بديهي كل البداهة، أن ما يعيشه العالم هنا والان على وقع كائن مجهري لا يرى بالعين المجردة، لم يسبق له مثيل ربما في تاريخ البشرية في صيغتها الجديدة، أي في صيغة العصر الجديد أو إن صح التعبير عصر العقل والأنسنة البشرية( عصر النزعة الانسانية التي أعادت الاعتبار للإنسان كذات) ضمن هذا الكوكب اللامتناهي، ما نعيشه الان هو نوع من القلق والغموض المصيري المستقبلي نحو مجهول غير معروف تماما، نظرا لكون هذه الجائحة العظيمة خلقت توترات لا نهائية في أرض العالم ككل، يجعلنا ذلك نؤكد لا محالة أن لهذا الوباء نوعية خاصة في التواجد الراهني في العالم، عكس باقي الأوبئة التي ضربت المعمورة في السابق القريب، ربما خطورة إمبراطور العصر المعاصر((covid19 تكمن في سرعة انتشاره بقوة بدون التحكم فيه بشكل دقيق كليا في زمن السيولة المستمرة، من هنا يتضح بجلاء وضمن منطق التدقيق في هذا المعنى الدلالي السابق يمكن التساؤل، ما الذي يجعل هذا الوباء ينتشر بسرعة فائقة في العالم؟ هل لأنه كائن حي ينتقل من هنا إلى هناك بسرعة كبيرة؟ أم أنه هو نفسه بريء من هذا الانتشار الواسع والعالمي له؟ ألا يمكن القول أن للعولمة سبب كبير جدا في جعل هذا الفيروس عالمي وكوني؟، ألا يعني أن الانفتاح الدولي سهل من سهولة انتشار هذا الفيروس عالميا؟ هل فعلا ومن المنطقي أنه لو كانت الدول منغلقة على بعضها البعض، لا كان الفيروس محليا متواجد فقط في أرض إنتشاره؟ سواء بفعل فاعل( نظرية المؤامرة)، أو بفعل تكوين طبيعي من خلال تفاعل مجموعة من المتغيرات الطبيعية الحية، تماشيا مع نظرية التنظيم الذاتي المعاصرة مع إدغار موران وايليا بريغوجين وهيمبرو ماتيرانا من خلال نظريته حول الآلات، التي تتحدث عن الإنتاج الذاتي لمجموعة من العناصر الطبيعية من خلال التفاعل الداخلي بين مجموعة من المكونات الحية؟، رغم أن استحضار نظرية التنظيم الذاتي هنا كمجازفة إبستيمية كبرى، إلا أنه فقط من أجل توضيح أنه بامكان لكائن مجهري أن يتشكل من داخل تفاعل عناصر كيميائية طبيعية من تلقاء ذاتها. تطرح هذه الاسئلة مع أسئلة أخرى تستفزنا من حين إلى أخر، ليس من أجل الاجابة عنها بشكل نهائي عبر بناء معرفي راصن ودقيق، بل فقط هاهنا سوف نحاول جاهدا الإشارة إلى بعضها ضمن هذا المتن المعرفي البسيط من خلال مجموعة من الملاحظات الافتراضية والواقعية ومن خلال تتبع مجموع من التفاعلات لبعض السياسيين العالميين، ضمن هذا المدخل الدلالي، يتضح بجلاء أن واقع المجتمعات الراهنة عولمي بامتياز، ليس النظر إليه فقط بالتعبير المشهور الذي يعطى لمصطلح العولة، بأنها تسعى لكي تجعل العالم قرية صغيرة، نسير فيها شمالا جنوبا وشرقا غربا فقط في بضع دقائق وساعات عبر شاشات هواتفنا الذكية وحواسبنا الرفيعة، بل يمكن النظر إلى العولمة كذلك من الجهة السياسية والاقتصادية التي تفرضها مجموعة من العلاقات الدولية سواء تلك المتعلقة بالعلاقات الأوربية الامريكية، أو الأوربية الأفريقية، او الأمريكية الافريقية، أضف إلى ذلك أسيا وأستراليا ضمن هذه العلاقات الكوكبية والكونية، التي تدخل فيها مصالح اقتصادية بين جميع هذه الدول عبر تصدير واستراد منتوجات متعددة ومختلفة ومتنوعة هنا و هناك، ضمن سيرورة لا متناهية من العمل الدؤوب والمستمر في ذلك، أضف إلى ذلك العلاقات السياسية والدولية التي تجعل كل الدول تتحاور فيما بينها في شؤون سياسية كبرى وعميقة جدا كأنهم في غرفة صغيرة يتبادلون الحوار مع كأس شاي صحراوي رفيع ضاربين عرض الحائط المسافات المكانية الواسعة، ثم حتى لا ننسى واقع الشركات المتعددة الجنسيات التي تجد فروعها في كل دولة في العالم، كأنها مراقب عالمي لأحوال البشر في كل أرض وفي كل مجال خاص في العالم الكوكبي الذي نقطن فيه والذي يقترب لا محالة نحو الهاوية أو ان صح التعبير نحو المجهول الذي نجهله، بسبب هذا التقدم المجحف الذي يعرفه العالم. يتضج بعمق دلالي، أن العالم يعيش نوعا من القرابة الحميمية العولمية بمظهرها الجميل وبعمقها المزيف السياسوي والمصلحي الضيق بناء على منطق الاقتصاد الرأسمالي، يعيش قرابة ذات بعد اقتصادي واجتماعي وثقافي لكونهم أبناء من قبائل مختلفة ومن جنسيات مختلفة لهم قرابة مستمرة لأب غير معروف وغير ملموس هو فكرة العولمة الكوكبية، وهذه القرابة الحميمية في شقها المظهري، ذات الأبعاد الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية التي تخلق دوما أثر ايجابي ومفيد وذات مصالح مشتركة تجعل كل العالم مشترك في حميمية وجودية مستمرة من أجل العيش والاستمرارية في الحياة، كما هو الحال مع المواد الغذائية المختلفة التي يتم توزيعها من هنا إلى هناك في حلبة الوجود العالمي، أضف إلى ذلك الملابس والهواتف الذكية وأخر ما يوجد في الموضة المعاصرة في كل جوانبها وأضف إلى ذلك الكثير من المنتجات العالمية، هذا جانب من العولمة التي تترك وقع ايجابي نسبيا على الكائن البشري عامة، بل ليس فقط للعولمة هذا الوجه البشوش والجميل والراقي في التعاطي مع كل البشرية لتوفيرها الخيرات المادية والترفيهية مع وجود طبعا تفاوتات صارخة و لاعدالة توزيعية، بل هناك وجوه أخرى مشبوهة وغير عادية وليس ثمة أي مبر ر منطقي وعقلاني لها في الحياة الاجتماعية، ألا وهو الوجه السلبي وخاصة منها تسهيلها من انتشار الأمراض المعدية وتجعلها معولمة بشكل قوي جدا، فكما تحدثنا عن عولمة الاقتصاد والسياسية والثقافة، فإنه هناك عولمة جديدة هي عولمة الأمراض المعدية التي تنتشر بسرعة فائقة بسبب هذا الانفتاح الدولي اللامحدود. العولمة المرضية أو إن صح التعبير عولمة المرض جاءت بشكل مباشر أو كنتيجة منطقية مباشرة، للعولمة التي نعيشها دوما في حياتنا الاجتماعية، حيث شيء طبيعي جدا أن يكون إنتشار المرض يعم العالم بأسره أو إن صح التعبير يعم العالم المنخرط في العولمة، أي المنخرط في اقتصاد السوق العالمية في أبعادها المتعددة والمختلفة، وإن كانت هناك بعض الدول المنخرطة في هذا السوق العالمي قسرا وبقساوة رغم عدم قدرتها على ذلك من بينها دول العالم الثالث، حيث كان طبيعي كما أشرنا أن تتوسع قاعدة المصابين بالمرض كما تتوسع قاعدة المستفيدين من الهواتف الذكية، ومن أخر صيحات الموضة العالمية، اللهم الذين اتخذوا الاحتياطات اللازمة للحد من تفشي هذه الجائحة. لدى فالدول التي كانت منفتحة مع بعضها البعض ضمن العولمة السعيدة كما سماها الاستاذ عبد الرحيم العطري في إحدى مداخلاته، أي العولمة التي كانت تسير بشكل عادي رغم أنه لها ما لها وعليها ما عليها، انتشر فيها ذلك الفيروس القاتل، سواء من خلال الرحالات الجوية من بلد إلى أخر، أو من دولة إلى أخرى، أو سواء من خلال البعثات الدولية الاقتصادية منها والسياسية، أو من خلال تصدير أو استراد منتجات من دولة تجاه دولة أخرى، أي من خلال كل هذه المتغيرات التي نلاحظها، انتشر الفيروس بقوة إنتشار المنتجات الرأسمالية عبر أرجاء العالم، ما يدعم موقفنا وتصورنا هذا، أي ما يبرره بشكل منطقي هو أن الأطباء والخبراء في الطب بينوا لنا بأن الفيروس لا ينتقل عبر الهواء أو عبر الموجات الكهرومغناطيسية التي تجوب العالم ككل التي من خلالها يصلنا صوت الشخص الذي نتحدث معه في الهاتف، بل يؤكدون أن انتقال الفيروس هو نتيجة طبيعية للتلاحم والاحتكاك المباشر مع المصابين، أو من خلال الرذاذ الذي يتركه الشخص المصاب حينما يعطس، هذا ما يزيد تأكيدا بأن إنتشار الفيروس كانت نتيجة حتمية للعولمة؟، أي للعلاقات المنفتحة بين الدول في العالم، وما يزيد تطعيم الافتراض السابق، هو أن الدول أغلقت حدودها البرية والجوية والبحرية، لأنه هي الطريق والمنفذ الوحيد الذي من خلاله يعبر الفيروس إلى كل الدول في العالم، أقول أنه استثنى بعض الدول التي اتخذت تدابير استباقية وأغلقت الابواب على ذاتها كأنها تعيش منعزلة على هذا العالم المعولم، كسبيل المثال كوريا الشمالية واليابان، ثم استثنى بعض الدول والدويلات التي تعيش خارج العالم المعولم أي خارج نطاق العولمة، سواء في جزر أستراليا أو في بعض دول في أقصى الجانوب في افريقيا التي تعيش منعزلة على الاقل في بعض الجوانب على العولمة، الشيء الذي جعل من الفيروس يستحيل أن يصل إليها. هاهنا يتضح بأن للعولمة أثر كبير جدا على عولمة المرض، وجعله في متناول الجميع، كما جعلت كل المواد الاخرى الاقتصادية والثقافية والسياسية في متناول الكل في واقعنا اليومي، الشيء الذي يجعل منه فيروس بريء من ناحية الانتقال والانتشار، أي أنه لا يأتي إليك من تلقاء ذاته، بل له حدود مقننة في الانتشار وفي البقاء حيا لمدة قصيرة، بل الانسان هو الذي يذهب إليه، وهذا طبعا في بعده الاول خارج عن إرادة الإنسان، لأنه أولا فيروس غير مرئي بل مجهري، ثانيا لكونه لا يتم الكشف عنه في الحين بل حتى تمر فترة حضانته في جسد الإنسان، من هنا يتجلى بأن فاعلية الانسان المستمرة في الحياة الاجتماعية بشكل عام، ونظرا لتفاعله المستمر من هنا إلى هناك وتوقه لحياة التيه والترحال كما يقول ميشيل ما فيزولي، سهلت لهذه الجائحة أن توسع نطاق ضحاياها بعدما كان ذلك محليا، أي ينتشر بين أفراد دولة واحدة، بينما أصبح عالميا ينتشر من دولة إلى أخرى بفعل فعلة العولمة. هنا في هذا السياق الدلالي يتبادر إلى ذهننا تساؤل أخر، على ضوء تلك التغيرات التي حدثت في سلوكياتنا وفي ممارساتنا اليومية في الواقع الاجتماعي، أي تغير نمط العيش، وتغير الروتين اليومي للإنسان في الواقع الاجتماعي، وتغيرت معه سياسات الدول مع اتخاد قرارات مستعجلة من أجل تفادي تفشي هذا الوباء، ثم تغيرت من خلاله خريطة العلاقات الدولية، هذا يجعلنا نؤكد نسبيا بأن ما يجعل هذه الاشياء في تغيرات مستمرة هو فاعل ما؟ الشيء الذي جعل من الفيروس حسب البعض فاعل اجتماعي لكونه يؤثر باستمرار في تغيير سيرورة الحياة اليومية في كل أبعادها وحقولها ومكوناتها: عائلة كانت أو مدرسية أو دينية أو معتقدية أو سلوكية أو اقتصادية أو ثقافية؟، لكن ألا يمكن في العمق أن نعتبر أن العولمة هي الفاعل الأكبر الخفي دوما على الأنظار في تغيير حقل الممكنات الاجتماعية عن الانسان في حياته؟، أي ساهمت في تغيير نمط عيش العالم، وتغيير سلوكياته وأفعاله، وجعلته يعود لأصله ولحميميته المحلية والوطنية المنغلقة على ذاتها التي تعيش في فضائها الخاص، أي جعلت الانسان يعود إلى أصله الاول في النشأة، يعود إلى الدولة المنغلقة على ذاتها، ثم نحو الجهوي وإلى المحلي وأخيرا إلى العائلة، أي إلى البعد الاصلي في الانسان والحميمي منه، يقال ولد الانسان في البيت ضمن أحضان العائلة، بفضل العولمة انفتح على المحلي والجهوي والدولي والكوكبي، ثم في الان ذاته بفضل العولمة ذاتها، عاد إلى ذاته إلى عائلته التي هي الاصل في وجوده وفي حياته ضمن هذه الرقعة الباهتة من الكون. فعلا إنها علاقة جدلية عميقة جدا مع العولمة التي أعتبرها في نظري الشخصي، هي الفاعل الحقيقي الخفي، أولا في نشر الفيروس عالميا، ثم ثانيا كانت السبب في تغيير مجموعة من السلوكيات والممارسات والافعال التي كانت تمارس في العالم المعيش بلغة هابرماس، مع الاخرين ومع الطبيعة. العودة إلى البيت وإلى العائلة، وإلى الذات من أجل إكتشافها من جديد، ومن أجل مسائلتها من جديد عن إنجازاتها في حضن العولمة التي واكبت الذات منذ ولادتها، أي مسائلة ما الذي فرطت فيه الذات حينما كانت مفعول للعولمة؟، أو كانت في علاقة جدلية معها في إطار أخد ورد مستمر بينهما، إنها عودة مؤقتة طبعا، إلى الاصل ثم إلى مسائلة الذات عن كل شيء، وتشخيصها وتقييمها، ثم إعادة خلق علاقة جديدة مع الذوات الاخرى من خلال إعادة التفكير في نمط العيش الذي سوف يتم بنائه من جديد خلال مسائلتها وذلك من خلال البحث عن اليقين الجديد من طرف الذات الشغوفة بالحياة، كما يقول ايرك فروم في ذات السياق في عبارات خالدة “عندما يضطر كل فرد إلى أن ينطلق ويجرب حظه، عندما يضطر إلى أن يسبح أو يغرق، ينطلق السعي القهري وراء اليقين، ويبدأ السعي المندفع وراء حلول بوسعها أن تحد من وعي الشك، وعندما يكون كل شيء محل ترحيب ما دام يعد يتحمل مسؤولية اليقين”، هكذا يتضح أن سعي الذات من خلال إعادة النظر في وجودها والحد من الشك الذي يراودها، سوف تأتي من خلال تجريب حظوظه في الحياة مع ذاته مع الاخرين مع الطبيعة أملا في الوصول إلى اليقين. في نظري إن كل هذا الذي يحدث، هو بفعل الفاعل الاضخم والسائل( تعبيرا عن مفهوم الحداثة السائلة التي يتحدث عنها زيغموند باومان) الذي هو العولمة، جعلتنا نعود إلى المحلي هروبا من المرض والوباء والموت، هروبا من قلق المجهول، والصراع معه أجل البقاء والاستمرارية الحياتية في المجتمع، لدى فقد حان الوقت أن نعيد الاعتبار لمقولة المحلي أيضا ضمن هذا الرجوع المؤقت إليه، لكي نقرأه من جديد ونؤسس عليه نمط حياة جديدة سوف تكون أفضل لا محالة. ربما يجدر بنا كذلك أن نسائل ذواتنا ومحلينا مرة أخرى لأهميته قبل أن تعيدنا العولمة ذاتها إلى أحضانها فجأة، لأنه لا ثقة مطلقة في فاعل خفي لا يرى، لكون كما يقول زيغموند باومان إن الوضع الراهن لسياسة الحياة يفتقر إلى بنية محددة وتطغى عليه السيولة، ليس ثمة صلابة قائمة في المجتمع بل في زمن العولمة السائلة أو الحداثة السائلة بلغته نسير هنا وهناك بين حل ومشكل، بين هذا وذاك، في اختفاء الزمن والمكان التقليدي معهما، لدى سرعان ما يستطيع هذا الفاعل الرهيب أن يعيدنا إلى حياتنا اليومية العادية بفضل ربما لقاح سوف يجدونه، وهذا طبعا شيء ايجابي سوف يكون أفضل وأجدر به أن يوجد لأنه سوف يخلصنا من شبح كورونا المجحف، لكن ما أحوجنا ألا نعود إلى حياتنا المعولمة بدون تغيير بعض الشيء من ذواتنا ومن علاقتنا مع الاخرين نحو ما هو ايجابي، وبدون تغيير الهوة التي كانت لنا مع المحلي رغم أننا نوجد فيه، لكن نوجد فيه كجسد وككيان مادي، بل منطق النظر ورؤيتنا وثقافتنا واقتصادنا منخرط وموجود كليا في العولمة، لذلك سيكون من الحكمة أن نعيد النظر في فردة الذات الأنانية التائهة عن تواجدها المشترك مع الأخرين، ونؤسس لنماذج التفاعل والاعتماد المتبادل كما يقول زيغموند باومان، أن نؤسس نماذج من المسؤولية التي يرجع فشلها إلى الفرد، بسبب فردنة الممارسات والانانية الساذجة، فآن الاوان لأذابتها وصهرها. أخيرا، ما أحوجنا إلى تعلم درس العولمة التي ساهمت في عولمة المرض وكوكبته؟ ثم ما أحوجنا إلى تغيير ذواتنا وعلاقتنا مع الاخرين ومع المحلي، في الوقت الذي كنا مغتربون عنهم بسبب انتشار العولمة ذاتها. * طالب بسلك الماستر تخصص سوسيولوجيا المجال وقضايا التنمية الجهوية بالقنيطرة