في خطابه السابع والعشرين في أقل من سبعة شهور، خرج الجنرال قايد صالح ليعلن حالة الحصار على العاصمة الجزائرية. فقد أصدر أوامره يوم الأربعاء 18 سبتمبر على التلفزيون مباشرة لقوات الدرك الجزائرية بمنع أي مَركبة تنقل المواطنين إلى العاصمة، في محاولة لثنيهم عن المشاركة في الجمعة الواحدة والثلاثين من الحِراك الشعبي المُطالب بتغيير نظام الحكم العسكري. وبهذه الخطوة أثبت الجنرال ذو الثمانين حولاً أنّه الحاكم الفعلي للجزائر رغم كلّ المراوغات السياسية والذرائع الدستورية التي لم تنْطلِ على ذكاء الشعب الجزائري. فقرار منع التنقل إلى العاصمة خَرقٌ واضحٌ للدستور الذي دائماً ما يختبئ وراءه الجنرال، ويتحجج به لقطع الطريق على أي مقترح جاد للخروج من المأزق الحالي الذي تعيشه الجزائر. فعندما طالب الحراك الشعبي بمجلس تأسيسي للإشراف على الانتقال الديمقراطي، أشهر الجنرال ورقة الدستور والتخويف من الفراغ المؤسساتي. وفي المقابل حين مدّد الجنرال للرئيس الانتقالي بن صالح، لم يُراع الدستور الذي حدد مُدة انتداب الرئيس الانتقالي في تسعين يوما كأجل أقصى، وقد انتهت في التاسع من يوليو الماضي؛ وهذا يعني أنّ النظام الحالي فاقد للشرعية ويشتغل خارج المَتن الدستوري. وعندما أُقيل وزير العدل في يوليو الماضي لم يُحترم الدستور الذي يمنع في المادة 104 أي تغيير حكومي أثناء الفترة الانتقالية. ونفس الشيء يُقال عن التعيين الذي تم خارج النص الدستوري للهيئة المُشرفة على الانتخابات؛ كما ينطبق كذلك على الخطابات الأسبوعية الموجهة للجزائريين دون أن تكون “للقايد” العسكري أية صفة دستورية تُخوله ذلك؛ فمخاطبة الشعب من صلاحيات الرئيس وإن كان الجميع يعلم أنّ السيد بن صالح مُجرد ديكور؛ واحترام الدستور ولو شكلياً كان يقتضي أن يتم تمرير “الأوامر” العسكرية والقرارات التي يتخذها الجنرالات على لسان الرئيس الصُّوري وليس على لسان قائد الجيش؛ ولكنهم لم يفعلوا ذلك إمّا بسبب عقلية “الثكنات”، أو احتقاراً للشعب الجزائري وحِراكه، أو استهزاءً بالدستور والقوانين عموماً، فالقانون الوحيد الذي يحترمه العسكر هو ميزان القُوة والسلاح. رُبّما لم يَبْلغ إلى عِلم الجنرال وسَمعه أن الدستور يكفل لكل المواطنين حُرية التنقل داخل التراب الجزائري؛ وحتى في الحالات الخاصّة التي قيّد فيها المُشرع حرية التنقل، فإنه جعل السلطة القضائية هي صاحبة الاختصاص في اتخاذ القرار، وألزمها بتعليله وتحديد مُدته كما تُنصص عليه المادة 55 من الدستور. فهل استحوذ الجنرال على السلطة القضائية هي الأخرى بعد استلائه على السلطة التنفيذية؟ أم أنّه تجاهلها لعلمه بعدم استقلالية القضاء وتبعيته للجيش؟ وأياً يكن الأمر، فإنّ العَفْس على الدستور والقانون لم يقتصر على هذه الجوانب، بل امتدّ إلى اعتقالات بالجملة في صفوف السياسيين ونشطاء الحراك والحقوقيين والصحافيين. ولعل أبرز هؤلاء هما السيدة لويزة حنون، زعيمة حزب العمال، والسيد كريم تابو، أيقونة الحراك وأحد قادة جبهة القوى الاشتراكية وأمينها العام السابق. فالأولى تَقبع في السجن دون حكم قضائي لأزيد من أربعة أشهر، مع أنّ الدستور حدّد في مادته الستين فترة الاعتقال الاحتياطي في ثمانٍ وأربعين ساعة، أمّا الثاني فقد تم اعتقاله منذ الحادي عشر من سبتمبر لسبب سوريالي مضحك ومبك في آن واحد، وهو إضعاف معنويات الجيش. جيش أنهك ميزانية شعبه في سباق جنوني للتسلح، ويستورد نصف ما تستورده كل جيوش القارة الإفريقية مجتمعة، ويُنفق مئات المليارات من الدولارات لاقتناء صواريخ S400 وطائرات “سوخوي” وغواصات الجيل الرابع؛ ورغم كل هذا العتاد والعدة استطاع كريم تابو الأعزل من كل سلاح أن يؤثر على معنوياته ! تهمة لا يمكن تصديقها إلاً إذا سلمنا بأنّ السيد تابو هو سوبر-مان آخر الزمان. ولعلّ هذه القوة الخارقة للسيد تابو هي ما يفسر الانتهاك القانوني الآخر من طرف “القايد” العسكري الذي ضرب المادة 52 من الدستور عرضَ الحائط حين منعه من ممارسة حقه في تأسيس حزب جديد اختار له اسم “الاتحاد الديمقراطي الاجتماعي”. إنّ ما قام به الجنرالات من تَعطيلٍ للقوانين ومُصادرة للحريات وتأميم للصحافة الحرّة، ومُلاحقة للنّشطاء وحملة للاعتقالات له تفسير واحد، هو فقدان الجنرالات لأعصابهم، وارتباكهم وعجزهم عن مُجاراة التّحولات المُتسارعة من حولهم. وهذا قد يدفعهم إلى إعلان حالة الاستثناء وتطبيق الأحكام العُرفية التي قد يُغلّفونها مرّة أخرى بالمادة 105 من الدستور. وإذا أقدمت “العصابات” كما يُسمّيها الشعب الجزائري على هذه الخطيئة، فإنّ الحِراك سيكون قد نجح في إخراج العسكر من مَخدعه، وإزالة القناع “المدني” عن وجه النظام الذي حكم البلاد بِقبضة من حديد لأزيد من نصف قرن. وتلك خطوة كبرى نحو التحرّر من الطّغمة العسكرية، وتحقيق شعار الحراك: الشعب يُريد الاستقلال..