هبت عاصفة كورونا على المغرب موقدة معها شرارة آفة الانتحار التي ظلت في مرحلة كمون مؤقت، لتتناسل الحالات مثل الفطر، وتتنامى المآسي، وتجهز على أحلام أسر في العيش الكريم، وأفرزت مشكلات اجتماعية حقيقية تتغير أسبابها ودوافعها تبعا للظروف الزمانية والمكانية. وإذا كان الانتحار استعجال للموت بكيفية قصدية ذاتية، فليس هناك ما يثبت أن الفرد الذي ينتحر قصد الموت فعلا، خصوصا وقد نجد غيره ممن يؤمن بعدم جدوى الحياة ولكنه لم يقدم على الانتحار، ولهذا اختلف الباحثون في أسباب الانتحار ودوافعه. وقد اعتمد “إيميل دوركايم” على الإحصائيات لرصد التغيرات التي تطرأ على نسبة الانتحار في الزمان والمكان، محاولا كشف العوامل المفسرة لتلك الظاهرة. ومحاولة منا الوقوف على أسباب تنامي ظاهرة الانتحار بالمملكة زمن كورونا، قمنا بتتبع واستقراء دقيق للحالات التي وضعت حدا لحياتها في فترة الحجر الصحي، أي من 20 ماي 2020 إلى غاية 20 أبريل 2020 اعتمادا على مواقع إلكترونية ذات مصداقية. وحولنا تلك المعطيات إلى بيانات إحصائية اعتمادا على قراءة في متغيرات: السن والجنس، الحالة العائلية والمهنية، تاريخ ومكان ووسط الانتحار، فضلا عن أداة الانتحار المستعملة، وسأقدم في نهاية هذه المقالة مقترحات أخالها ناجعة للتخفيف من هذه الظاهرة زمن الحجر الصحي. على مستوى الجنس والسن: بداية، العدد الإجمالي للمنتحرين 22 حالة في شهر واحد، وهذا رقم مقلق جدا أي تقريبا حالة انتحار كل يوم. وبالنسبة لعدد الذكور: 18 حالة بمعدل 81.81%، والمثير بينهم قاصر لا يتعدى سنه 12 سنة، وهذا يعني أن الظاهرة تشمل جميع الفئات العمرية. أما عدد الإناث فبلغ: 4 حالات بنسبة 18.18 %. وقد كانت النساء في المغرب فيما مضى أكثر انتحارا من الرجال بناء على تقرير لمنظمة الصحة العالمية 2016 ، حيث وصل عدد المنتحرات بالمغرب: 613 مقابل 400 حالة من الذكور. وبالنسبة لعامل السن فيلاحظ أن أغلبية المنتحرين والمنتحرات يتراوح سنهم ما بين 40 و80 سنة. على مستوى الوضعية العائلية والمهنية: الملاحظ أن الأغلبية الساحقة للمنتحرين متزوجون وآباء لأطفال، ورغم المسؤوليات الملقاة على عاتقهم يقدمون على الانتحار، ربما كما يرى عالم النفس “جيسي برينغ” أن القابلية الجينية للانتحار إذا التقت بظروف محفزة على الانتحار( الحجر الصحي في حالتنا) يصبح الإنسان عندها أكثر عرضة لإيذاء نفسه. أما مهنيا، فيشتغل كل هؤلاء المنتحرون في مهن معيشية بسيطة جدا، مما يطرح بقوة دافع الفقر والهشاشة الاجتماعية، وانتشار البطالة في زمن الحجر الصحي فتتضاعف الضغوطات النفسية لتؤدي إلى اكتئاب حاد وبالتالي إلى الانتحار. على مستوى مكان ووسط وتاريخ الانتحار: يمكن أن نسجل أن جهة طنجةتطوانالحسيمة كالعادة، تتربع على عرش عدد المنتحرين في الحجر الصحي ب 12 منتحر أي بنسبة 54.54% أي أكثر من النصف، قد يكون لتدهور الوضعية الاقتصادية للجهة قبل الحجر الصحي بأيام بسبب منع التهريب سببا في تزايد عدد المنتحرين، والملاحظ أيضا أن الظاهرة شملت مناطق أخرى من المغرب غربا ووسطا وجنوبا. على مستوى وسط الانتحار: هناك تقارب نسبيا في نسبة الحالات بين الوسطين القروي والحضري إذ بلغت نسبة المنتحرين بالوسط الحضري 59.09% والوسط القروي 40.9%، فيما سجلت حالة واحدة في وسط شبه حضري. وهذا يدل على أن الظاهرة لا تقتصر على المدينة بل تغطي أيضا المجال القروي. أما من حيث تواريخ الانتحارات، نلاحظ ارتفاعا تدريجيا للمنتحرين منذ آواخر مارس ليبلغ ذروته في شهرأبريل، وفي بعض الأيام شهدت ثلاثة انتحارات في يوم واحد، أي كلما تقدمنا في أيام الحجر الصحي إلا وازداد عدد المنتحرين. على مستوى الأداة المستعملة في الانتحار: يتبين من خلال معطيات الجدول أن الوسيلة الأكثر استعمالا في الوسط القروي أو الحضري هي الشنق ب: 19 حالة أي بمعدل 86.36% مقابل 3 حالات فضلت الارتماء من طابق المنازل أي بنسبة 13.63%، ويمكن تفسير هذا الأمر بسهولة ونجاعة الأداة المستعملة، وقد سجلنا غياب أدوات أخرى كانت تستعمل قبل الحجر كسم الفئران والمبيدات الحشرية، ربما للحصار المضروب على حركية الناس، وإغلاق جل المحلات التجارية التي تبيع هذه المنتوجات. ملخص الوضعية كما تتراءى في التقدير، أن الظاهرة في تفاقم مستمر، وتتأثر لا محالة بظروف الحجر الصحي، وأخوف ما أخافه هي الحالات المرشحة للانتحار، ومحاولات الانتحار الفاشلة التي برزت في اليومين الأخيرين. لذلك على المسؤولين من جهة، بذل مجهودات أكبر باتخاذ تدابير استعجالية عملية من شأنها تخفيف الحجر الصحي على المواطن البسيط، وكذا تكثيف الجمعيات الخيرية المواطنة والمحسنين المساعدة الفورية للفئات الهشة والمعوزة الأكثر تضررا من الحجر. ومن زاوية أخرى الإعلام بشتى تلاوينه مدعو للانخراط في التوعية والتحسيس، ناهيك عن الدور المركزي الذي من المفروض أن تلعبه المجالس العلمية في هكذا حالات من خلال محاضرات تفاعلية عن بعد تستحضر الجانب الروحي، تتضمن وعظا وإرشادا وتمريرا لقيم الصبر والتعاون والتضامن والتسامح التي يحفل بها تاريخنا الوطني والإسلامي المجيد. لا أدعي من خلال هذه المقالة إحاطتي الشاملة بهذا الموضوع الراهني بقدر ما هو إثارة لهمم الباحثين لالتقاط هذه الإشارات والتأسيس عليها ببحوث بأدوات علمية ومنهجية عميقة حول هذه الظاهرة المتجددة أسبابها ودوافعها باستمرار وربطها بظواهر اجتماعية تخفو وتظهر تبعا لسياقات زمنية ومكانية معينة. * يونس الجزولي، باحث في التربية وعلم الاجتماع بالمركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية