهذا هو واقع الحال) هناك الكثير من الأسر، سواء التي تقبل على الخدمات التعليمية التي تقدمها المؤسسات التعليمية الخصوصية أو العمومية، تتخذ مساهمتها في متابعة الأنشطة التعليمية والتعلمية لأبنائهم سواء داخل المدرسة أو في المنزل، أشكالا سلبية عديدة في كثير من الأحيان، ترتبط غالبيتها بافتقار معظم الآباء والأمهات إلى لغة المؤسسة التعليمية التربوية، وإلى طبيعة مهام المدرس، وطبيعة المادة التدريسية وطرق التدريس، والوضع النمائي والذهني والمعرفي والنفسي لأبنائهم. فنحن نستطيع مشاهدة حالة أبنائنا، ولكن نفتقر لآليات التشخيص والتفسير والتدخل العلمي، الذي يتفق مع إرث الأدبيات التربوية وتجديداتها التي يتلقاها المدرس من خلال تكويناته أو للتأطير المستمر من طرف السادة المفتشين، أو حتى التكوين الذاتي المستمر للمربيات والمربين… إن التعامل مع الطفل للمحافظة على استمرار اتقاد ذكائه وتطويره أو حتى التدخلات العلاجية، أو التدخلات في حالة أطفال الإعاقات وكل ما يرتبط بالطفولة المبكرة، يستند إلى أسس علمية تربوية وطبية وسيكولوجية وغيرها، وذلك يحتاج لسنوات من التكوين والخبرة والاحتكاك مع حالات متشابهة ومتكررة من الوضعيات مع الأطفال، ويتطلب اضطلاع واسع بالأدبيات المؤطرة للممارسة التدريسية، وموقوف أيضا على مدى توفر ثقافة مجتمعية ووعي جمعي بالتربية الجديدة وآلياتها، وبمحورية الاهتمام بالطفل كإنسان وعماد المستقبل، ويتصدى بخبرته وأعصابه للمخاطر الأولى الحقيقية التي تعترض الطفل. علما أننا أمام توظيف متداخل لعدة تخصصات سيكولوجية وبيداغوجية وسوسيولوجية ومعرفية وغيرها لصالح الطفل، كي نتمكن من مراعاة المرحلة النمائية له على المستوى المعرفي والذهني والنفسي والجسمي، ذلك أننا نرسل إنسانا طفلا صغيرا إلى المدرسة لنحافظ عليه ونؤهله للحياة والمستقبل، ولسنا نوجه سيارة إلى الميكانيكي، أو الهاتف إلى التقني (مع احترامي للجميع)،لهذا مهام المربي أصعب، لأنه يشتغل لتأهيل الإنسان. إن ، الرحمة هي نعمة ربانية يمنحها الله عز وجل للآباء اتجاه أبنائهم، ولكن مطلوب منا تطوير تلك الرحمة في علاقتنا التربوية مع أبنائنا، فالرحمة تتجاور مع الحب، والآن يتم الحديث عن بيداغوجيا الحب، فلحظة التعلم الحقيقية لدى الطفل تبدأ بشكل متوازي مع حبه للمدرسة، والمعرفة، والمربية، وزملائه، والفضاء، كما تترافق مع حبه لطريقة التعلم ولحظات التعلم، فالحب يمنحه الدافعية. ولأن الأطفال أكثر ما يحبونه على الإطلاق هو اللعب، حيث يشعرون بنوع من المتعة الشديدة، ومن خلال اللعب يقبلون على الحياة ويفهمونها ويكتشفون أسرارها، ويطورون ذواتهم وقدراتهم، فإن اقتناع الآباء بدور اللعب في تنمية قدرات ومهارات وكفايات أبنائهم، ووعيهم بها مرحلة أساسية، للانتقال نحو التعاون مع المدرسة في هذه البيداغوجيا التي أساسها التعلم بالمتعة والحب، والاستقرار النفسي والجسمي والعلائقي. والحقيقة، فالآباء مطالبون بعدم التهاون في التعامل الجدي والواعي مع المراحل الأولى من حياة الأطفال، وعدم حرمانهم من اللعب لأي سبب من الأسباب، بجعل التثقيف العلمي بخصائص الطفل ومراحل نموه الجسمي والنفسي والمعرفي محور اهتمامهم، بمعنى ضرورة امتلاك الآباء على الأقل حد أدنى من آليات وأدوات التربية الحديثة الفعالة والنشيطة. وفي سبيل ذلك هناك الكثير مما يمكن بذله في هذا الشأن، بدءا بالاضطلاع على المقالات والكتب والدراسات المنجزة في موضوع اللعب ووظيفته وأثره،وطرق الاستفادة منه في تربية الطفل، والمتوفرة بكثافة والمنشورة على الإنترنت، ويمكن المشاركة في دورات تدريبية في كيفية استثمار اللعب الاستثمار الفعال لأغراض تعليمية تكوينية للأطفال، خاصة ذوي الاحتياجات الخاصة والذين يعانون من ضعف في الذكاء والإدراك ومشاكل في الحواس، ويمكن الاضطلاع على بعض التجارب التي نجحت فيها الأسر في تنفيذ بعض المناهج، مثل منهج منتيسوري في اللعب، وهي في الحقيقة تجارب مثيرة للدهشة والإعجاب ومتابعتها ستشكل صدمة للكثير منا خاصة الذين لا يزالون ينظرون إلى اللعب نظرة قدحية كونه مضيعة للوقت. أما الانفتاح الإيجابي للآباء على المدرسة، فمنطلقه الابتعاد عن الأحكام الجاهزة والتمثلات غير السليمة المتكونة عن المدرسة والمربي والمربية أو المدرسة والمدرسين، والتي تعيق تكوين علاقة فعالة لصالح أبنائنا، (وهنا أسجل، أنه كلما ارتقى وعي الآباء بالعلوم العديدة والمعقدة المؤطرة للاشتغال على تربية الأطفال وتكوينهم والحفاظ على عقولهم متقدة، كلما أدركوا إلى أي درجة هي صعبة مهنة التربية والتعليم)، وأن يكون أساس انفتاح الآباء على المدرسة هو التعاون والتقدير في جو من الهدوء والاحترام. ذلك أن الأسرة حينما تحيط علما بأهمية اللعب في تكوين شخصية الطفل، فإنها ستنتقل بشكل واعي إلى توظيفه داخل المنزل بأوجه متعددة لأغراض تربوية وتكوينية وتعليمية، بل وحتى علاجية للعديد من سلوكات الأطفال غير المرغوب فيها، مثل عدم الامتثال أو العنف. يجب أن يساهم التثقيف التربوي حول بيداغوجيا اللعب بالنسبة للآباء خاصة، إلى إدراكهم وإقناعهم بأن غالبية أساليب الضبط المستعملة في البيت لمواجهة المشاكل السلوكية لأبنائهم مثل عدم الامتثال، حيث يلجأ البعض إلى التأنيب اللفظي، أوالتحكم البدني والتعنيف بمختلف أشكاله و درجاته، منه إشعار الطفل بأنه ضعيف البنية، وتهديده باستخدام القوة بهدف كبح السلوك ودفعه للتخلي عنه، أو حتى حرمانه من بعض الامتيازات والحقوق…. كل هذه الاستراتيجيات قد تؤدي إلى إيقاف قصير الأجل للمشكلة السلوكية، ولربما تؤدي فيما بعد إلى تفاقمها بذل معالجتها، ولا قدر الله قد تتطور إلى اضطراب نفسي مؤجل. وفي المقابل أثبتت العديد من الدراسات أن اللعب يمثل مدخلا مهما وبنتائج مدهشة، لمعالجة المشكلات السلوكية منها عدم الامتثال، والعنف والعدوانية والانسحاب، ورفض القيام بالواجبات. وهناك الكثير من الدراسات التي وظفت اللعب مع الأطفال ما قبل سن التمدرس، وحصلت على نتائج جيدة جدا في معالجة بعض المشكلات السلوكية لديهم، علما أن المشكلات السلوكية، لدى الأطفال واحدة من عوائق التعلمات لديهم، وإذا لم نتحكم فيها ونعالجها، قد تتطور إلى سلوكات ثابتة في شخصية الطفل حينما يكبر. من هذه الدراسات دراسة أنجزها كولتير ومهون 2004 بحثت هذه الدراسة تأثير التدخل باستخدام الألعاب بين الطفل والوالدين على الامتثال لدى الأطفال، وتكونت عينة الدراسة من ستين طفلا من أطفال ما قبل الدراسة، وكان هؤلاء الأطفال يعانون من القلق، والانسحابية والعدوان، وعدم الكفاءة الاجتماعية، تم تقويم سلوك الأطفال في أثناء تنفيذ مهام الأمهات قبل وبعد استخدام اللعب الحر لمد أسبوع. وقد أشارت نتائج الدراسة إلى انخفاض مستوى القلق والانسحابية والعدوان وزيادة في الاستجابة للطلبات ونقص في عدم الامتثال. وهكذا فإن التكوين البيداغوجي للأسر، ومعرفتها العلمية بشخصية الطفل، واضطلاعها على النظريات العلمية المؤطرة لذلك وغيره، يجب أن يتحول إلى ثقافة مجتمعية عامة، لأنه آنذاك سيكون سلوك الأسر في تربية أبنائهم سلوك واعي وله دلالة ومعنى، كما أن المدرسة في حاجة ماسة لهذا الوعي. فعلى سبيل المثال اضطلاع الآباء على أهمية اللعب بالنسبة لحياة الطفل، واقتناعهم بأن اللعب يستثمر الآن بيداغوجيا لأهداف تعليمية تعلمية، هذا الوعي يجعل قنوات التواصل ومنه التعاون بين المؤسسة والأسرة ميسر، لأن الأطراف ستصبح تتحدث بنفس لغة المؤسسة، وسترقى آنذاك الأسر إلى ممارسة نوع من الرقابة على الأساليب المستخدمة لتعليم أبنائهم وجدواها، إضافة إلى تمكنها من آلية اختيار المؤسسات الملائمة لتنشئة وتربية أبنائهم، بذل الاقتصار على انطباعات الناس. وفي تقديري أن عهد الأسرة التي كانت وظيفتها التربوية التعليمية اتجاه الأبناء تقتصر على إرسالهم إلى المدرسة، وفي المنزل تكتفي بالمشاهدة السلبية لهم أثناء مراجعة دروسهم أو تقليب أوراق دفاترهم وكتبهم، عهد قد ولى، فاليوم الأسر أمامها تحدي الوعي بكل ما يحيط بشخصية الطفل، والآباء عليهم أن يتورطوا في كل ما يمنح الطفل القدرة على التحصيل، وعلى الأخص هذا المنهج، منهج اللعب، وعليهم الحسم سريعا مع موضوع اللعب كحق طبيعي واجتماعي للطفل والطفلة، وأن تنتقل للتعامل مع تحديات أخرى متعلقة بكيفية الاستثمار العلمي للعب في تجويد تعلمات أبناءهم، وكذلك في فرض نوع من الرقابة على القيم التي تمررها الألعاب والأنشطة المرتبطة بها، وعدم الاهتمام فقط بتوظيف اللعب كبيداغوجيا نشطة وناجعة في تكوين الطفل، وإنما توجيهه نحو الألعاب التي ترفع من مردودية النمو الذهني له، وتجنب الأنشطة المستنزفة للطاقة للجميع بدون عائدات ترقى لحجم الطاقة المهدورة، وأيضا ربطها بموضوع القيم( قيم الوفاء، الاحترام، التضحية، اتخاذ القرارات، التعاون والتقاسم والتشارك، الإحساس بالانتماء للأسرة والمجتمع…/ والأولاد يحتاجون فطريا دوما إلى اللعب، ولهذا الأفضل توظيف اللعب لتنمية مهارات وقدرات الطفل أي لأغراض تعلمية، بدل لجوء الأولاد إلى صناعة وممارسة ألعاب خطيرة مثل الحوت الأزرق، أو الألعاب التي تصقلهم على قيم العنف والفردانية، وتعزلهم عن المحيط. ولا بد أن أشير هنا إلى مسألة في غاية الخطورة فوعينا بأهمية اللعب يمكننا من مراقبة السلوكات الجنسية لأبنائنا وانحرافاتها منذ الصغر، ذلك أنه الكثير من الألعاب والمتوفرة في أسواقنا، أو حتى الألعاب التي يمارسها أطفالنا من الهاتف، ومشاهدتهم للرسوم المتحركة، يلتقطون من خلالها مجموعة من الترميزات والإشارات والتفاصيل المبثوتة وذات الدلالات الجنسية المؤثرة سلبا على الميولات الجنسية الطبيعية لأطفالنا، وفي المقابل بإمكاننا توظيف اللعب لتعزيز الميولات الجنسية السليمة أو تصحيح مسارها وتوجيهها الوجهة الصحيحة في إطار نوع من التثقيف الجنسي أو التربية الجنسية، وذلك عبر انتقاء الألعاب بعناية شديدة بحيث تحترم خصائصه وعمره وجنسه، وألا تكون اللعبة مجرد وسيلة لإلهاء الطفل ليقضي بها وقت فراغه، أو أثناء انشغال الوالدين أو من يقوم برعايته، بل يفضل أن تكون اللعبة هادفة وتعليمية كلما أمكن ذلك. وقبل ختام هذا المقال لا بأس أن أقدم بعض المقترحات للتنسيق في مجال بيداغوجيا اللعب بين الأسر والمدرسة لتوحيد الأهداف والأساليب، والتي منها: زيارة الآباء للمؤسسات التعليمية والتعرف على العدة البيداغوجية للعب المتوفرة بالمؤسسة، وفهم وظائفها. جمعية آباء وأولياء التلاميذ يجب أن تضع نصب أعينها الاستثمار حسب طاقتها في تهئية فضاءات اللعب البيداغوجي داخل الأقسام والمؤسسة، وأيضا المساهمة في توفير عدة اللعب البيداغوجي وصيانتها وتجديدها. أن تنظم جمعيات آباء وأولياء التلاميذ زيارات لفائدة الآباء لعدة مؤسسات بغرض التعرف على عدة اللعب البيداغوجي في المؤسسة ووظائفها، وأيضا لتجارب المربيات في هذا الشأن. تقديم أشكال الدعم للمربيات خاصة صواحب المبادرات الجدية الإبداعية في هذا المجال، وتقدير مجهوداتهم، والعمل على التعريف بها وتقاسمها. توثيق أنشطة اللعب واللعب البيداغوجي وتقاسمها ومناقشتها عبر بوابة إلكترونية، ثم استضافة آباء وأولياء التلاميذ لمشاهدتها جماعيا والاضطلاع على انخراط أبنائهم في أنشطتها. ابتكار قنوات تواصل وتنسيق فعالة ومرنة بين الآباء والمربيات، حول بعض أنشطة اللعب الموازية اللاصفية التي سيقوم بها الأطفال في منازلهم أو في فضاءات عامة أو خاصة، إما بشكل انفرادي أو تشاركي تعاوني أو تنافسي بين أفراد الأسرة، تكون مصحوبة باستمارات من أجل التقويم والتصويب والتدقيق. خلق مساحة مشتركة بين التلاميذ والمؤسسة التعليمية وأولياء وآباء التلاميذ من خلال إدماج أشكال الألعاب المحلية التي كان الآباء والأمهات يمارسونها والاستفادة منها في مجال التعلم. وفي هذا السياق يمكن الاستفادة من التجربة التي تنهجها الأكاديمية الجهوية لجهة كلميم واد نون حول ربط التعلم بالثقافة الشعبية وتثمين الثقافة الحسانية بالخصوص. وهو حضور لثنائية الحق في التعليم والحق في الثقافة، في إطار بيداغوجيا اللعب. تعزيز العلاقة بين الأمهات والآباء وإشراكهم في عملية إدماج الألعاب المحلية في الفصول الدراسية بعد عرضها على هيئة التأطير والمراقبة التربويين. ختاما إننا فعلا في حاجة ماسة إلى مجتمع بثقافة بيداغوجية معتبرة كي يتم استيعاب وتقدير ما تقوم به المدرسة، والتماهي معه، أي محاولة المشاركة إلى جانب المدرسة وبأساليبها وبتجاربها وخبراتها، في تربية وتعليم وتأهيل الأطفال، والحفاظ على عقولهم متقدة على حد قول ماريا منتيسوري، وأن تكون مساهمة الأسرة مساهمة واعية، تتجاوز أنماط التربية التقليدية التي لم تعد كافية.