مع كل محطة تقييمية لمنظومة التربية والتعليم بالمغرب، يتم التركيز على التعثرات التي يعرفها تنزيل السياسات الإصلاحية. فتكون خلاصات التقييم مرتبطة بالأداء التنفيذي للفاعلين على مستوى الإدارات الإقليمية والمؤسسات التعليمية والفصول الدراسية، في وقت لا تأخذ السياسات العمومية والقرارات المركزية التي أطرت هذا الإصلاح أو ذاك حقها من المساءلة وتمحيص النجاعة والفعالية والكفاءة. اليوم يعيش المغرب دورة إصلاحية جديدة (2030/2015) تعتمد “الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم” و”القانون الإطار 51/17 المتعلق بالتعليم” مرجعا لها. وقد عرف هذان الإطاران المرجعيان اعتراض الكثير من الشركاء الاجتماعيين والفاعلين مما أفقدهما شرط التوافق والإجماع، فضلا عن غياب مشروع مجتمعي مؤسس وأجواء سياسية مدعمة، ما شكل ضعفا ابتدائيا للمرتكزات الأساسية لانطلاقة إصلاحية حقيقية وجذرية للمدرسة المغربية بدل سلسلة “الروتوشات” التقنية المتتالية. وقد بدأت مؤشرات التعثر تظهر، عبّر عن بعضها تقرير الهيئة الوطنية للتقييم التابعة للمجلس الأعلى للتربية والتكوين (2019) الذي أكد “تأخرا ملموسا في أجرأت مقتضيات الرؤية الاستراتيجية” وشكك في إمكانية تحقق أهدافها في أفق 2030. لنتجاوز الإشكالات المجتمعية والسياسية للإصلاح، ولنسائل التدابير والكيفيات التي تعتمدها الوزارة الوصية وملحقاتها لهذه الإصلاحات؛ كيف تصاغ القرارات المركزية؟ وما مدى التزامها وانسجامها مع الرؤية الاستراتيجية؟ كيف تتفاعل مع الواقع ومستلزماته وإكراهاته؟ وما هي إمكانات تحقيق الأهداف المرصودة؟ للإجابة على هذه الأسئلة سندرس حالة “مشروع إصلاح نظام التوجيه التربوي”، باعتباره أحد الأوراش التي تحظى بأولوية كبرى في الرؤية الإصلاحية، وبالنظر للرهانات الكبيرة المعلقة عليه والتي أخرجته من دائرة التهميش إلى واجهة الريادة. وسنعتمد في ذلك على النصوص الصادرة لحد الآن لمشروع “إرساء نظام مبكر وناجع ونشيط للتوجيه المدرسي والمهني والجامعي”. يتعلق الأمر بالقرار الوزاري بشأن التوجيه المدرسي والمهني والجامعي، وثلاث مذكرات وزارية تهم “إرساء العمل بالمشروع الشخصي في الثانويات” و”الارتقاء بالممارسة التربوية في مجال التوجيه” و”الأستاذ الرئيس”. إجراءات الإصلاح… أية علاقة بالرؤية؟ إن العنوان الأبرز للرؤية الاستراتيجية هو “مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء”، حيث تشير الرافعة الثالثة من هذه الرؤية إلى ضرورة “تخويل تمييز إيجابي لفائدة الأوساط القروية وشبه الحضرية، والمناطق ذات الخصاص”. وينص القانون الإطار في ديباجته على أن جوهر القانون يستند إلى ركيزتي المساواة وتكافؤ الفرص. إلا أن القرار الوزاري الخاص بتطوير منظومة التوجيه غيب هذه المقاربة الاجتماعية مهملا بذلك الرهانات الأساسية لمراجع الإصلاح. فالتقرير الصادر عن الهيئة الوطنية لتقييم منظومة التربية (2018-2015) يتحدث عن استمرار ارتفاع الهدر المدرسي، إذ عرفت نسبة انقطاع المتمدرسين في الثانوي التأهيلي ارتفاعا لتصل إلى أكثر من 60%خلال سنة 2018. أما مؤشر الإنصاف المجالي فلم يتعد 59%. والحقيقة أن مجال التوجيه التربوي معني بشكل مباشر بالمساهمة في تحقيق العدالة الاجتماعية بالمدرسة المغربية، لأن آلياته قائمة أساسا على الانتقاء والاختيار والتصنيف وغيرها من الإجراءات التي قد تضيع فيها حقوق المتعلمين وآمالهم وأهدافهم وتؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على إنصافهم، وما يمكن أن يترتب عن ذلك من هدر مدرسي وغيره. فكان الأولى أن يحظى هذا الجانب بمعالجة وافية تتناول التفاوتات المجالية والاجتماعية والنوعية وغيرها، وتأمين “الحق في التوجيه” الذي أكد عليه القرار الوزاري في مادته الثالثة، بإجراءات تصورية وعملية تحاصر كل ما من شأنه خرق الإنصاف بين أبناء المغاربة. وينص القانون الإطار في مادته السادسة على “المسؤولية المشتركة بين الدولة والأسرة وهيئات المجتمع المدني، والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، وغيرهم من الفاعلين…”، وهي إشارة إلى ضرورة تبني المقاربة التشاركية وإعطائها قيمتها في التخطيط والتنزيل والتتبع انطلاقا من مبدأ المسؤولية المشتركة. لكن وزارة التعليم لا تأخذ دائما هذه المقاربة مأخذ الجد، فالنصوص التنظيمية الخاصة بإصلاح نظام التوجيه التربوي، لم تنتج عن إشراك فعلي للمعنيين المباشرين وغير المباشرين. حيث لم يتم التشاور بشأنها لا مع الشركاء المدنيين ولا المهنيين ولا الاجتماعيين، بل تمت صياغتها بعيدا عن رأيهم في ظروف معقمة ومغلقة بعيدة عن الواقع وغير مدركة لإكراهاته، ولا للعقبات التي يمكن أن يسببها هذا الانفراد بالقرار. ومعلوم أن الكثير من المشاريع التي تمت بهذا الأسلوب كانت تصطدم بواقع لا يرتفع لينتهي بها الأمر في قائمة المشاريع الفاشلة، خاصة عندما يتم تغييب خبراء المجال الذين قضوا سنوات من التجربة العملية الميدانية والبناء الفكري والتصوري والاطلاع على التجارب الدولية بسلبياتها وإيجابياتها. ويتم بالمقابل الاكتفاء بعمل بيروقراطي يأخذ عن النظريات والمقاربات الغربية وكأنها آليات منقطعة عن بعدها الفيزيقي الذي نشأت فيه، قبل عرضها على عدد انتقائي ومحدود من الممارسين في شكل لقاءات تؤكد القاعدة وتوقع على الخيارات ليس إلا. إن أكبر إشكال يطرحه غياب المقاربة التشاركية هو تنزيل الإجراءات الجديدة دون إخضاعها للتجريب والاختبار ولدراسة فرص النجاح وتحدياته. ولم تكتف الوزارة بعدم إشراك المعنيين من داخل منظومة التعليم في مشروع إصلاح التوجيه التربوي، بل إنها لم تستفد أيضا من المجال الذي فتحته الرؤية الاستراتيجية التي أكدت على مساهمة “الجماعات المحلية والترابية والقطاع الخاص ومختلف الهيئات العامة والخاصة” وتعاونها للنهوض بالمدرسة المغربية. ولا استفادت من القانون الإطار بما هو قانون عابر للقطاعات الحكومية بالنظر للتقاطعات الوظيفية للمسألة التربوية في النسق العام للمجتمع. وهكذا فإن القرار الوزاري الخاص بالتوجيه التربوي غيب أيضا أدوار الشركاء من خارج منظومة التعليم. مما يجعلنا نتساءل هل فعلا هناك تعبئة شاملة لمختلف القطاعات للقيام بدورها في النهوض بالمنظومة التعليمية ببلادنا؟ خاصة مع مكون التوجيه التربوي باعتباره من الآليات الأساسية لربط منظومة التعليم بمحيطها حاضرا واستشرافا، وهي بذلك تحتاج بشكل مكثف إلى بناء علاقة واضحة وقوية ومستمرة مع عدة قطاعات أخرى، على رأسها القطاعات الاقتصادية والمهنية والاجتماعية والمدنية، التي من شأنها أن تغطي فراغات كبيرة في مجال التوجيه التربوي على مستوى المعلومة والتدريب والاندماج المرتبط بالمجال السوسيومهني. الشيء الذي لم نجد له تصورا واضحا في القرار الوزاري الخاص بالتوجيه التربوي. إن هذا “التشريع” غير الوفي لروح المراجع (الرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار)، يعطي الانطباع بأن إصلاح التوجيه التربوي يتم، في جزء مهم منه، خارج الزمن الإصلاحي الجاري. كما يثير أكثر من سؤال حول الارتباط التقني والتصوري المفترض بين السياسات التربوية وتوجهاتها المعلنة ورهاناتها الكبرى من جهة وبين الإجراءات العملية من جهة أخرى. ومعه استفهامات حول الكفاءات والشروط التواصلية التي ترصدها الوزارة لتأمين تقدم إيجابي في مختلف المشاريع. وهذا خلل يعمق من الاهتزازات البنيوية التي تعرفها تلك المراجع ويهيئ لنتائج بعيدة عن الانتظارات. المشروع الشخصي للتلميذ… على أي أساس؟ اعتمدت إصلاحات التوجيه التربوي الجارية على مقاربة “المشروع الشخصي للمتعلم”، واعتبرت أنها “هي السيرورة التي ينخرط فيها المتعلم من أجل تحديد هدف مهني يطمح إلى تحقيقه”. وأقرت بأنها “سيرورة ذاتية وداخلية للمتعلم، ذهنية ووجدانية ونفسية واجتماعية، مع إسقاطات مستقبلية لمساره الدراسي والمهني يعمل على عقلنتها باستمرار”. أي أنه بكل بساطة انخراط في المستقبل، وإسقاط للذات في مسار يحدده هدف، وبذلك تحضر المسؤولية الذاتية للمتعلم وقدرته على المبادرة والتوقع والتكيف (Huteau). والحقيقة أن فكرة “المشروع الشخصي للتلميذ” ليست إفرازا تربويا مغربيا، ولا هي أخذت حظها من الدراسة والمواءمة العلمية والمنهجية التي تسمح بترجمة المفاهيم بعمقها وأبعادها النفسية والاجتماعية والتربوية من مجال سوسيولوجي إلى آخر. بل تم التعامل معها كآليات سطحية، فارغة من كل روح، قابلة للاستنساخ. إلا أن المطلع على النظريات التي أطرت هذه الفكرة على مدى أكثر من أربعين سنة سيصل إلى أن الأمر أبعد من أن يحصر في بعده التقنوي التبسيطي. لذلك نجد أن بوتيني Boutinet، وهو من أكبر الخبراء الذين قضوا حياتهم في دراسة “مفهوم المشروع” في أكثر من حقل معرفي، يشدد على أن تكوين المشاريع يتطلب علاقة خاصة بالعالم المحيط، والتي لا وجود لها في جميع الثقافات، حتى لو كان لدى جميع البشر نوايا وأهداف. وهو بذلك يحيل على البعد الأنتروبولوجي للمشروع الشخصي وتأثره بالثقافات التي تترسخ في المجتمعات ويعاد إنتاجها رغم التحولات التي تعرفها. إنها إشارة بالغة الأهمية تلزمنا ببحث دقيق حول مدلول المشروع في الثقافة المغربية، والخروج بخلاصات يفترض أن نجد لها صدى في تبني مقاربة العمل بالمشروع الشخصي داخل الفضاء التربوي المغربي باعتباره امتداد للمجتمع وخلفياته الثقافية والأنتروبولوجية. الشيء الذي لم يتم. وهذا في الحقيقة يسائل الكثير من المقاربات التربوية التي يتم استنساخها مغربيا بعد فصلها عن سياقها دون بدل جهد علمي دقيق على مستوى المواءمة والتوطين، ما يضعف الإرساء لأنه يبنى على أسس تقنية وليس على أسس معرفية إبستمولوجية للنظريات المؤطرة. الإشكال الثاني الذي يطرح بخصوص إرساء مقاربة المشروع الشخصي، هو حظ التقويمات التي خضعت لها هذه المقاربة في دول أخرى، وهل هناك احترازات لتجاوزها وعدم السقوط فيها؟ يقول فيليب بيرنود Perrenoud الأستاذ بجامعة جنيف، في تقويمه لمقاربة المشروع الشخصي، إن: “فكرة المشروع الشخصي للطالب تثير مشكلة قديمة جدًا في حلة جديدة لكنها لا تحلها”. ثم يتساءل “كيف نعلم شخصًا لم يطلب أي شيء ولا يرى قيمة لهذا الجهد؟”. إنه سؤال حقيقي. عندما نضعه في السياق المغربي، وفي وسط تعليمي الراجح فيه هو ضعف الحافزية لدى المتعلمين، فإن إلزام جميع التلاميذ بوضع مشروع شخصي مع ما يحيط به من غلاف زمني وتتبع ومواكبة/مراقبة، يعني أننا لم نفكر في التمثلات التي يختزنها التلاميذ حول الزمن الدراسي، حيث سينظر إلى كل ذلك كعبء ينضاف إلى أعباء أخرى لا غير. وهذا دليل آخر على أن الابتعاد عن الواقع والتنظير الفوقي لا يساهم في غرس المشروع بعمق وثبات في الأرضية التربوية. فلا يتوقع أحد، ممن يعمل في الميدان ويدرك ديناميكياته البسيكولوجية والسوسيولوجية، التجاوب التلقائي أو الشغف في تعاطي التلاميذ مع أمر يعد فيه الشغف والحافزية عاملان حاسمان. مييريو Meirieu يؤكد في دراساته حول العمل بهذه المقاربة سببا آخر لعزوف الشباب عن إنجاز مشاريعهم الشخصية. فهو يعتبر أنه إذا “كان لدى الجميع مشروع شخصي لتعلمه، فلا يعني هذا أنه سيتم إنجاز جميع المشاريع”. وهذا ينتج مقاومة ورفضا، ذلك أن التلميذ “يرفض الجهد، ويخاف من الفشل، خاصة الذي يأتي بعد التعلق بالآمال”، “فالرغبة ليست سوى شرطا لكنه ضروري بل حاسم”. والنتائج التي وقف عليها الباحثون هي “أن انخراط المتعلم في سيرورة المشروع لا يكون قويا وثابتا إلا إذا تمت الموازنة بين مبدأ اللذة وإغراء الفرار من المواجهة بمعرفة جديدة، خاصة عندما يقاوم الاستيعاب بسهولة”. نحن إذن أمام جهد ينبغي أن يبدل من أجل إرساء مقاربة المشروع الشخصي في السياق المغربي، جهد بالتأكيد ليس تقنيا، أو على الأقل لا يبدأ تقنيا. وإنما هو تدقيق معرفي بحثي قفز عليه النظام الجديد للتوجيه واختزلت المقاربة في عمليات جد سطحية. صحيح أن مفهوم “المشروع الشخصي” أصبح العملة الأكثر تداولا في عدة مجالات وعلى رأسها المجال التربوي، لكن هذا لا يبرر تجاوز المصادر التي يتغذى منها، خاصة البعد السيكولوجي الذي يمتح من التيار الإنساني للسلوك، كما يعبر عن ذلك جوزيف نيتان Nutin، وخاصة في كتابه “نظريات الدافعية الإنسانية” الذي يلخص المثلث المفاهيمي “الحاجة الدافعية المشروع” التي اعتمدها بلوتيي Pelletier في تحديد سيكولوجية المشروع ومناهج بنائه في بنيات التوجيه التربوي. هذا على مستوى البناء المعرفي لمشروع “إرساء مقاربة المشروع الشخصي”. أما على المستوى الإجرائي العملي، فالمشروع الشخصي لن يكون رحلة ممتعة للتلميذ ولا لمؤطريه، فهو جهد إضافي قد يتعرض للرفض والعزوف. خاصة أمام التنزيل المتسرع لفاعل جديد باسم “الأستاذ الرئيس”، في استنساخ آخر دون سابق إعداد وتأهيل ودراسة، رغم ما تعرفه المؤسسات التعليمية من شح في الموارد البشرية. فضلا عن ارتفاع المعدل التأطيري لأطر التوجيه التربوي. العائق الإجرائي الثاني هو عائق المعلومة خاصة ما يتعلق بسوق الشغل والمهن وبناء الحس المقاولاتي، فالمادة 11 من القرار الوزاري تؤكد على “ضرورة التعرف أكثر على مقومات الاقتصاد الوطني وآفاق الشغل الواعدة”، والمادة 16 تتحدث عن “توفير المعلومات الضرورية حول المهن والحياة المهنية” وهي عبارة ليست جديدة فقد ذكرت في الميثاق الوطني للتربية والتكوين وفي المخطط الاستعجالي، لكنها لم تلق طريقا للتجسيد لأن المعلومة الدقيقة والناجعة في بناء مشروع شخصي محكم لا يمكن أن يحصلها أطر التربية، بل هي وثائق وبيانات تصدرها الوزارات المعنية. فهل يوجد لدى هذه الوزارات نية لذلك أم ستظل المشاريع الشخصية تبنى على المعلومات المحصلة من المعرفة العامية بسوق الشغل؟؟ أما المادة 10 فتتحدث عن “إرساء تدريب استكشافي لوسط مهني خلال الدورة الأولى لفائدة المتعلمين بالسنة الثالثة من التعليم الإعدادي”، هل يبدو هذا ممكنا!!! في ظل إكراهات النسيج المقاولاتي بالمغرب. وكيف يمكن تأمين تدريب ميداني لعشرات الآلاف من تلاميذ الثالثة إعدادي إذا كان طلبة الجامعات والمعاهد العليا ومراكز التكوين المهني لا يجدون مجالا لتداريبهم وهي جزء من تكوينهم؟ أمام هذا الفقر المعرفي والتعثرات الميدانية يُخشى أن تتحول “مقاربة المشروع الشخصي” إلى حصص لتلقين مهارات إعداد المشروع دون إنجازه، تماما كمن يتعلم قواعد لعبة الكرة الطائرة لكنه لن يلعبها أبدا، إما لأنه لا يريدها أو لأن الكرة غير متوفرة. فمن سيتحمل مسؤولية ذلك؟ السياسات التربوية أم الإجراءات التنزيلية أم أطر التنفيذ المحلي؟ الموارد البشرية… أزمة حافزية وإنصاف مهني لا يمكن أن يختلف اثنان على الدور الحاسم للموارد البشرية والكفاءات المهنية في إنجاح وتنزيل أي مشروع أو إصلاح. فهي تشكل الفاعل المباشر والحلقة الفعلية، الشيء الذي يتطلب إرادة وتحفيزا وإبداعا لتجاوز الإشكالات والعوائق وتحقيق مردودية أكبر. لذلك فقد شغل موضوع تحفيز الأفراد الكثير من الباحثين حيث بدأت تتبلور عدة نظريات للحوافز منذ بداية القرن العشرين. من أهمها النظرية الكلاسيكية لفريديريك تايلور التي ترتكز أساسا على الأجر المادي؛ فكلما ارتفع هذا الأجر كلما زادت حافزية العامل. ثم نظرية الحاجات الإنسانية التي أسسها أبراهام ماسلو وتعتمد على الاستجابة للحاجات والدوافع الكامنة في ذات الفرد حيث أن الدوافع غير المشبعة هي التي تؤثر على سلوك الفرد وإنتاجيته. ثم نظرية الحاجة للإنجاز التي تؤكد أن الموقع الاعتباري يكسب الفرد دافعية ذاتية للإنجاز. ثم نظرية التوقع لفيكتور فروم والتي ترى أن ترقب الإشباع الداخلي وتوقعه يعتبر عاملا أساسيا في حفز الفرد على العمل ورفع إنتاجيته. السؤال الذي يطرح، هل تعمل الوزارة على مراعاة شرط الحافزية والإنصاف لدى مواردها البشرية أم أن هذا الأمر غير وارد في برامجها الإصلاحية؟؟ وبشكل خاص ما هي درجة الحافزية والإحساس بالإنصاف المهني التي يوجد عليها أطر التوجيه التربوي المفترض أن ينخرطوا بقوة ودافعية في تنزيل مخطط إرساء النظام الجديد للتوجيه وتجاوز إكراهاته؟ إن الشعور السائد وسط مستشاري التوجيه التربوي هو أنهم الفئة الأكثر تضررا وتهميشا بين مختلف الفئات التربوية الأخرى. فرغم سلسلة من الإضرابات والوقفات الاحتجاجية لم تبادر الوزارة لوضع ملفهم المطلبي على طاولة التداول مع الشركاء الاجتماعيين الذين يتبنوا قضيتهم. مطلبهم الأهم هو توحيد إطاري هيئتهم (مستشار في التوجيه / مفتش في التوجيه) في إطار واحد هو “مفتش في التوجيه التربوي”. فأكبر ضرر يستشعره هؤلاء الأطر يبدأ في لحظة تخرجهم من مركز التوجيه والتخطيط التربوي حيث يحرمون من التخرج بإطار مفتش في التوجيه. ويعتبرون ذلك ظلما وإخلالا بمبدأ المساواة في المسارات المهنية. ويتساءلون؛ كيف يمكن لأساتذة التعليم الابتدائي والثانوي التأهيلي أن يتخرجوا مفتشين بعد سنتين من التكوين بمركز التفتيش، في حين أن أساتذة التعليم الإعدادي لا يسمح لهم بالتخرج بنفس الإطار بعد سنتين من التكوين في مركز التوجيه والتخطيط التربوي؟؟ حيث يفرض القانون أن يجتازوا مباراة ثانية وتكوينا آخر لمدة سنتين إضافيتين ليحضوا بإطار مفتش، وليستفيدوا من تعويضات مماثلة وأداء أدوار اعتبارية داخل المنظومة تتلاءم مع تكوينهم المتميز. بل حتى قاعدة تغيير إطارهم إلى مفتش بعد مرور عشر سنوات من التخرج من مركز التكوين والتي كان معمولا بها، قد تم إلغاؤها من النظام الأساسي منذ 2003، في حين مازالت فئات أخرى تستفيد منها. فيسود شعور بأن وزارة التربية تعاقبهم على سنوات التكوين التي قضوها في مركز التوجيه والتخطيط التربوي بدل أن يشكل ذلك قيمة مضافة للتشجيع والاعتراف والاعتبار، وتقوي تعويضات إطار مستشار في التوجيه هذا الشعور حيث أنها لا تتعدى 230 درهم في حين قد تصل عند فئة أخرى إلى 1500 درهم. ثم هناك سؤال يطرحه هؤلاء الأطر؛ هل تحتاج منظومة التوجيه التربوي إلى ازدواجية: مفتش ومستشار، في حين أن المفتش في التوجيه كفيل بأداء مهام الاستشارة والتأطير والمساهمة في تنزيل المشاريع التربوية وتتبعها، من خلال فرق عمل يشرف عليها منسقون محليون وجهويون كما هو معمول به في عدة منظومات تربوية دولية. عدم الحاجة لهذه الازدواجية ظهرت بشكل جلي من خلال تداخل الأدوار التي وزعها القرار الوزاري الجديد بين إطاري الهيئة، حيث يبدو أنها تتكرر بينهما بصيغتي “التأطير” و”تقديم الدعم التقني”. فمن مهام مستشار التوجيه تقديم الاستشارة والدعم التقني لكافة المتدخلين في عملية التوجيه من إدارة تربوية وأساتذة رئيسيين، وتنسيق أعمالهم مع أنشطة المساهمين من خارج المؤسسة، فضلا عن تقديم الاستشارة للتلاميذ ومواكبتهم. فماذا بقي لمفتشي التوجيه أن يؤطروا، أليست المهام الموكولة لمستشاري التوجيه من تنسيق وتقديم الاستشارة والدعم التقني هي عمق التأطير والمواكبة؟ يبدو أن القرار الوزاري بهذا التوزيع الاعتباطي للأدوار أراد تدبير أزمة الازدواجية الحاصلة بدل حلها من جذورها بتوحيد الإطارين بما يوفر أجواء عمل أكثر إيجابية، ويعطي حافزية في بعدها المادي (تايلور) والاعتباري (ماسلو) في ذات الوقت. وضع آخر يعكر الأجواء وسط هذه الفئة وهو ارتفاع معدل التأطير في صفوف التلاميذ. ذلك أن المذكرة 22 التي تنظم العمل بالقطاعات المدرسية، والتي افتقدت للواقعية والإشراك حسب أطر التوجيه، فرضت عليهم تأطير جميع التلاميذ في جميع المؤسسات التعليمية داخل المديريات الإقليمية، فارتفع عدد التلاميذ المؤطَّرين ليتجاوز ببعض المديريات 4000 تلميذ لإطار التوجيه الواحد في عدد من الثانويات التي قد تتجاوز الخمسة وتكون مترامية المسافات. فعدد هام منهم يتنقلون لعشرات الكيلومترات بسياراتهم الخاصة لتغطية المؤسسات الموجودة في المناطق النائية بخدمات التوجيه التربوي، وهي التنقلات التي تحفها الكثير من المخاطر والمصاريف التي يتحملها إطار التوجيه دون اعتراف ولا تعويض. لذلك فإن مزيدا من الإثقال بمهام جديدة كتلك التي جاءت بها الإجراءات الإصلاحية يعني مزيدا من التذمر وعدم الارتياح. خاصة إذا استحضرنا مهام أخرى تتجلى في مساهمة هؤلاء الأطر في تنزيل برامج مصلحة تأطير المؤسسات التعليمية وبعض مشاريع مصلحة الشؤون التربوية ومصلحة الامتحانات وغيرها. ويتساءل أطر التوجيه في تعليقهم على المهام التي أضافتها لهم الإجراءات الجديدة؛ كيف يمكن لإطار توجيه أن يؤطر 60 قسما، وكيف يقدم الاستشارة ل 60 أستاذ رئيس؟؟ وهي أرقام نسبية قابلة للارتفاع من إقليم إلى آخر. وإن كانت الوزارة تعد برفع عدد أطر التوجيه من خلال تكوين 100 إطار جديد سنويا لتغطية الخصاص المهول، فإنها تغفل نسبة التقاعد المتزايدة في صفوفهم والتي قد لا يعوض هذا العدد المضاف إلا الشيء القليل منها. مما يطرح معه سؤال: هل أنجز واضعو النظام الجديد للتوجيه دراسة ميدانية للوقوف على هذا الوضع؟ أم أنهم انطلقوا من تمثلات شخصية أو تصورات تمتح من الحس المشترك العامي حول واقع يغلي ويعيش ظلما وإحساسا بعدم الإنصاف؟ فكيف ستكون درجة انخراطه وفاعليته وإبداعه لإنجاح هذا الورش الكبير برهاناته السامية؟ وأين مشاريع الوزارة من مختلف النظريات المؤطرة لحافزية الفاعل سواء على المستوى المادي أو الاعتباري أو فتح الأفق من أجل ترقب واقع أفضل؟ من أجل أفق أفضل: إن الوضع الذي وصلت إليه منظومة التربية والتعليم لم يعد يحتمل الارتجال أو الإهمال، فالناظر لمآلات الإخفاق على مختلف القطاعات المجتمعية يدرك أن المغرب مفتوح على سيناريوهات صعبة تتطلب جدية أكبر في إعداد مشاريع الإصلاح ونضجا وتطورا يوازي تطور المجتمع. لذلك أجدني أردد مع محمد السوالي في كتابه “السياسات التربوية الأسس والتدبير” أن “زمن الإصلاحات الكبرى والبراقة للنظام التربوي والمفروضة من قبل السلطات العليا في الدولة قد ولى، وصار في طي الماضي، حيث تتطور، بالأحرى ابتكارات محدودة يتلوها بعد ذلك توسيع أو تعميم. وتقتضي، بالضرورة، إعادة التنظيم هاته، مجموعة من التقويمات قبل وبعد إنجازها، متبعة بذلك المسار الكلاسيكي المعروف: التجريب والتقويم ثم التعميم”. إنها دعوة واضحة للواقعية ولبناء المشاريع من الممارسة التحتية التي تستدمج الواقع في وجودها وشهودها، وتنمو معه وبه في سيرورة تقويمية تطوره وتهيء له شروط النجاح خطوة خطوة. وهذا يعاكس منظور التلقين الفوقي المنفصل عن القواعد. أمام الوزارة عشرية أخرى للتدارك، يجب أن تبادر عاجلا لتغيير عقلية إملاء المشاريع المستنسخة وتجدد ثقتها في ذاتها وفي أطرها لتطور بالمقابل آليات للبناء المشترك. وهذا ينبغي أن يؤسس له على مستويات أكبر حيث ينتظر ترسيخ قيم الديمقراطية التشاركية بدل سلطة الاستفراد. * باحث في علم الاجتماع التربوي