اعترف الرئيس التونسي السيد قيس سعيّد أثناء إلقاء خطابه في ولاية سيدي بوزيد بمناسبة انطلاق الشرارة الأولى للثورة التونسية على نظام زين العابدين بن علي يوم السابع عشر من ديسمبر 2010، بأن هناك عصابات ومافيات تدير الشأن السياسي والاقتصادي في تونس من وراء حجاب، وأن أمر الرئاسة لا يهمه بقدر ما يهمه تحقيق الحرية والكرامة والعزة لشعبه، وما فتئ يذكر ويردد هذه الكلمات كلما التقى بشعبه وقد أعاد الكرّة والمرّة تلو المرّة أنه مصمّم على محاسبة الفاسدين، وأنه يعمل في صمت ولا يعير اهتماما لما يكتب في وسائل الإعلام المختلفة، وسيرى الشعب التونسي قريبا النتائج على الأرض، وقد كان الشعب متلهّفا لسماع مثل هذه الكلمات بعد أن ظمئ سياسيا واقتصاديا، وشُحّت منابعه، وفُقدت ثقته في المسؤولين، وشعر بانكسار وبدأ يفقد الأمل. وتحدث الرجل بكل ثقة، بل وبكل قوة، عما يجري في تونس، من انتهاك واضح وفاضح لكل القوانين والأعراف، من قبل فئات لا تؤمن بتونس ولا بحب الوطن، وتفضّل مصلحتها قبل مصلحة الشعب، وذكر أنه بالمرصاد لكل المحاولات وهكذا بقيت تونس تحت وطأة هذه العصابات إلى اليوم رغم التحول الديمقراطي الذي شهدته في 2011، وسمحت به هذه العصابات لأنه لم يمسّ جوهرها، فقد سمحت بحرية التعبير لكنها لم تسمح على يبدو إلى حد الآن بالتغيير الجذري، وأوله محاربة الفساد وفتح ملفاته ملفًّا ملفًّا دون محاباة، والقضاء عليه تدريجيا، ولذلك سماها بالغرفة المظلمة التي تدار من قبل أناس قال لهم أنتم تعرفونهم بالاسم، وما بقي إلا كشف ما يجري في هذه الغرفة الظلمة والقبض على المجرمين وإحالتهم للقضاء والاقتصاص منهم حتى ينعم الشعب بالحرية والعزة والكرامة. وبقيت تونس بين الغرفة السوداء التي تحدث عنها الباجي القايد السبسي آنذاك واتهم النهضة بأنها تُديرها، مهمتها اتباع سياسة الاغتيالات في تونس للشخصيات المعارضة لها، ولذلك يتهم اليسار النهضة بأنها وراء اغتيال شكري بلعيد والبراهمي، وغيرهما، وابتعاث الشباب التونسي لسوريا للقتال، وحتى الباجي القايد السبسي نفسه اتهمها وقتها وهو على كرسي الرئاسة باستهدافه شخصيا، ولم يكشف القضاء إلى اليوم طبيعة هذه الغرفة السوداء كما يزعمون، ولا السياسة التي تتبعها، وهل فعلا هي موجودة على أرض الواقع أم هي من الوهم الذي يتخذه اليسار ذريعة لإسقاط النهضة من المشهد السياسي، وبين الغرفة المظلمة التي تحدث عنها السيد قيس سعيّد وتحقق منها كما يبدو، وبات يؤكّدها، بل أعلن أنه سيحاربها بكل قوة، ولن يتوانى في كشف ملابسات القضية التي كانت ولا تزال تؤرّق الشعب التونسي، ويرى أنها السبب في تأخّر تونس في المجالات كافة. بين الغرفتين يعيش شعبٌ بأكمله، يتمنى أن يفتح عينيه على مستقبل جديد مشرق، بعيدا عن الحسابات المصلحية الضيّقة، وبعيدا عن أجندات خارجية تموّلها العصابات الدولية، وبعيدا عن أي تجاذبات سياسية محليّة، بل يرجو أن يتحقق الأمل، ولذلك هو يتحلق حول الرجل النظيف المنقذ كما يرونه، ويرفعون الشعارات الداعمة له “اضرب يا قيس والشعب معاك ” كناية عن ضرب الفساد من جذوره ولا خوف من هذا الاخطبوط، لكن يبدو أن الرئيس التونسي يطبخ المسألة على نار هادئة، ويريد من الشعب أن ينتظر قليلا، حتى يكون القصاص شرعيا وقانونيا، وحتى يؤتي أكله، وحتى يكون الإجراء شعبيا، فكما قال الشعب هو الذي سيقول كلمته فيهم كما قال كلمته المدوّية في صناديق الاقتراع عندما انتخب الرجل. بين الغرفتين السوداوين، يبقى الأمل موجودا، والنور غير مفقود، فالشعب التونسي ينتظر، وقد تعلّم الصبر منذ 2011، بل قل في تاريخه بالكامل، فمنذ حقبة الاستعمار وهو يتحمل آثار الفساد الذي يقبع على عنقه، ويريد أن تُرفع الأغلال عنه اليوم بعد أن تسنّم الحرية، وتنسّم هواءها، وشمّ ريحها، ولا يريد أن يرجع إلى الظلام، بعد أن شرع في البحث عن النور وكاد يصل، بل سيصل في وقت ما، عندئذ ينقشع الضباب، وتتضح الرؤية ويتبدى الظلام، ويقضي على السواد الذي طال أمده، فهل يمكن أن يحقق سعيّد ما وعد به؟، وكيف سيواجه الغرفة المظلمة، وربما الغرفة السوداء، ويحولهما إلى غرفتين تشع منهما روح الحرية والكرامة والعدل والمساواة وتنعم جميع الولايات من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق على الغرب بالتنمية والتشغيل وتزدهر البلاد حيث تتخلص كليا من نظم الفساد؟.