يشعر المرء بثقل المفهوم فقط حينما يفهمه، وليس بعازب عن ذهن أي مُحاور تلك الكلمة التي نقحمها في نقاشاتنا، والحاصل أنها مقتحمة إياه وإن شاطرنا الأبى نفس موقفه منها، تلك الكلمة هي (الدولة)، لكن أي دولة يقصد اللسان المغربي؟ إن كان يستقصد المفهوم بنظرة تاريخية، تستتبع التطور التاريخي، فإننا حتما سنحتار في تلمس خيوط ما يتغياه، إن لم يحدد الفترة التي يعنيها، فإن كان مقصده المرحلة البدائية، فالدولة التي يقصدها، غالبا، يعود أصلها للأسرة التي تكون مجتمعا قبليا يشتد ساعده فيؤسس تحت سلطة واحدة، وأما إن كان مقصده مقدما بقليل، فسيعني لسانه الدولة المدينة، التي تطورت عن قبائل تميزها حضارة مشتركة وقيم، مع الارتكاز على نظام سياسي قائم على الطبقية في التوزيع، فيما أنه إذا استقصد بالدولة الإمبراطورية، فإن ذلك ما يجعله يتغيا بلسانه الدولة بعد تجمع المدن وإقرار قوانين بالقوة، هنا تحضر الدولة بعظمة العرق، اعتقادا، وطغيانها، وأما إذا ذهب اللسان إلى القرون الوسطى، فإنه سيعرج إلى تغير النظام لإقطاعي تتداخل فيه الملكيتان الخاصة مع العامة، حيث الوحدة الأصغر تخضع للأكبر، وهذا ما أسس لطبقة النبلاء (الارستقراطيين)، ما جعلهم يحتفظون بقيادة مقاطعات اقتطعت لهم مقابل الولاء للملك… لنتوقف عند بزوغ نجم مؤسسة الكنيسة، من زاوية قانونية، قبل الدخول في دوامة ما بعد هاته، فبحلول القرن الحادي عشر من خلال جهود غريغوري السابع، نجحت الكنيسة بتأسيس واعلان نفسها بأنها «كيان مستقل من الناحية القانونية والسياسية داخل المسيحية الغربية» مما أتاح للكنيسة قوة سياسية وتأثير كبير على المجتمع الغربي. نصل هنا لمفترق أحب أن أسامرك فيه، ذلك بعد التساؤل عن محل (الكنيسة) في أوروبا من الإعراب، في الفترة التي توقفنا عندها ستكون الكنيسة محافظة على وحدة سلطتها، وسيادة الإكليروس (النظام الكهنوتي المسيحي)، فيما أن الملوك أرغموا على التنازل للطبقة الارستقراطية عن السلطة في مقاطعاتهم، وهو اتفاق مسبق بين مؤسستين، حولتا المجتمع لطبقتي (بترون) أسياد، و(كولون) عبيد، معضد بمشروعية كنسية، تستند لقول: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) وإن معارضة السلطة على الأرض هي معارضة لله، وهنا كخلاصة يقول ديورانت: (أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضي، وأكبر السادة الإقطاعيين في أوروبا، كما كانت الكنيسة تملك المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية باعتبارها أوقافًا للكنيسة)، على إثره بلغت سلطة البابا الدينية المهيمنة على ذوي السلطة الإدارية والسياسية أَوْجَهَا، حتى كان باستطاعة البابا أن يُتوِّجَ الملوك والأباطرة، وأن يخلع تيجانهم إذا نازعوه ورفضوا أوامره. لا شك أن هذا قد ذكرك بالعلاقة بين (مدينة الله) و(المدينة الدنيوية). لكن الاتفاق لم يكن صديقا للرضى، بل إن التوازن أفرزه، وإن تخلله الصراع، فخلال القرون الوسطى كانت القوى المؤثرة على الصعيد السياسي في المجتمع الغربي هي: النبلاء ورجال الدين والملوك، وقد نتج عن ذلك صراع في بعض الأحيان بينهم. وكانت سلطة الباباوات قوية بما يكفي لتحدي سلطة الملوك. ولعلّ نزاع التنصيب أهم صراع بين الكنيسة والدولة في أوروبا خلال القرون الوسطى. إذ تحدت مجموعة من الباباوات سلطة الملكيات في السيطرة على التعيينات لمسؤولين عن الكنائس. لقد أفادت العقيدة الكاثوليكية، في العصور الوسطى، بأنه يجب على البابا امتلاك السلطة المطلقة على الكنيسة والسلطة غير المباشرة على الدولة بصفته نائب المسيح على الأرض، هنا تكمن خطورة الوضع، فهذه الرؤيا هي إحدى فروع النظرية الثيوقراطية (الحق الإلهي أو التفويض الإلهي)، هذا ما جاءت به البابوية لتملأ الشرخ الذي حدث، في اعتقادها، بعد اندحار الإمبراطورية الرومانية، وإلا فذلك جلي في اعتبارها أن ما تركه الرومان من علم وفلسفة ميراث وثني وجبت محاربته، فبعد سقوط روما أصبحت البابوية مصدر استمراري للسلطة وسيطرت على المسائل العسكرية، وعلى ذلك صار الحق والباطل، مقدر بمعيار كنسي، وباتت تهمة الهرطقة والإلحاد تلاحق كل ثائر على الفكر الكنسي، على ذلك باتت أوروبا في بئر مظلم، كيف لا والنظرة الكنسية الاستعلائية قد هاجمت كل مجتهد (كوبرنيك، جيو دانو برونو، جاليليو…)، ولا شك أن هذه إحدى لمسات الحركة الإنسية، في تطوير الفكر، عبر إحياء الفكر اليوناني، بعد إقباره أولا، من طرف الرومان، ثم من قبل الكنيسة. ومن هنا ستتركز مسألة الفصل بين الكنيسة والدولة، في المناطق التي اتسمت فيها العلاقة بين الملك والكنيسة بالتوتر، لتكون النتيجة في صالح الكنيسة كما أسلفنا. لابد أنك قد سمعت بالإصلاح الديني وظهور البروتستانتية (على الأقل لأعيدك إلى السنة الأولى لك بالثانوية)؛ إذ أن أبرز دعاته قد تناولوا مسألة العلاقات بين الكنيسة والدولة بهدف حماية الكنيسة من الدولة في المقام الأول، وهذا ما يبدو في توجه مارثن لوثر الذي استهدف تقويض سلطان البابا، يسعفه بالحجة في ذلك جون كالفن، الذي اعتقد أن الكنيسة ذات أصل مقدس، هذا ما سيكرس البروتستانتية كفكرة انشقاقية عن سلطة البابا والإكليروس، فهل يمكن اعتبار دعوة لوثر دعوة للحرية الإنسانية أو للعقلانية؟ كيف يقال نعم، والرجل جاهر بأن دور الدولة هو حماية الدين من المارقين، وجاهر بإعدام (الأناباتيست)، التي تعرف اليوم باسم الأميش، بعد انسلاخها عنه، وهاجم ثورة الفلاحين التي قمعت بقسوة، وأعدم زعيمها وات تايلر (عام 1381)… لكن ما يحسب للحركة اللوثرية أنها أضعفت السلطة البابوية وغرست بذرة حبوب الدولة القومية وصولا إلى العلمانية، لأن اللوثرية دعمت الشعور الوطني، حيث أن كل المناطق التي تسيدت فيها هذه العقيدة، عرفت سيادة الأمير للكنيسة، بينما رجال الدين مساعدين له. ذلك ما يعد سببا، نضمه لأسباب أخرى، في ظهور الدولة الوطنية، بعد انقسام أوروبا دينيا، ومنه سياسيا، فصار الاقتتال حالة عارمة بين الملوك والبروتستانت والكاثوليك، ومنه توقيع صلح (معاهدة ويستفاليا) في 1648، هذه الأخيرة كانت إيذانا لتراجع سيطرة اللاهوت على أوروبا، ومنه انطلاق شذر العلمانية، حيث تركت للملوك حرية اختيار اعتقادات رعاياه دون أن يكون للبابا شأن في ذلك. كان ذلك، بالاستفادة من أفكار ميكيافيلية الصنع؛ إذ يمكن القول: (إنّ الموقف العلماني والقطيعة السياسية مع تراث العصور الوسطى ظهر مع كتابات «مكيافيلي»، الذي يُعَدُّ أول من دعا إلى تقويض السلطة الكنسية، مؤسّسًا لفكرة “العلمانية” في السياسة)، بتثبيت عدم إمكانية قيام دولة حديثة قوية، إلَّا عن طريق استقلال السياسة عن كل المعايير التي تحكم المجالات الإنسانية الأخرى بما في ذلك المجال الديني، من هنا يبدو أنها فكرة تقطع ليس مع الدين فقط، بل مع المرجعيات الأخلاقية عامة، إلا أن مرجعية ميكيافللي، تأثرت بخلفيات تاريخية غذت حقده على الكنيسة. ليس بعازب عن الأذهان، أن هذه الأفكار ما كان ليصالحها التطور، إلا بفضل عصر النهضة، كعصر اتسم باعتماد اللغة الوطنية أولا، ومعارضة الإقطاعية، فالارتقاء بالوطن والأمة وصنع الحضارة القومية، ثم تملك العلوم والتغذي على حضارات أخرى، والتطور الفني والعمراني. لقد كان للنظرية التعاقدية الأثر البالغ، في تطوير الفكرة، سيما مع لوك، الذي أسس لسيادة القانون، من خلال معارضته “السلطة المطلقة” من منطلق إيمانه بالقانون الطبيعي الذي لا يضم أي استثناء. بعده سيكون لبروز مذهب الربوبية، الذي اختلف عن مذهب الألوهية، من حيث الاعتقاد في وجود الله، وخلود الروح، لكن مع عدم التسليم بصحة العقائد الدينية والمذهبية التقليدية؛ أي عدم الإيمان بالوحي والنبوة، دور في تقويض (الحق الإلهي)، لكن ما يلفت النظر هنا، ذلك التشابه مع المنهج الابن رشدي من حيث الأخذ بالقياس العقلي في التعرف على الإله، لكن مع اختلاف أن ابن رشد لا يلغي القياس الشرعي. مفترق الطرق، حيث يجمع هذا المذهب على أن الإله لا يتدخل في نظام الكون، استنادا لقانون طبيعي حتمي، وذلك ما يمتد للنظام السياسي، حيث لا يتدخل الإله (صاحب السيادة) في التشريع، الشيء الذي سيمكن المذهب من علمنة المفاهيم. هذا ما يمكن تصنيفه، على أنه رد فعل على بنية لاهوتية قائمة على تبرير الاستبداد، لهذا كانت هذه الحركة مؤسسة على نقد اللاهوت، حيث أن النقد التاريخي للنصوص الدينية اليهودية بدأ مع سبينوزا في رسالته الشهيرة “رسالة في اللاهوت والسياسة”. لنسترح قليلا، بعد أن تخطفتنا الأحداث من عصر لعصر، مع قلم هرم، حيث يقول محمد عابد الجابري: (والسؤال الآن هو: هل النصوص الدينية الإسلامية، أعني القرآن والحديث، هي في حاجة إلى مثل هذا النقد التاريخي؟)، يبدو أن هذا الإشكال جدلي، فلا فرصة سانحة للشك في النص القرآني، لما تعرض له من تمحيص، كما يقر بذلك الجابري قائلا: (وإذن فليس هناك مجال لممارسة “النقد التاريخي” حول صحة النص القرآني، ولا أعتقد أنه قد يكشف عن شئ آخر غير ذلك)، لكنه لا يعترض على النقد في التفسير والتأويل، (أمام كل من يأنس من نفسه القدرة على ذلك من حيث الكفاءة اللغوية والاطلاع على تاريخ نزول القرآن، أعني الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول الخ… مما هو مفصل فيما يعرف ب”علوم القرآن”)، وأما (“النقد التاريخي” بالنسبة للحديث فقد مورس على نطاق واسع منذ عصر التدوين وهو يشكل جزءا من التراث وهو قابل للنقد كغيره من أجزاء التراث الأخرى)، يضيف الجابري (وأعتقد أن غياب الكنيسة في الإسلام يجعل شعار العلمانية شعارا غير استراتيجي في أي خطاب يطرح قضية العلاقة بين الدين والسياسة في المجتمع الإسلامي. ذلك لأنه لا وجود لمؤسسة دينية يمكن أن ينصرف عليها وحدها خطاب العلمانية كما كان الشأن في أوربا.)، على ذلك يستبدل الجابري مصطلح العلمانية بالديمقراطية والعقلانية. قد يقول قائل، إنما العلمانية هي تفسير كل الظواهر تفسير علميا، ولكن إذا ما عدنا للفظ secularism وجدناها في دائرة المعارف البريطانية توازي الدنيوية، وقد يفيد هنا قلم هرم آخر كطه عبد الرحمن، الذي اعتبر لفظ “الدنيانية” مقابل للعلمانية بشكل عام في مصافحتها وتطابقها مع مصطلح “Secularism” باللغة الإنجليزية، واقترح “العَلمانية” التي فصلت السياسة عن الدين، “والعِلمانية” للعلمانية التي فصلت العلم عن الدين، “والدهرانية” للعلمانية التي فصلت الأخلاق عن الدين، وقد ذكر أن هناك علمانيات أخرى: منها علمانية فصلت الفن عن الدين، وثانية فصلت التربية عن الدين، وثالثة فصلت الإيمان عن الدين، وهلم جرا، دون إغفاله أن العلمانية في تطورها تتجه نحو الأسوأ، حيث أنها تحصد ما يأتي في طريقها من علم وسياسة وفن والأخلاق… في اتجاه الفصل عن الدين. يقسم طه عبد الرحمن العلمانية (الدهرانية) إلى طبيعية، معتبرا روسو خير ممثل لها، وأخرى نقدية، جسدها كانط، ثم اجتماعية، ارتبطت بدوركهايم، وبعدها الصيغة الناسوتية، عند فيري، ليخلص في آخر ما كتبه بكتابه: (بؤس الدهرانية: النقد الإئتماني لفصل الأخلاق عن الدين)إلى أن الصيغ الأربعة اتفقت على رد الآمرية الإلهية إلى الآمرية الآدمية، واختلفت مضامين هذه الآمرية الآدمية من صيغة لأخرى، فالصيغة الطبيعية نسبت هذه الآمرية إلى “الضمير”، والصيغة النقدية نسبتها إلى “الإرادة”، والصيغة الاجتماعية نسبتها إلى “المجتمع”، والصيغة الناسوتية أسندتها إلى “الإنسان الإله”. يقول العروي: (إنّ وضوح المفاهيم المستعملة لا يوصل بالضّرورة إلى إدراك الواقع، لكن على الأقلّ تخلّص الباحث من التّساؤلات الزّائفة. وما أكثر التّساؤلات الزّائفة في ميدان نقد الذّهنيات)، هكذا يبدو أن الاختلاف مفاهيمي محض. فهل يجوز لنا إذن، التواكل في صناعة المفاهيم أو بالأحرى تطويرها؟، والحاصل أن أحداث تاريخ المجتمعات وسياقاتها تختلف، وبذلك فهي ظل للفكر، فخذ طغيان رجال الكنيسة وصراع الأخيرة والعلم ومنه فعدة من مناحي الحياة المعضَّدة بطبيعة التعاليم النصرانية (باعتبارها موغلة بعض الأحيان في السماحة بعيدة عن الواقع)، ما أدى لثورة فرنسية 1789، كانت مسرحا لتمثيل الأفكار من حيث الممارسة. كل هذا يجعل المفهوم ابن شروطه، فتحقق الأسباب عينها سيحيلنا لنفس النتائج، وهذا ما على مجتمعاتنا اليوم أن تفهمه، بكافة طبقاتها، فالعلمانية نتيجة مقدماتها، وإلا فأن يقال بأن الدين ساحة الاجتهاد فلكم هذا جدير بالتشجيع (للمجتهد أجران إن أصاب وله أجر إن أخطأ)، لكن هل يمكن الاجتهاد بمرجعية غير الإسلام في أحكام الاسلام؟ بل هل يرجى اجتهاد مثلا من غير عاقل أو غير عالم بالقرآن والحديث والاجتماع والناس والمنسوخ؟. تبقى الأسئلة فقط للإستفسار، ولعين جديرة بالتمحيص تصويب الظاهر، وعقل يقظ تحسين ونقد الباطن. جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة