تطور مجلس المستشارين بالمغرب بطريقة خاصة، ويمكن معه القول أنها غرفة متفردة من نوعها عالميا. فمسار هذه المؤسسة لم يكن ناتجا عن تطور البناء الديمقراطي بالمملكة، ولم يكن تعبيرا عن حاجة لمؤسسة دستورية تعبر عن الإرادة الشعبية في طرح تصور معين للديمقراطية التمثيلية وكيفية ممارستها؛ ولم تكن هذه المؤسسة كذلك حلا ديمقراطيا لبناء نظام جهوي ديمقراطي، يمنح الجهة صلاحيات تشريعية وتنظيمية متعارف عليها دوليا. لماذا إذا نعيش بنظام برلماني بغرفتين؟. كانت لحراك 20 فبراير 2011م مطالب دستورية واضحة، تحولت لجملة من التوافقات التشاركية التي لم تخلو من سلبيات بالغة الأثر على طريقة بناء الانتقال الديمقراطي بالمغرب. ففي الوقت الذي ابتعدت بعض الأحزاب الوطنية من نظام الغرفتين في اقتراحاتها، وبدا ذلك منعطفا كبيرا في فكر النخبة السياسية الوطنية. أسرعت "نخبة الثلث الناجي" لتسترجع دورها في احتلال المؤسسة التشريعية، بطريقة تعتبر تكيفا مع مقتضيات ما بعد 20 فبراير، وعرقلة لممارسة الانتقال الديمقراطي. وكان المغرب اعتمد على نظام شكلي للديمقراطية منذ أول دستور سنة 1962، وكان نظام الغرفتين مظهرا بارزا لهذا الطابع الشكلي والوهمي. وحتى عندما انتهت حالة الاستثناء بدستور 1970 أبقى المشرع الدستوري على نظام المجلس الواحد، وعزز من الطابع الشكلي للديمقراطية، وتم الإبقاء على نظام المجلس الواحد (مجلس النواب)، في التعديل الدستوري لسنة 1972 و 1992م. وجاء دستور 1992 ليحافظ على نظام التحكم في المؤسسة التشريعية عن طريق "الثلث الناجي" الذي ينتخب بطريقة الاقتراع الغير مباشر، وهو ما وسع من هامش تزوير وزارة الداخلية للانتخابات، كما سمح للدولة بتصعيد الأعيان والسياسيين الفاشلين في الاقتراع العام المباشر ليحتلوا مكانتهم داخل مجلس النواب. ولكن مع دستور 1996 تطورت ثقافة "الثلث الناجي" لتصبح مؤسسة دستورية هي مجلس المستشارين، خاصة مع إقرار نفس الدستور لمؤسسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما حافظ عليه دستور 2011م. حيث ينص الفصل 63 من الدستور الجديد على: "يتكون مجلس المستشارين من 90 عضوا على الأقل، و120 عضوا على الأكثر، ينتخبون بالاقتراع العام غير المباشر، لمدة ست سنوات..." . ويظهر أن اقتراع 02 أكتوبر 2015م، أعاد للواجهة محنة البرلمان المغربي بمجلسين؛ حيث ظهر الاقتراع العام غير المباشر مسلح بشراء الأصوات، وهو أسلوب لتقويض الديمقراطية التي تراهن عليها الغرفة الأولى. وظهر من جديد لجميع السلط الدستورية، أن الدفاع عن بعض الفئات المعارضة للحكامة والشفافية الإدارية والاقتصادية، والذي شرعن بمقتضى القانون التنظيمي، انتج عمليا، عملية كبيرة من الفساد الانتخابي، وحفاظا على فئة تجار الانتخابات التي كان "الثلث الناجي" قد ولدها ورعاها منذ عقود من الزمن. وهذا بدوره ما يفسر قدرة 56 من الأعضاء السابقين، على العودة للمجلس الجديد المكون من 120 عضوا؛ وهو ما يعني أن "طبقة" سياسية متفردة ومتداخلة المصالح مع لوبيات متعددة، استطاعت الحفاظ على نفسها كجسم قادر على الاستمرار والتجدد. وعلى قدرة كبيرة في الضغط على المشرع الأول في الدولة، انطلاقا من اعتبارها جزءا لا يتجزأ من السلطة التشريعية؛ ولعل هذا الوضع يخلط أوراق المنتخبين بالاقتراع العام المباشر ويجعلهم تحت رحمة لوبيات متشابكة ومزروعة في مؤسسات دستورية متعددة قادرة على التأثير المباشر في التشريع والرأي العام. وإذا كان التمثيل الجهوي المقرر في الفقرة الثانية من الفصل 63 من الدستور الحالي، لا يخلو من الطابع الديمقراطي، فإن تمثيل الغرف المهنية في مجلس المستشارين، وفي المجلس الاقتصادي والاجتماعي، دليل كاف على عرقلة الاقتراع الغير مباشر لمفهوم وأهداف نظام الغرفتين كما هو متعارف عليه في الأنظمة الانتقالية والديمقراطية.