صمت يجلله صمت، ورهبة تجلل برهبة، ووحشة تجلل بوحشة، ومجهول يغوص بالمجهول، وغموض يهوي إلى قعر أعماق الغموض. الشمس هنا تختلف عن شمس الأرض ، هنا تغلي الأشياء على مرجل الهيبة المنبثقة من رعب المخفي تحت الثرى ، تلتهب الأشياء وتصفر الحشائش ، ترى الحزن الساكن بكل غصن من أغصان الشجر ، وترى الموت الموزع على الأشياء المحاطة بسور المقبرة ، تتدلى الشمس من مكانها ، تهبط نحو الرأس ، يغلي الدماغ ، تتسلل إلى توزيعاته وتشعباته رهبة القادم والماضي والحاضر ، تتناثر الأفكار وتصطرع ، تضغط الحرارة على مركز الوعي والسيطرة ، تنهار المسلمات واللذات ، تتلوى الأفكار كصل منزوع من حرارة الصحارى ، تهبط نحو القبر ، أو تحس بانزلاق القدمين نحو حفرة مفتوحة لغيب ما زال مطويا في حجب اللحظات والأيام القادمة. ما هي المقابر ؟ ولماذا تسكننا الرهبة حين نداهمها أو تداهمنا ؟ ولماذا لا ينبت “البصلون “إلا فيها ؟ ” البصلون ” وحده قصة غامضة ، تتوحد مع غموض المقابر وما يحيط بها من مجهول ، نحن نعرفه منذ الطفولة ، كنبات كريه الشكل والرائحة ، لملمسه نكهة من عذاب مضطرم ، تتولد في الجلد ، تدفعه نحو الاحمرار الشديد ، نحو الحك المتواصل ، حك ممزوج باللذة والغضب والألم والوجع والانهيار ، وحين كنا نحاول استئصاله بجهد جماعي ، ونهوي بالفؤوس والمجارف على جذوره ، كان يقاومنا ببعث رائحة تقشعر لها الأبدان ، ولكننا بعزم وتصميم ، متوحد مع غل مجهول ، كنا نتعمق في الهبوط نحو جذوره ، لنزيلها ونتركها لشمس المقبرة ، تلك الشمس المتدلية كقبة من نار غضبى على مساحة الموت والمجهول. وحين كنا نعود بعد أيام ، مع جنازة جديدة ، كنا نراه وقد انبثق من تحت ركام الموت والمجهول ليتحدى الشمس وحرارتها اللاهية. لماذا يستطيع هذا النبات تشقيق الموت والإطلال برأسه نحو الحياة ؟ رغم قساوة المكان والمجهول والغموض ، ولماذا – وببساطة – يتلاشى الإنسان كبخار معدوم من الوجود والبقاء حين يهبط نحو الأسفل ؟ لعل ” البصلون ” يمارس ثأره الأزلي من تعسفنا وكراهيتنا له ، دون سبب أو مبرر ؟ وحين نهبط نحو الأرض ، يغوص عميقا ليمتص وجودنا ويوزعه على القبة المتدلية كبركان محموم بالغضب والثورة. تتوغل قليلا في المقبرة ، تدخل أعماقك القبور المنخسفة ، والقبور المتهدمة ، وتنتشر بأعماقك تشققات جدران القبر الضخم المشاد فوق جثة لا تستطيع مقاومة جذور ” البصلون ” أو الدود المتوالد والمتناسل من بقايا جسد كان يغتسل بالماء والعطر. ترى الحراذين وهي تسارع بالانتقال من شق في هذا القبر إلى شق في ذاك القبر ، تطاردها ، لكنك تعجز عن الوصول إليها ، عن اكتشاف مكانها ، فتاتيك الفكرة ، ربما غاصت في القبر ، لتتوارى بين حنايا الموت الراقد في الجثة ، ولتمارس طقسا من الغموض والمجهول . منذ الطفولة وللحراذين بأفكارنا مكانة خاصة ، مميزة ومتناقضة ، لا نفهمها ولا ندركها ، فنحن نطاردها من سور إلى سور ، نلهبها عذابا ووجعا ، نصبغ العشب بدمائها ، ثم نتركها تتعفن ، لا لشيء سوى أنها حراذين . وحتى مقولة الصلاة التي كان يؤكدها كبار السن ، صلاة الحراذين على الأسوار ، وعلى أسطح المنازل ، والتي كنا نشاهدها ونشهد عليها ، إبتكرنا لها أغنية غريبة ، ترتبط بالموت والعذاب والنار . كنا نطاردها ونحن نغني بصوت جماعي ” صلي صلاتك يا حرذون ، أمك وأبوك في الطابون ” أغنية تربط الصلاة ، بالموت ، بالعذاب في النار ، ربط خرج من اللاوعي واللاارادة . لماذا كنا ندعو الحراذين للصلاة ، ونحن نعلمها بوجود والديها في الطابون ، طابون الفلاحين المستعر بالحرارة واللهب . كيف تولد الحقد فينا على مخلوقات ضعيفة تمارس العبادة ، كما كنا نفهم منذ الطفولة ؟ الحراذين أدركت ذلك ، بطريقة ما ، وحملت جنسها نحو المقابر ، طلبا للأمن والحماية والبقاء ، احتمت بالموت من الحياة ، واحتمت بالمجهول الغامض ، من المعلوم والمعروف . فهل تركناها تنعم بصداقة الموت والمجهول ؟ تشعر بخشخشة بين الأعشاب الملوحة ، المحروقة والمصلية ، تطل عليك أفعى ضخمة ، ترقبها بعيون الرعب والهلع ، المقبرة والموت ، يبرزان أمامك كماردين من نار ، تشعر بالسم يسري بكيانك ، تتحسس جسدك ، تمسك انتفاضة الجلد المتواصلة ، تحدق بالأفعى ، وهي تتلوى ضائقة ذرعا بسم تدفعه الحرارة للخروج ، تتسارع دورتك الدموية ، وتبدأ القبة المتدلية بالغوص في أعماقك . تقفز رعبا حين تلمس قدمك ورقة نبات جافة ، تصرخ صرخة تتكون في نغماتها انبعاثات الموت ورائحته ، تفتش عن الأفعى ، فتصبح مستحيلا بعد وجود. تتحول إلى قطعة من الجبن والهزيمة والصغر ، تضج أحشاءك وتصطدم ، تتمنى دخول احد ما ارض المقبرة ، تلك الأرض المنزوعة من ذاكرة الإنسان والزمان والمكان ، رغم توسطها المدينة ، ورغم التفاف الشوارع حولها كحيات عملاقة. التوقع والتحسب يسكنان أعماقك ، تتحول إلى قطعة من الخوف والعجز ، كقطعة من انهيار مشهود . ألم يكن الحرذون يوما بين يديك ؟ فلماذا لم تشعر بأحاسيسه ونوازعه وهو يتلوى عذابا ووجعا وخوفا وعجزا ؟ لماذا لم توقف انهياره المشهود ؟ منذ سنين ، رحلت الحراذين من المقابر ، تلاشت ، ترى في أي مكان تخنفي هي الآن ؟ مقابر الطفولة ، تختلف عن مقابر الشباب والكهولة ، تماما كمرايا الطفولة ومرايا الشباب والكهولة. يوم الخميس ، هو يوم المقابر المشهود لأهل مدينتنا ، فهو اليوم الذي يتحرك فيه الموتى من قبورهم لاستقبال الأحياء القادمين للزيارة ، ومعهم المصاحف ، والمسابح ، والأدعية ، والحزن والقهر والدموع ، ومعهم – وهذا ما يهمنا كأطفال – حسنة الصدقة من معمول وغريبة ومبسوس ، ومعهم بعض النقود المفكوكة إلى تعاريف وقروش . كنا نتوجه زرافات ، إلى المقبرة الصامتة ، الغارقة بالصمت ، لنزاول مهنة السؤال والتسول ، سؤال أهالي الموتي أن يمنحونا بعضا من الحلوى والقروش . يوم الخميس ذاك ، الذي اختفى بين غلالات زمن مهجور ، كان عيدا من أعياد الطفولة ، الطفولة التي كانت تتمنى موت المدينة لتكثر حبات المعمول والقروش . تلتهب الشمس ، تتدلى أكثر ، تشعر بالشوك ينبت في حلقك ، ووخزه يمتد من أسفل الحنجرة ، إلى سقف الحلق ، يسقط الحزن بأعماقك ، كسقوط الشلال في مصب الوجود ، تتحرك حاجتك للبكاء ، لكنك تشعر بوهن عارم في القدمين ، تسقط ككومة لحم على صخرة تتلظى غيظا وقهرا ، يسافر الوجع ليجول المقبرة ، لاما كل آلام الموت ، ليقذفه بصدرك. ترى ، لو لدغتني الأفعى ، أي مساحة من هذه الأرض ستكون حاضنة لجسدي ؟ اندفع لفح القبة مرة واحدة ، تأصل وتمكن وترسخ ، اندفعت الروح نحو مساحات الحيرة والغموض ، تجذرت ، وتلوعت النفس بخفايا ضياع موبوء بضياع ، تهاوت الأشياء ، والرؤى ، والأزمنة ، والأمكنة . أين الحراذين التي هربت نحو الموت طلبا للحماية من الحياة ؟