من تأمل حياة هذا العلم الذي غادرنا وغُدِرنا بمغادرته ممن غمره وقيده ومنعه من ممارسة أي نشاط ديني!! هذا العلم يذكرنا بشيباني العراق وإمام أهل السنة والصامد الحر المحتسب الزاهد، الإمام أحمد رحمه الله.. فشيباني المغرب يظنه شباب اليوم أنه ذلك الفقيه المحرابي الذي لا ولم يحسن إلا الإمامة والخطابة والمواعظ وحضور الولائم، والاستدعاء للترنم بالقرآن، بل كان يحمل هما مجتمعيا واقعيا فكريا تجديديا فكان رائدا في مجال الإعلام وكتابة المقالات فأنشأ عدة مجلات منها مجلة الحديقة ومجلة أفكار الشباب وجريدة البرهان، وكان مرجعا في العمل الطلابي والثقافي والفكري، ومجابها لسياسات المستعمر الإسباني وأذنابه من العملاء والخونة، هذا إضافة إلى عمله الدعوي والتعليمي في الخطابة والوعظ والتدريس، وكل هذه المظاهر نجدها جلية واضحة في شيباني العراق ابن حنبل الذي كان حاضرا في واقعه ومع إشكالات مجتمعه، مصلحا مجددا مستنيرا… كما أن شيباني المغرب كان محدثا لا يشق له غبار، إماما للدنيا في الإسناد، يقصده الكبير والصغير من مشارق الأرض ومغاربها، إضافة إلى ما أتقنه من باقي العلوم الشرعية من لغة وفقه وأدب وغيرها، وكذا كان شيباني العراق الذي لقب بأمير المومنين في الحديث جامع أكبر مسند وصل إلينا كاملا، وكان فقيها مفتيا متفقا على رسوخ قدمه وعمق نظره رحمه الله.. وشيباني تطوان رحمه الله كان ورعا زاهدا بعيدا مبعدا نفسه عن أعتاب السلطان وموائده، نائيا بعزته وعفته عن كل استعمال أو استغلال مكبا على ما أتقنه من علم وفن ودعوة وقراءة مستدبرا لكل منصب أو جاه جاءه يطلب وصله ومنادمته، كذلك كان شيباني العراق، وتراجمه التي ملأت الأسفار والأفكار، شاهدة بتواتر ذلك، فكم منصب قدم بين يديه فأعرض عنه، وكم من عطاء قصده فهرب منه، وبقي كذلك إلى آخر لحظة في حياته.. وكان شيباني المغرب نهما في قراءاته منذ صغره حريصا على قصد الكبار ومجالستهم والأخذ عنهم، وجمع له بذلك علم غزير وفهم دقيق وسند عال كثير ليس بينك وبين الدوحة النبوية إلا رفع الستار كما يقال.. وهذا ما أخبرتنا به التراجم والكتب عن شيباني العراق فكان مسند الدنيا وإمامها في عصره رحمه الله.. ومن حسن الطالع أن شيباني المغرب رحمه الله عمر ثمان وثمانين سنة وشيباني المشرق عمر سبعا وسبعين سنة… كما أن شيباني تطوان رحمه الله كانت له اليد الطولى في الكتابة بشتى أنواعها والتأليف والتصنيف والتحقيق وقد فاق ذلك الثلاثين مصنفا، هذا إضافة إلى المقالات والأبحاث، هذا أمر متواتر عن إمام المحدثين أحمد بن حنبل فجمع المسند ومصنفات في شتى العلوم في العلل والمسائل والعقيدة والزهد والفضائل وغير ذلك.. وكان شيبانينا رحمه الله صادعا بالحق لا يخشى لومة لائم فمنع من كل نشاط ديني من الوعظ والخطابة والتدريس، فرد متهكما “هل يدخل في ذلك الصلاة، باعتبارها نشاطا دينيا!!” فكان ذلك فتحا قريبا واسعا شاملا حيث قصده الطلاب من كل حدب وصوب إلى بيته ومكتبته العامرين، سؤالا وتدريسا وتعليما ومناقشة ومذاكرة وكان رحمه الله لا يرد أحدا، ومن انطماس البصيرة عند البعض التي تقول إن جوهرة كهذه علما وفقها وفنا تقصد من أقاصي الدنيا فنحن أولى بها، وإكرامها حق علينا!! ولكن البصيرة المنطمسة منعت عنه الزيارة وحذرته من ذلك، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور!! ولم يزده ذلك إلا صبرا واحتسابا واستمرارا، وهكذا فعل بشيباني العراق رحمه الله سجن وعذب ونكل به ومنع من التدريس والفتوى وأُلزِم بيته فذاع صيته وذكره وطمس ذكر ساجنه ومانعه ومنكله… كان شيباني المغرب قريبا متواضعا لطيفا مع طلابه وما الفيديو الذي صُوِّر وهو يعطر طلابه إلا قطرة من بحر ذلك التواضع وذلك اللطف والقرب، وذلك يظهر كذلك في هندامه رحمه فلم يكن متميزا وبروتوكوليا كبعض المشايخ الذين يظنون أن العظمة في الهندام!! بل كان رحمه الله كما روي عن الحبيب صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليه بين أصحابه لم يميزه الداخل… كذا كان شيباني العراق زاهدا متواضعا قريبا من طلبته لا يحتجب عنهم، يرافقهم في طرقاتهم وفي مجالسهم… وكان رحمه الله فطنا لأي استلاب من أي جهة دعوية على حساب الأخرى، ظلما وعدوانا مهما تصنع المتصنعون وتدثر المتدثرون، وهذا يحدّث به القريب والبعيد، وكلامه وفيديوهاته وبياناته مصرحة بذلك، و كان رحمه الله، قريبا من الجميع محبا للجميع وإن كان مذهبه سلفيا ولكنها سلفية الفقهاء العقلاء والحكماء، وكذا كان شيباني العراق قريبا من كل معتدل بعيدا عن كل غال متكبر… وكان شيباني المغرب رحمه الله كثير الطلاب من شتى البقاع، من الأكاديميين والتقليديين من الكبار والصغار والنساء والرجال، لو دونت أسماؤهم لملأت الدواوين والأسفار، وكان لكثير منهم الأثر العميق في المسار العلمي والدعوي والمجتمعي…أما شيباني العراق فحدث وأنت مستيقن وتكفيك الروايات والكتب عن الحديث والبرهنة… وختاما وهذا الذي دعاني لكتابة هذه الأسطر إذ إنني مع الأسف كنت من المغدورين الذين لم يتيسر لهم اللقاء مع الإمام رحمه الله والأخذ عنه، وذلك لرحلتي المشرقية التي دامت خمسة عشر سنة تقريبا، ولتقصيري ولظروف أخرى… الذي دعاني لتدوين هذه المقارنة هو تلك الجحافل الكبيرة التي لاحظتها وشاهدتها في جنازة الشيخ رغم الإهمال الإعلامي الرسمي، إلا أن المحبين تنادوا من كل فج عميق ليشهدوا تلك الملحمة الكبرى، وتلك الجنازة المباركة التي قالت لمانع صاحبها بيننا وبينكم الجنائز، فالمكرم حقيقة هو الله عزوجل، والإعلام الحقيقي هو ذلك الإعلام السماوي الذي ينادي يا ملائكتي فإني أحببت فلانا، فأحبوه فتنادي الملائكة يا أهل الأرض أحبوا فلانا، فيسبط حبه وقبوله في الأرض وإن شوش المشوشون وشوه المشوهون.. تلك الجنازة تقول لهم: نحن هنا أحياء وأمواتا، إن ذهبت ذواتنا فكلماتنا باقية ساطعة براقة تتسلل إلى كل قلب حي لا توقفها الموانع والحواجز… تلك الجنازة تقول لهم: فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا… إلى غير ذلك من تلك النداءات والتصريحات التي قالتها جنازة شيباني المغرب وجنازة شيباني العراق وما بينهما وما بعدهما من جنائز الصادقين الصابرين المحتسبين الأحرار الأبرار، رحمه الله السابقين وثبت الله الحاضرين وبارك الله في اللاحقين… ولا نقول هذه المقارنة تقديسا، فلكل جواد كبوة وذوقا ودينا الكبوات لا تذكر في مثل هذه اللحظات، والجواد الأصيل ينبغي أن يكرم ويحترم، وكبوته مغمورة في بحور صولاته… جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة